لم يكن هناك خلاف بين الدول العربية في قمة تونس على القضيتين الرئيستين، الجولان والقدس، وكلاهما أسهم قراران للرئيس الأميركي في تعقيدهما ودفعهما في مسارات خطيرة بالمنظور المستقبلي للسلام والاستقرار في الشرق الأوسط، إذ لا يمكن إسرائيل أن تطمئن إلى «سلام» وهي تُخضع رمزية مدينة القدس لمستوطنيها وعساكرها ولا تبدي أي أهلية حضارية حقيقية للإشراف على مقدسات غير يهودية، بل تتحدّى وجدان العرب ومشاعر المسلمين كما المسيحيين. وفي الوقت نفسه لا يمكن إسرائيل أن تدّعي مساهمة في استقرار إقليمي ما، فيما هي تعمل على تكريس احتلالها لمنطقة الجولان وبالتالي تعديل الحدود مع سوريا، بالاستناد فقط إلى «أمر تنفيذي» يصدره رئيس أميركي يعتنق الانحياز لإسرائيل كإيديولوجيا سياسية ووسيلة لتبادل الخدمات الانتخابية.
كان السؤال في القمة أيّ موقف «عملي»، عدا الموقف المبدئي، يمكن العرب أن يتبنّوه نصرةً للقدس ودحضاً للتلاعب بوضع الجولان. غداة اعتراف دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، في التاسع من ديسمبر 2017، شكّل وزراء الخارجية العرب في اجتماع طارئ في القاهرة «لجنة متابعة» للاتصال بحكومات العالم، ولم يدم نشاط هذه اللجنة طويلاً. تبيّن أن مواقف كل العواصم مطابقة للموقف العربي، وهو الرفض التام للقرار وللعمل بموجبه، بل كان التطابق في الموقفين الدولي والعربي سابقاً للقرار نفسه لأن العديد من رؤساء الدول حاولوا مسبقاً إقناع ترامب بعدم الإقدام على خطوة «مؤذية» ولا فائدة منها، بل يمكن أن تثير توتّرات جديدة. ثم استمرّ التطابق بعد القرار في كون العرب والأوروبيين والروس وغيرهم لا يريدون ولا يستطيعون الذهاب بعيداً في مخاصمة أميركا. ولذلك جرى الاستماع في مجلس الأمن الدولي كما في الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية للدعوة الفلسطينية إلى «مؤتمر دولي» من دون تبنيها، فالجميع يعرف أن الدور الأميركي لم يعد وسيطاً نزيهاً إلا أن أحداً لا يريد أن يتورّط في البحث عن بديل من هذا الدور.
كان من الطبيعي أن ترتسم الصعوبات نفسها في مقاربة قمة تونس لمسألة الجولان: يمكن اتخاذ مواقف الرفض لقرار ترامب، ويتعذّر الاتفاق على موقف «عملي» ضدّ الولايات المتحدة حتى لو توفّرت رغبة ضمنية قوية في التلويح بإجراءات معيّنة. هل يعني ذلك أن قرار ترامب سيحقّق هدفه؟ هذا يتوقّف على الغلبة ولمن تكون: للشرعية الدولية أم لـ «الشرعية الأميركية». هناك وقائع كثيرة في السياسة الدولية وفي نزاعات عديدة عانت وتعاني من تداخل هاتين الشرعيّتين أو من تصارعهما أو تعطيل إحداهما الأخرى. ما يصنع الفارق في هذه الحال هو الوقائع التي تفرض على الأرض بهدف تغيير «الحقائق» والواقع وحراسة ذلك بالقوة والتفوق العسكري إلى ما لا نهاية، وهذا ما تراهن عليه إسرائيل وواشنطن، لكنهما تدركان أن خمسين عاماً من الاحتلال والقمع لم تغيّر انتماء أهل الجولان، كذلك لم تغيّر هوية القدس، وهذان فارقان يعوّلان على القانون الدولي وخصوصاً على إرادة السكان والحقيقة الحضارية التاريخية اللتين لا تفلح القوة العسكرية في تغييرهما.
لا شك في أن الاستغلال الأميركي - الإسرائيلي للتحوّلات العربية وعدم تماسك «النظام العربي الرسمي» هو ما سهّل الاعتقاد بإمكان التصرّف بوضعي القدس والجولان وربما الضفة الغربية لاحقاً، وفقاً لـ «صفقة القرن» كما يعتقد كثيرون، لكن المؤكّد أن لا أميركا ولا إسرائيل تعملان من أجل سلام دائم في المنطقة، وهذا ما ينبغي أن يكون محور التفكير العربي، إذ لا مصلحة عربية إلا في ظل استقرار ثابت. لكن هذا الاستقرار بات مهدّداً من الداخل قبل الخارج، ولذلك ربما يجدر السعي إليه بتوجّهين مستقبليين حتميين: أولاً، إعادة إنهاض الدولة حيثما تعرّضت للإضعاف والتفكيك، وتعزيز وجودها وسلطتها على أساس إصلاحات حقيقية تعالج الاختلالات التي انتابت الشأن الوطني واستطراداً القومي. وثانياً، تفعيل مسارات تنموية داخلية قائمة على متطلبات الشعوب والمجتمعات، وعدم رهنها بتطورات النزاعات الإقليمية التي باتت مرتبطة بتدخّلات خارجية متفاوتة الأهداف والمطامع... وقد حان الوقت لتحديد نقطة انطلاق جديدة ربما اختصرها أحد الوزراء العرب بأن تلبية تطلعات الأجيال الشبابية تتطلّب تحقيق نسبة نمو اقتصادي لا تقلّ عن 6 في المئة في أنها حالياً أقل من 3 في المئة. ذاك أن استمرار إهمال هذا الاستحقاق التنموي الملحّ واستمرار العجز عن مواجهة التحديات الدولية في القضايا الكبرى يشكلان وصفة غير مجدية إلا في تعميم اليأس والإحباط.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد