لم يكن قرارُ الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بسحب قوات بلاده من سوريا مفاجئًا؛ إذ كرر على مدار الأشهر الماضية إصدار العديد من الإشارات المؤكدة لنواياه في هذا الصدد، بيد أن اللافت للانتباه هو طريقة إصدار وتنفيذ "ترامب" لقرار سحب القوات الأمريكية من سوريا، والتي أكدت أن "ترامب" لم يستشر الدوائر المعنية بصنع مثل هذا القرار في إدارته، كما أنه لم يقم بالتنسيق مع حلفاء بلاده من الدول الأخرى المشاركين في التحالف الدولي لمحاربة "داعش"؛ الأمر الذي يعني أن التفسير الأساسي لهذا القرار هو شخصية "ترامب"، وتفسيراته الخاصة لحسابات المكسب والخسارة فيما يتعلق بالملف السوري وشبكة علاقات واشنطن في منطقة الشرق الأوسط.
دوافع الانسحاب:
يمكن الإشارة إلى أبرز دوافع "ترامب" لاتخاذ قرار الانسحاب من سوريا في هذا التوقيت فيما يلي:
1- سياسات خفض التكلفة: يرى "ترامب" أن السياسة الأمريكية في ظل رئاسته يجب أن تكون مختلفة عن رئاسة سابقيه من رجال السياسة الذين اهتموا بالدور الخارجي للولايات المتحدة على حساب الأبعاد الاقتصادية التي يجيد التعامل معها باعتباره رجل أعمال في المقام الأول. فمنذ بداية ترشحه للرئاسة، هاجم سياسات الرئيس الأسبق "بوش" التي أدت إلى تورط واشنطن في العراق وأفغانستان، مما كلفها 5 تريليونات دولار دون أي مكاسب حقيقية، مما تسبب في زيادة ديون أمريكا بلا داعٍ. من ثم يرى "ترامب" ضرورة تقليص الوجود الأمريكي المكلف في الخارج، وتجنب الدخول في أي معارك جديدة أو التزامات تؤدي لتفاقم الديون أو الأعباء الأمريكية.
ومن ثمّ، لم يجد "ترامب" غضاضة في القيام بالانسحاب من كافة الاتفاقيات التي قام بها سلفه "أوباما"، والتي وجد أنها ليست في مصلحة أمريكا، مثل: اتفاقية المناخ، والاتفاق النووي مع إيران، وهناك دلائل على نجاح نهج "ترامب" في هذا السياق مثلما حدث في إدارته ملف كوريا الشمالية، حيث نجحت تهديدات "ترامب" في إرضاخ كوريا الشمالية دون حرب، وهو ما اعتُبِر إنجازًا يُسجَّل لـ"ترامب" شجعه على تجميد خطط إدارة "أوباما" بخصوص الوجود العسكري الأمريكي في العراق وسوريا.
وفيما يخص الملف السوري، فقد سبق وأن أشار "ترامب" إلى أن الولايات المتحدة أنفقت 70 مليار دولار في سوريا، وهو ما اعتبره أمرًا مُسْتَنْكَرًا يجب إيقافه بمجرد تحقيق الأهداف الأمريكية في المنطقة، كما عمد "ترامب" إلى توضيح أن الهدف من تواجد القوات الأمريكية في سوريا هو إلحاق الهزيمة بـ"داعش"، وهو ما اعتبره قد تحقق، ومن ثمّ فلا يوجد مبرر لبقاء قواته هناك.
2- اتجاهات إعادة الانتشار: من ناحية أخرى، يمكن القول إن قرار الرئيس الأمريكي بالانسحاب الميداني من سوريا ربما كان مستندًا إلى اطمئنانه لوجود القوات الأمريكية في دول بجوار سوريا على نحو يسمح لها بالتدخل في حال اقتضت الحاجة إلى ذلك، فلا تزال هناك قوات أمريكية (في دول مثل: تركيا، والعراق، وقطر)، فضلًا عن أن واشنطن تملك دائمًا خيار تفعيل قواتها الجوية من سفن الأسطول السادس المنتشر في البحر المتوسط.
3- انخفاض عدد القوات: تجدر الإشارة إلى أن إجمالي عدد الجنود الأمريكيين في سوريا وصل إلى 2000 جندي وفقًا لما أعلنه الكولونيل "روب مانينج" (المتحدث باسم البنتاجون) في ديسمبر 2017. ومن ثم رأى بعض المحللين أن الوجود الأمريكي في سوريا لم يكن سوى وسيلة لاستعراض القوة، ولم تكن له مهام قتالية حقيقية، بل تطور وجوده من مستشارين عسكريين إلى قوات صغيرة لتقديم الدعم اللوجستي والمعنوي، وهو ما يسهل تنفيذ الانسحاب، بيد أنه تظل هناك بعض التساؤلات حول مصير قاعدة التنف الاستراتيجية على الحدود بين العراق والأردن.
تقييمات سلبية:
يبدو أن قرار الرئيس الأمريكي فيما يتعلق بسحب قواته من سوريا يعكس غلبة عقلية رجل الأعمال، وتحديدًا فيما يخص آليات صناعة القرار، والتشاور داخل الدوائر المعنية بهذه المسألة في الإدارة الأمريكية. فجاء القرار على عكس رغبة وزارتي الخارجية والدفاع، ولم يحظَ بدعم كبار رجال الكونجرس المؤثرين، كما أن "ترامب" لم يأبه كثيرًا للاعتراضات من داخل المؤسسة العسكرية الأمريكية والقادة الميدانيين الأمريكيين المعنيين بتنفيذ قرار الانسحاب، وهو ما دفع وزير الدفاع الأمريكي "جيم ماتيس" لتقديم استقالته بعد يوم واحد من قرار "ترامب"، ونشر "ماتيس" فحوى خطاب استقالته بعد اجتماع مباشر مع "ترامب" تحدث فيه الاثنان عن اختلاف الرؤى، لا سيما فيما يخص علاقات واشنطن بحلف شمال الأطلنطي. في أعقاب ذلك، قدّم "بريت ماكجورك" (مبعوث أمريكا الخاص لدى التحالف الدولي لمحاربة "داعش") استقالته من منصبه، وسط تأكيدات بأن "ماكجورك" اعتبر قرار "ترامب" متهورًا ولم يستطع الدفاع عنه أو تنفيذه.
كما لم يقم "ترامب" بالتنسيق مع حلفائه المشاركين مع قواته في العمل الميداني في سوريا، ومن ثمّ أبدت فرنسا وبريطانيا وألمانيا "قلقها من القرار الأمريكي". ففي هذا الإطار، صرح الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" قائلًا، إنه يأسف بشدة للقرار، وإنه يُنتظر من "الحليف أن يكون محل ثقة، وأن ينسّق مع حلفائه الآخرين"، فضلًا عن إشادته باستقالة وزير الدفاع "جيمس ماتيس".
صفقة أمريكية – تركية:
يُشير بعض المحللين إلى أن هناك نوعًا من التوافق بين "ترامب" و"أردوغان" قد حدث في هذا السياق، لا سيما بعد أن قام "ترامب" بالتغريد في موقع تويتر: "لقد أبلغني رئيس الجمهورية التركية "رجب طيب أردوغان" بأنه سيقضي على ما تبقى من "داعش" في سوريا، وهو رجل يستطيع القيام بذلك". إلى جانب الإشارة إلى نية الجانبين توسيع التعاون التجاري بينهما بشكل كبير. ويبدو أن "أردوغان" قد استغل هذه الفرصة للدفاع عن أحد ثوابت الأمن القومي التركي، وهي تلك المتعلقة بملف الأكراد، ورغبته في إيقاف مساعيهم لتأسيس دولة قومية خاصة بهم، سواء في سوريا أو العراق، وهو ما سوف تكون له انعكاسات على أكراد تركيا.
ويدعم هذه الفرضية أن قرار "ترامب" قد أتى مع تنامي حديث تركيا عن عزمها القيام بعملية عسكرية شرق الفرات تستهدف إزالة وجود ميليشيات "صالح مسلم" في المنطقة، وعلى طول الشريط الحدودي السوري مع تركيا.
وبطبيعة الحال، كان من المبرر أن يثير قرار "ترامب" تخوفات وغضب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ذات الغالبية الكردية، التي كانت الحليف الميداني الأساسي للقوات الأمريكية في سوريا، حيث اعتبرت تلك القوات أن القرار الأمريكي بالانسحاب من شرق سوريا طعنة في الظهر، وخيانة لدماء آلاف المقاتلين من قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردية.
ترحيب روسي:
شهدت السنوات القليلة الماضية توجهًا واضحًا من جانب موسكو للانخراط في الأزمة السورية تبلور بشكل واضح مع مشاركة القوات الروسية في سوريا دعمًا لقوات الرئيس "بشار الأسد". ولعلّ هذا الانخراط الروسي الواضح هو ما يدفع "ترامب" لتجنب الصدام إلى حد الحرب مع روسيا بسبب الخلاف في الملف السوري، وذلك لأن الأخيرة تمكنت من وضع أقدامها العسكرية هناك، وامتد نفوذها إلى البحر الأبيض المتوسط، ولن تقبل بسهولة التفريط في هذه المكاسب، وهو ما يتوازى مع محدودية أهمية المنطقة بالنسبة لـ"ترامب"، ورغبته في تحجيم تواجد قواته بها، والحد من هذه التكلفة. ويرى بعض المحللين أن "ترامب" لا يعارض عودة الجيش السوري إلى المناطق التي يمكن أن تقوم بإخلائها القوات الأمريكية، وفي الوقت نفسه لن تتمكن موسكو من التمدد في المنطقة في سياق التفاهمات الأمريكية-الروسية السابقة مع إدارة "أوباما" بشأن تقاسم التواجد في المناطق السورية، وليس من مصلحة الكرملين خرق هذا التفاهم، وتعريض المناطق التي يسيطر عليها لتقلبات وتبدلات في موازين القوى.
لذا كان من الطبيعي أن ترحب روسيا بقرار "ترامب"، معتبرة أنه سيفتح آفاق التسوية السياسية في هذا البلد، ومتوقعة أن يؤثر إيجابيًّا على تشكيل اللجنة الدستورية السورية، وعلى الوضع في منطقة التنف الحدودية بين سوريا والأردن. كما ترى موسكو أن "الولايات المتحدة بدأت تدرك أن معارضتها للجهود التي تبذلها الدول الضامنة لعملية أستانة (روسيا، تركيا، إيران) في سوريا تضر بالمصالح الأمريكية عينها".
ويرى البعض أن هذا الترحيب الروسي بالقرار الأمريكي ربما يكون مدخلًا لتفاهمات أمريكية - إيرانية - روسية - تركية، بالتوازي مع تسوية الأزمة السورية سياسيًّا، بما يُعيد تشكيل خريطة توازنات القوى في المنطقة في الفترة المقبلة.