في العاشر من أبريل الجاري، وبعد خمسة أيام على بدء الجلسات الماراثونية، صوت البرلمان الباكستاني بالإجماع لمصلحة قرار يحث حكومة رئيس الوزراء نواز شريف على التزام الحياد في الأزمة اليمنية، وعدم المشاركة في عملية "عاصفة الحزم"، التي بدأت فجر 26 مارس الماضي، بقيادة المملكة العربية السعودية ضد الحوثيين وأنصار الرئيس اليمني المخلوع علي عبدالله صالح في إطار تحالف عسكري من عشر دول عربية.
وأكد القرار أن على باكستان أداء دور الوسيط وعدم التورط في القتال الدائر في اليمن، ليكون بمقدورها القيام بدور دبلوماسي فعّال لإنهاء الأزمة"، داعياً الحكومة إلى بدء العمل مع مجلس الأمن الدولي و"منظمة التعاون الإسلامي" للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في اليمن، مع تأكيده أن القوات الباكستانية ستدافع عن أمن السعودية واستقرارها إذا تطلّب الأمر.
لكن هذه اللغة الدبلوماسية في "صياغة" و"تكييف" قرار البرلمان الباكستاني، لا تخفي في الحقيقة طبيعة "المأزق/الموقف" الباكستاني، الذي يتسم بـ"الالتباس" و"التردد"، بل و"الحيرة" ومحاولة "إمساك العصا من المنتصف"، بين تحالفات وصداقات باكستان مع السعودية والخليج، وبين فرص ومخاطر أوضاعها الداخلية وتوازناتها الإقليمية، خاصة مع إيران في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي. إذ تميز الموقف الباكستاني من "عاصفة الحزم" بالتردد بين الدعم السياسي، والحرص على عدم المشاركة العسكرية، في محاولة لاستيعاب المطالب السعودية، وفي الوقت ذاته، تجنب اتخاذ إجراءات قد تؤدي إلى استعداء إيران.
انتقادات إماراتية
ولعل ذلك ما دفع وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، أنور قرقاش، إلى انتقاد قرار البرلمان الباكستاني، واصفاً نتيجة التصويت على حسابه في موقع "تويتر" بـ"المتناقضة والخطيرة وغير المتوقعة"، مضيفاً أن "باكستان مطالبة بموقف واضح لصالح علاقاتها الاستراتيجية مع دول الخليج العربي"، قائلاً إن"الخليج العربي في مواجهة خطيرة ومصيرية وأمنه الاستراتيجي على المحك، ولحظة الحقيقة هذه تميز الحليف الحقيقي من حليف الإعلام والتصريحات"، موضحاً أن مواقف باكستان "تكلفتها عالية"، متهماً باكستان بأنها "تراعي مصالحها مع إيران التي تربطها معها حدود برية، ومع الصين التي وعدتها بمد خط غاز عبر أراضيها يربطها مع إيران"، التي تتهمها دول الخليج بدعم الحوثيين. وفي المقابل، استنكر وزير الداخلية الباكستاني تشودري نصار علي خان تصريحات قرقاش، واعتبرها "انتهاكاً" لكل الأعراف الدبلوماسية.
العلاقات الباكستانية ـ السعودية والخليجية
ـ يعود التعاون المشترك بين الرياض وإسلام أباد لأربعة عقود خلت، إذ تعود العلاقات العسكرية السعودية- الباكستانية إلى عام 1969 عندما قاد الطيارون الباكستانيون طائرات سعودية لمنع توغل يمني (جنوبي) إلى داخل أراضي المملكة.
ـ بعد التفجير النووي الذي أجرته الهند عام 1974، نجح رئيس الوزراء الباكستاني الراحل ذو الفقار علي بوتو، على هامش قمة الجزائر الإسلامية عام 1974، في إقناع ثلاثة زعماء عرب (أولهم الملك السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز) في المساهمة في تمويل المشروع النووي الباكستاني بنحو 1100 مليون دولار علي الأقل.
ـ تم تحويل ما بين 300 و400 مليون دولار إلى المشروع النووي الباكستاني خصماً من الأموال التي قدمتها بعض الدول العربية لدعم المجاهدين الأفغان، في المجابهة مع الاتحاد السوفيتي بعد غزوه أفغانستان أواخر ديسمبر عام 1979.
ـ في أوائل التسعينيات من القرن الماضي أرسلت باكستان 15 ألف جندي إلى السعودية للمشاركة في حماية أراضي المملكة، بعد الغزو العراقي للكويت صيف عام 1990.
بعد فرض العقوبات الدولية على باكستان عام 1998 بسبب التفجيرات النووية التي أجرتها، أمدت المملكة باكستان بما يقارب من 50 ألف برميل من النفط يومياً للمساعدة على التغلب على تلك العقوبات.
ـ استضافت المملكة نواز شريف رئيس الوزراء الباكستاني الحالي عقب الانقلاب العسكري، الذي نفذه ضده الجنرال (الرئيس السابق) برويز مشرف في عام 1999.
ـ في عام 2008 برزت مؤشرات على وجود برامج للتعاون العسكري بين باكستان والسعودية في إطار سعي المملكة لاكتساب قدرات غير تقليدية على مستوى استحداث برنامج لتطوير الصواريخ الباليستية والإفادة من الخبرات الباكستانية في هذا الصدد لمواجهة طهران، إذ ذكرت مؤسسات بحثية أمريكية وجود تعاون عسكري بين السعودية وباكستان في المجال النووي في إطار سعي المملكة لاكتساب قدرات نووية لموازنة التقدم في البرنامج النووي الإيراني.
ـ في عام 2014، وبعد سلسلة من الزيارات المتبادلة بين البلدين، حصلت باكستان على منحة سعودية بقيمة 1.5 مليار دولار، وصفت بـ "الهدية"، في مقابل تخلّي إسلام أباد عن سياستها المحايدة من الأزمة السورية، داعية إلى تشكيل حكومة انتقالية في سوريا، ولاحقاً أرسلت مدربين باكستانيين، بطلب سعودي، لتدريب "المعارضة" السورية.
ـ لم تنقطع المناورات والتدريبات المشتركة وتبادل الخبراء بين المملكة وباكستان، وقبيل نشوب "عاصفة الحزم" أجرت القوات الباكستانية والسعودية تدريباً عسكرياً مشتركاً في 22 مارس الماضي، حيث شاركت القوات الخاصة بالجيش الباكستاني مع "قوة الواجب" من القوات البرية السعودية في تدريبات "الصمصام" في جولتها الخامسة، والتي تركز على إدارة المعارك في البيئات الجبلية الصعبة والتكامل بين القوات البرية والجوية في العمليات العسكرية.
حسابات باكستان الداخلية
في ضوء الأزمة الحالية، كان لا بد من تأكيد دعم باكستان للمملكة العربية السعودية والخليج، فإلى جانب نوعية العلاقات التاريخية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي سبقت الإشارة إليها، فإن ثمة استثمارات سعودية وخليجية كبيرة في باكستان، كما أن نحو 1,5 مليون باكستاني يعملون في دول الخليج، ويرسلون حوالات إلى بلادهم تعد رافداً حيوياً لاقتصاد البلاد. علاوة على المعونات والتبرعات التي تقدمها دول الخليج لباكستان من حين لآخر، خاصة أوقات الأزمات الطارئة مثل الزلازل والفيضانات والمجاعات والجفاف.
بيد أن الدعم الباكستاني بقي في سياق الأقوال، إعلامياً وسياسياً، وليس عملياً وعسكرياً، وذلك بسبب عوامل داخلية من أبرزها:
1 ـ صحيح أن تقوية العلاقات الباكستانية الخليجية هي من جملة ما يميز حزب الرابطة الإسلامية، بزعامة نواز شريف، ورغم أن الدستور الباكستاني يمنح رئيس الوزراء سيطرة كاملة على القوات المسلحة، إلا أن مشاركة باكستان في "عاصفة الحزم" لا تحظى بإجماع مختلف الأطراف السياسية في الحكومة الباكستانية، خاصة أن لدى وزارة الخارجية الباكستانية مواقف متحفظة من دور الرياض في دعم المؤسسات الخيرية الإسلامية والمدارس الإسلامية في باكستان عبرت عنها بتصريحات غير مباشرة في فبراير الماضي.
2 ـ تتناقل بعض الأوساط الباكستانية أن ثمة معارضة لدور المؤسسات الدينية والخيرية التي تدعمها بعض الدول العربية داخل المؤسسة العسكرية عقب الهجوم الذي شنته طالبان باكستان في منتصف ديسمبر الماضي على مدرسة تابعة للمؤسسة العسكرية الباكستانية في بيشاور شمال غربي البلاد، والذي أسفر عن سقوط 132 من الطلاب وإصابة المئات.
3 ـ عبرت المعارضة الباكستانية عن رفضها لمشاركة الجيش الباكستاني في الحرب باليمن، حيث حذر زعيم المعارضة البرلمانية "خورشيد شاه" الحكومة من اتخاذ أي قرار بإرسال الجنود الباكستانيين إلى الخارج أو المشاركة في الحرب مع أي طرف أو ضده، ودعا الحكومة إلى محاولة لعب دور وساطة يجنب الدول الإسلامية مزيداً من النزاعات التي تقسمها!، وحذّر "حزب العدالة" الذي يرأسه نجم الكريكيت السابق "عمران خان" الحكومة من المشاركة في "عاصفة الحزم"، مع الأخذ في الاعتبار أن الحكومة أنهت ملف الاحتجاجات ضد شرعية انتخابها بصعوبة بعد شهور من المظاهرات التي نظمها حزبا حركة الإنصاف بقيادة عمران خان وحركة الشعب الباكستاني بقيادة طاهر القادري.
4 ـ تواجه إسلام أباد تحدياً كبيراً بين التزامها تجاه السعودية والتزاماتها الداخلية بإنجاح عمليتين أمنيتين في المناطق القبلية الباكستانية وإقليم السند، ضمن مساعيها لاستئصال "الإرهاب والجريمة"، لاسيما ضد طالبان باكستان، والتي كان آخر عملياتها في منتصف مارس الماضي استهداف كنيستين في مدينة لاهور الباكستانية، مما أسفر عن مقتل 15 شخص، فضلاً عن قيامها بعمليات إرهابية نوعية استهدفت مناطق تمركز القوات المسلحة والشرطة في إقليم وزيرستان في إطار انتقالها من الأطراف إلى قلب الدولة الباكستانية.
5 ـ إن تركيبة باكستان الطائفية تجعل من الصعب على باكستان اتخاذ موقف صريح بشأن "عاصفة الحزم" خشية انعكاس ذلك على الصراعات الطائفية داخلها؛ إذ يشكل الشيعة في باكستان حوالي 10% من سكانها الذين يقدّر عددهم بحوالي 180 مليون نسمة، ما يجعلها ثاني أكبر دولة للشيعة بعد إيران. كما أن الأب الروحي لباكستان ومؤسسها (محمد علي جناح) شيعي إسماعيلي بالولادة، واثني عشري بالاعتناق.
حسابات باكستان والمتغير الإيراني
أما بشأن حسابات باكستان الأخرى، يلاحظ أنه في العامين الماضيين، وبعد العراقيل التي فرضت تجميد مشروع مد خط أنابيب الغاز، اتسمت العلاقات بين باكستان وإيران بنوع من "السلام البارد"، وترجمت أحياناً "سخونة حدودية"، حيث تتصاعد الاشتباكات الحدودية بين الطرفين في منطقتي سستان ولوخستان الحدوديتين في جنوب غرب إيران، والتي كان آخرها قتل ثلاثة من الحرس الثوري الإيراني على الحدود في 29 ديسمبر 2014، وسبقها اشتباكات حدودية متبادلة بين الدولتين في أكتوبر الماضي عقب إعلان جماعة "جيش العدل" السنية في باكستان مسؤوليتها عن اختطاف قوات من حرس الحدود الإيراني، واحتجاج باكستان من اختراق قوات إيرانية للحدود بدعوي ملاحقة مسلحين.
لكن العلاقة بين باكستان وإيران ظلت تحت السيطرة ولم تشهد تصعيداً ملحوظاً، في ضوء ما يلي:
1 ـ ثمة تعاون استراتيجي بين إسلام أباد وطهران، يرتبط بإسهام باكستاني في تطوير البرنامج النووي الإيراني ووجود تفاهمات حول مد خط أنابيب "مشروع السلام" لنقل الغاز من حقل "بارس" في جنوب غرب إيران إلى الساحل الجنوبي الشرقي لباكستان بطول 2000 كم، وبتكلفة إجمالية قدرها 7.5 مليار دولار.
2 ـ يشترك البلدان في الترقب الحذر لمسار الأمور في أفغانستان بعد استكمال الانسحاب الأمريكي منها أواخر العام الجاري.
3 ـ محاولات واشنطن إقامة شراكة استراتيجية مع الهند، تدفع باكستان قدماً نحو تطوير علاقتها بجارتها الغربية إيران، وتحييد "الاختلاف السني- الشيعي" قدر الإمكان عن أساسيات هذه العلاقة.
4 ـ التوصل إلى اتفاق حول الملف النووي بين إيران والولايات المتحدة يؤكد أن الاصطفافات والتحالفات الإقليمية والدولية عرضة للتغير، وقد يحرم انحياز باكستان لأي طرف الآن من خيارات الاستفادة من التغييرات المحتملة.
على هذا النحو، تسعى حكومة نواز شريف إلى العمل على موازنة علاقاتها الوثيقة مع السعودية بطريقة لا تؤثر على الجبهة الداخلية، إلى جانب الحفاظ على علاقاته مع طهران من دون توترات، وهو ما أدى إلى هذا الموقف الباكستاني الداعم لعاصفة الحزم سياسياً وإعلامياً دون مشاركة عسكرية مباشرة.