تحتفل دولة الإمارات العربية المتحدة هذه الأيام بزيارة رسميةٍ للبابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية للعاصمة أبوظبي بدعوةٍ من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، وهي زيارة تاريخية بكل المقاييس فهذه أول زيارةٍ لبابا الكنيسة الكاثوليكية للجزيرة العربية، واختيار أبوظبي له دلالة مهمة على رعاية أبوظبي لكل ما يدعم حوار الأديان والتسامح والتعايش بين مختلف الأديان والأعراق والطوائف والمذاهب. بدايةً لماذا اختار البابا فرنسيس أبوظبي لهذه الزيارة التاريخية؟ أحسب أنه اختارها لعدة أسباب منها، أنه إن كان يصح لدولة أن تسمّى «دولة التسامح» في هذه اللحظة التاريخية فهي دولة الإمارات العربية المتحدة، فهي الدولة العربية والمسلمة الأجدر بنيل هذه التسمية، وذلك لإرث التسامح الطويل لهذه الدولة وشعبها المضياف وللتاريخ العريق في الحضارة الإنسانية حيث الكشوفات الأثرية تظهر العمق التاريخي للتعايش في هذه الدولة، ومنها كنيسة صير بني ياس. اكتشف عالم الآثار الأميركي «هيلير» كنيسة صير بني ياس، أو الدّير في العام 1992 وهو ديرٌ أسس في نهاية القرن السادس الميلادي، أي قبل ما يقارب الألف وأربعمائة سنةٍ تقريباً، مع مجموعة اكتشافات أثرية تعود لآلاف السنين، وخشي هذا العالم من الإعلان عمّا اكتشفه، ولكنّه بمجرد أن أخبر الشيخ زايد رحمه الله بذلك أمرَ مباشرةً برعاية الاكتشاف وتهيئته والعناية به.
في نهاية الستينيات الميلادية كانت مدينة العين بحاجةٍ ماسةٍ لمستشفى يغير من واقع انتشار الأمراض بين المواطنين، وقدمت البعثة الكندية طلباً لبناء مستشفى وكنيسة فرحب الشيخ زايد بذلك وكانت النتائج مذهلةً من أول سنةٍ في الأثر على صحة المواليد والقضاء على الأمراض.
استمراراً على نهج الشيخ زايد فقد أصبحت دولة الإمارات الدولة الوحيدة في العالم التي لديها وزارة للتسامح، وتمّ فيها تحويل هذا الإرث المتسامح للشيخ زايد إلى وزاراتٍ ومؤسساتٍ وهيئاتٍ يطول تعدادها، ترعى هذا الإرث وتعززه وترسخه في الدولة والمجتمع حتى أصبحت تضم بين سكانها أكثر من مئتي جنسيةٍ تتعايش في سلامٍ ووئامٍ وتعيش بسعادةٍ ورفاهٍ.
اتبعت الإمارات الوعي المتقدم في نشر التسامح بالطرق الإيجابية من خلال التعليم والبرامج الوطنية والمبادرات المؤسسية مع محاربة كل ما يضاد التسامح من أصوليةٍ وكراهيةٍ وتعصبٍ وإرهابٍ في الوقت ذاته، وذلك بقوة القانون وبقوة العدالة.
برنامج زيارة الضيف الكبير مزدحمٌ باللقاءات والحوارات والكلمات ومن أهمها لقاؤه بشيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب، وهو ما يؤكد على نهج الإمارات في رعاية حوار الأديان والتعايش والتسامح بينها وفق النهج المفيد في هذا المجال حيث أثبتت الدعوات لتقارب الأديان فشلها، فإن أحداً لا يغيّر دينه لأجل دين آخر، فأفضل الحلول هو التعايش والتسامح والحوار للتأكيد على المعاني الإنسانية المشتركة التي تخدم العالم كله رغم الاختلافات.
خيارات الدول والشعوب، والمجتمعات والأفراد، تحدد التوجهات الكبرى وتكتنز الماضي وتعمل في الحاضر لبناء المستقبل، وقد اختارت دولة الإمارات التسامح هدفاً ومنهجاً وغايةً، ووفّرت بيئةً مثاليةً للنجاح والبناء والتقدم، وهو خيارٌ عاقلٌ يقوده المنطق السليم والاستشراف الحقيقي للمستقبل.
هذا خيارٌ واعٍ ومقصودٌ، ويتضح أثره مقارنةً بخياراتٍ أخرى لبعض الدول في المنطقة، خياراتٌ اتجهت لدعم الميليشيات والتنظيمات الإرهابية، ودعم جماعات الإسلام السياسي الأصولية العنيفة، واتخذت الكراهية والتعصب والطائفية سلاحاً ومنهج حياةٍ، وربطت نفسها بالماضي وغاصت فيه وسعت بكل ما تملك لفرضه على الناس والدول في المنطقة، والماضي لا يمكن أن يقف في وجه المستقبل، والموت لا ينتصر على الحياة. أخيراً، حُقّ للإمارات الاحتفاء بزيارة البابا فرنسيس في بلد التسامح والتعايش ونشر السلام والخير في المنطقة والعالم.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد