في الحادي عشر من أبريل 2019، أصدرت القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية بيانًا أعلنت خلاله عزل الرئيس "عمر البشير"، وتعطيل العمل بالدستور، وحل الحكومة والبرلمان، وتشكيل لجنة أمنية لإدارة البلاد، لفترة انتقالية لمدة عامين، يتم خلالها تهيئة البلاد للانتقال نحو نظام سياسي جديد. لكن تجمع المهنيين رفض البيان قطعيًّا، داعيًا الجماهير للاستمرار في الاعتصام، حتى تستجيب اللجنة لمطالبهم، وهو ما يثير تساؤلًا محوريًّا حول المالآت المستقبلية للنظام السوداني بعد عزل "البشير".
عزل "البشير":
اندلعت الاحتجاجات بالسودان في التاسع عشر من ديسمبر الماضي، تحت وطأة التردي الاقتصادي، حيث طالب المحتجون بدايةً بتحسين أحوالهم المعيشية، ثم ارتفع سقف مطالبهم إلى الإطاحة بـ"البشير" ونظامه. ومع تشبث "البشير" بالسلطة، وعجز نظامه عن الوفاء بمطالب الشعب، تم تطوير أسلوب الاحتجاج، بالانتقال من التظاهرات إلى الاعتصام المفتوح أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، خاصة بعد الدفعة المعنوية الهائلة التي تلقّاها المحتجون إثر نجاح الاحتجاجات بالجزائر في إرغام الرئيس "عبدالعزيز بوتفليقة" على تأجيل الانتخابات، وعدم الترشح لولاية رئاسية خامسة، ثم الاستقالة.
بدأ الاعتصام بالخرطوم في السادس من أبريل، بالتزامن مع ذكرى التحرك لإسقاط الرئيس الأسبق "جعفر نميري" عام 1985. وقد بدا الانقسام واضحًا داخل أجهزة النظام بشأن أنسب الأساليب للتعامل مع الاعتصام، بين من يؤيد فضه بالقوة المسلحة، ومن يرى ضرورة الاستماع إلى المحتجين، باعتبارهم فئة من الشعب ذات مطالب مشروعة.
ومع تواتر الأنباء بشأن إعداد النظام لفض الاعتصام بالقوة، من خلال ميليشياته الأمنية، ورفض القيادات الوسطى للقوات المسلحة لذلك المخطط؛ اضطر النظام إلى تسليم السلطة إلى مجلس عسكري لتسيير شئون البلاد، حيث تم الإعلان عن عزل "البشير" واعتقاله، وتسليم السلطة إلى "لجنة أمنية عليا"، لإدارة عملية الانتقال السياسي.
ولم يكن بيان اللجنة الأمنية مرضياً للمتظاهرين حيث أكد تجمع المهنيين أن ثورته تتضمن برنامجًا متكاملًا لإسقاط مشروع الإنقاذ برمته، ولا تقتصر على إنهاء حكم البشير فقط بما يضمن له خروجًا آمنًا من السلطة، ويعفيه من المحاكمة بالداخل بشأن قضايا الفساد وانتهاك حقوق الإنسان، ويقطع الطريق على المطالبات بتسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية.
استمرار الاحتجاجات:
رأي بعض المحتجين أن اللجنة الأمنية آليةً ابتكرها النظام للالتفاف حول مطالب الشعب، وقمع الاحتجاجات وإعادة إنتاج نظام الإنقاذ، وذلك على نحو مشابهٍ لما حدث بالسودان في أكتوبر 1964 وأبريل 1985، عندما تم إعادة إنتاج نفس النظم الذي احتج الشعب ضده، ولكن بوجوه جديدة.
وقد أكد تجمع المهنيين أن هناك أسبابًا لمخاوفه. أهمها أن البيان الخاص بعزل "البشير" وآليات إدارة الفترة الانتقالية لم تسبقه أي مشاورات سياسية أو تنسيق مع قادات التجمع أو الأحزاب السياسية قبل إصداره. وأن إدارة العملية الانتقالية أُسندت إلى "لجنة أمنية" ذات صبغة سياسية، حيث تضم عناصر موالية تمامًا للنظام من القوات المسلحة وجهاز الاستخبارات والشرطة وقوات الدعم السريع.
يضاف إلى هذا أن رئيس اللجنة، وهو الفريق أول "عوض بن عوف"، كان يتولى بالأمس القريب منصب وزير الدفاع والنائب الأول للرئيس "البشير". وهو أيضًا من ضمن هؤلاء القادة الذين يشملهم قرار التوقيف الصادر عن المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما يعني استمرار عزلة البلاد، وتقييد حرية الحركة لأولئك الذين يتولون إدارة شئونها، ويزيد من احتمالات الصدام بين المحكمة الجنائية الدولية واللجنة الأمنية، نتيجة رفضها المتوقع للاستجابة إلى مطالب المحكمة بتسليم "البشير".
وإضافة إلى ذلك، فقد تضمن بيان اللجنة إجراءات من شأنها تقييد حرية التجمع خلال الفترة الانتقالية، وذلك بفرض حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، وفرض حظر التجوال أيضًا. كما أنها لم تتحدث عن أي محاكمات للبشير وأعوانه، أو اتخاذ إجراءات للعدالة الانتقالية للقصاص لشهداء الثورة، ومحاربة الفساد.
ويرى تجمع المهنيين أن تحديد الفترة الانتقالية بعامين فقط لا يمنح الفرصة للقوى الثورية لكي تؤهل نفسها لخوض غمار العمل السياسي، في حين أنه يمنح فلول نظام الإنقاذ والأحزاب السياسية التقليدية الكثير من المميزات النسبية التي تؤهلهم لحصاد نصيب الأسد من المقاعد البرلمانية والمناصب الوزارية خلال المرحلة المقبلة، نظرًا لما يملكونه من خبرات تنظيمية وقواعد جماهيرية.
لكل ذلك يتحسب تجمع المهنيين من قيام اللجنة الأمنية بالتحالف مع الأحزاب السياسية التقليدية، خاصةً حزب الأمة والحزب الاتحادي، مع تهميش باقي القوي الاحتجاجية، وهو أمر وارد بالنظر إلى أن تلك الأحزاب فقدت منذ أمد بعيد اتصالها بالجماهير، وظلت طوال أغلب عهد الإنقاذ تضع قدمًا في مربع المعارضة وأخرى في مواقع السلطة، وأنها لا تنظر إلا لمصالحها الضيقة على حساب مصالح الشعب السوداني. وهو ما قد يؤدي إلى تحول طبيعة الصراع بالسودان، من الصراع ضد نظام الإنقاذ وفلوله إلى الصراع بين القوى الاحتجاجية ذاتها، بحثًا عن المكاسب السياسية الضيقة، على نحو ما حدث في حالتي ليبيا واليمن.
وفي ظل المعطيات سالفة الذكر، أكد تجمع المهنيين استمرار الاعتصام أمام القيادة العامة للقوات المسلحة. ودعا الجماهير في كافة ربوع البلاد إلى الانضمام للاعتصام وعدم مغادرة الميادين، حتى تتحقق كافة المطالب الثورية، وهو ما لقي استجابةً واسعة من جانب المواطنين. وكانت البداية هي تحدي حظر التجوال.
شخصية توافقية:
حدد تجمع المهنيين مطالبه، استنادًا إلى ما ورد في ميثاق "الحرية والتغيير" الذي وقّعته القوى الثورية في يناير الماضي، وذلك بالإبقاء على القوات المسلحة كضامن لعملية الانتقال السياسي وليست كحاكم للبلاد، وقصر مهامها على الحفاظ على السلامة الإقليمية للسودان، وتنحي رئيس اللجنة "عوض بن عوف"، وإسناد رئاستها إلى شخصية توافقية، تتمتع بالنزاهة والكفاءة، وتشكيل حكومة كفاءات وطنية من الشخصيات العامة غير الموالية لنظام الإنقاذ، والتوافق بشأن المعايير العامة لتحديد شكل الدولة، وهويتها، وصياغة الدستور، وإجراء الانتخابات، وزيادة مدة الفترة الانتقالية إلى أربعة أعوام، وذلك لإتاحة الفرصة للثوار، خاصة الشباب للمشاركة الفاعلة في إدارة المرحلة الانتقالية.
وأمام هذا الزخم الثوري، وفي ظل تمسك المحتجين بالاعتصام، والخوف من الانتقال إلى أسلوب العصيان المدني الشامل، تصدعت اللجنة الأمنية، فاضطر قائد قوات الدعم السريع "محمد حمدان" إلى الاستقالة من عضويتها، داعيًا إلى التفاوض مع المعتصمين، قبل أن يُضطر رئيس اللجنة "عوض بن عوف" إلى التنحي، مع قبول استقالة نائبه الفريق أول "كمال عبدالمعروف"، وإسناد رئاسة اللجنة إلى الفريق أول "عبدالفتاح البرهان"، المفتش العام للقوات المسلحة، والقائد السابق للقوات البرية.
ولقي ذلك ترحيبًا حذرًا من المحتجين، حيث يتمتع "برهان" بالقبول من جانب أغلب قادة القوات المسلحة والقوى الاحتجاجية. كما أنه ليس من المطلوبين للتوقيف أمام المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما يمنح القائد الجديد الفرصة للتواصل مع القوى السياسية بالداخل ومع المجتمع الدولي أيضًا. لكن هذا التطور لم يدفع المحتجين إلى فض اعتصامهم، انتظارًا لما سوف يطرحه "البرهان" من مبادرات وحلول للأزمة السياسية بالبلاد.
وختامًا، فإن تمسك القوي الاحتجاجية بالعمل من أجل السودان (الدولة، والوطن، والشعب)، وعدم الانجراف وراء المصالح الحزبية أو الإقليمية أو الإثنية الضيقة، يمثل الضمانة الحقيقية لتحقيق مطالب الشعب بالحرية والسلام والعدالة. وهو أمر بالغ الأهمية، قياسًا بحجم التحديات الكبير المتوقع أن يواجهه المحتجين في الفترة المقبلة.