جاءت حزمة الإصلاحات التي تقدم بها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، بعد أن اتسعت رقعة التظاهرات في المحافظات العراقية منذ مطلع شهر أغسطس الجاري، حيث امتدت التظاهرات من العاصمة بغداد إلى النجف وبابل والمثنى والناصرية وكربلاء، احتجاجاً على تردي الأوضاع الخدمية، وعلى رأسها الكهرباء التي تشهد تدهوراً منذ سنوات، علاوة على ما تشهده العراق من فساد إداري ومالي، وهو ما دفع العبادي إلى تقديم حزمة الإصلاحات في التاسع من الشهر الجاري وأقرها مجلس الوزراء العراقي والبرلمان العراقي، حيث وافق الأخير بالإجماع على الحزمة الأولى من الإصلاحات.
ويطرح هذا الأمر عدداً من التساؤلات، أبرزها يدور حول جدية هذه الإصلاحات ومدى قدرة رئيس الوزراء العراقي على تطبيقها على الأرض، ومواقف القوى السياسية الداخلية في العراق من هذه الحزمة، وكذلك مواقف القوى الإقليمية، خاصة الإيرانية، وما لهذه الإصلاحات من تأثير على مواجهة تنظيم "داعش" في الأراضي العراقية.
مضمون حزمة الإصلاحات
تقدم كل من حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي، وسليم الجبوري رئيس البرلمان، بجملة من الإصلاحات الإدارية والبرلمانية، حيث شملت إصلاحات العبادي تقليصاً شاملاً وفورياً لأعداد عناصر الحماية أو الحرس لكل المسؤولين في الدولة، وفتح ملفات الفساد السابقة والحالية تحت إشراف لجنة عليا تتشكل من المختصين، ودعوة القضاء إلى اعتماد عدد من القضاة المختصين المعروفين بالنزاهة التامة للتحقيق فيها ومحاكمة الفاسدين.
وألغى العبادي 11 منصباً في الحكومة. واستناداً إلى المادة 78 من الدستور وتفويض مجلس النواب، تم تقليص عدد أعضاء مجلس الوزراء ليكون 22 عضواً إضافة إلى رئيس مجلس الوزراء بدلاً من 33 عضواً، وإلغاء مناصب نواب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء (يشغل منصب نيابة رئاسة الجمهورية 3 من أبرز السياسيين هم: نوري المالكي وإياد علاوي وأسامة النجيفي)، وإلغاء أربع وزارات هي وزارة حقوق الإنسان ووزارة الدولة لشؤون المرأة ووزارة الدولة لشؤون المحافظات ومجلس النواب، ووزارة دولة إضافية؛ ودمج ثماني وزارات بعضها ببعض لجعلها أربعاً فقط، حيث دمج وزارة العلوم والتكنولوجيا بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، ووزارة البيئة بوزارة الصحة، ووزارة البلديات بوزارة الإعمار والإسكان، ووزارة السياحة والآثار بوزارة الثقافة.
وفي السياق ذاته، تقدم سليم الجبوري رئيس البرلمان بحزمة إصلاحات نيابية شملت إقالة أعضاء مجلس النواب الذين غابوا عن جلسات البرلمان من دون عذر مشروع أكثر من ثلث الجلسات من مجموع الفصل التشريعي الواحد، والنظر في أداء رؤساء اللجان النيابية، وتقليص أعداد أفراد حماية المسؤولين إلى النصف خلال 15 يوماً.
وتضمنت الحزمة النيابية مواداً تتعلق بمحاسبة المقصرين في الدفاع عن العراقيين ممن تسببوا في تسليم الأرض والسلاح إلى جماعات إرهابية، وهو ما يشير إلى إمكانية إدراج رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في تحقيقات حول سقوط الموصل في يد "داعش"، وكذلك إيجاد حلول عملية لمشكلة النازحين بما يحفظ لهم حياة كريمة.
وتؤكد ورقة الإصلاحات النيابية على تشريع القوانين التي نص عليها الدستور، خصوصاً مشاريع قوانين الأحزاب، والمحكمة الاتحادية العليا، والمعاهدات، ومجلس الاتحاد والحرس الوطني، علاوة على قوانين المصالحة الوطنية، وتذليل ما يقف في وجه هذه التشريعات من عقبات.
وتدعو الورقة أيضاً إلى إنهاء ملف التعيينات بالوكالة في المناصب العسكرية والأمنية وتقديم المرشحين لرئاسة أركان الجيش ومعاونيه ومن هم بمنصب قائد فرقة فما أعلى، ورئيس جهاز المخابرات الوطني، ورؤساء الأجهزة الأمنية باعتماد معايير الكفاءة والمهنية والنزاهة، وذلك خلال مدة لا تتجاوز ثلاثين يوماً إلى مجلس النواب للتصويت عليها.
وإضافة لذلك تطالب السلطة التشريعية في ورقتها الإصلاحية مجلس القضاء الأعلى بتقديم ورقة إصلاح قضائي، بما يضمن صون القضاء وعدم تأثره بالضغوط السياسية، والتصويت في مجلس النواب على المرشحين لرئاسة وعضوية محكمة التمييز الاتحادية، ورئاسة الادعاء العام، ورئاسة هيئة الإشراف القضائي.
مواقف القوى الداخلية من حزمة الإصلاحات
يمكن تقديم عدة ملاحظات خاصة بهذه الخطوات الإصلاحية، وتحديداً في هذا التوقيت، من خلال عرض لأهم مواقف الأطراف الداخلية والخارجية، ومن أبرزها:
1 ـ جاءت حزمة الإصلاحات بعد دعوة المرجع الشيعي الأعلى في العراق آية الله السيد علي السيستاني رئيس الوزراء حيدر العبادي باعتباره المسؤول التنفيذي الأول، إلى مواجهة الفساد والطائفية، وأن يكون أكثر شجاعة وجرأة في قراراته الإصلاحية والضرب بيد من حديد على المفسدين، وإبعاد كل مسؤول غير قادر على أداء مهامه مهما كانت طائفيته أو قوميته أو حزبه، كما شدد السيستاني بأن يضع العبادي القوى السياسية أمام مسؤولياتها، وأن يتجاوز المحاصصة الطائفية والحزبية، وأن يتقدم لإصلاح مؤسسات الدولة وتعيين الكفاءات، والتأكيد على أن كل هذه الخطوات ستكون مدعومة من قبل القوى السياسية والجماهيرية.
2 ـ جاءت هذه الإصلاحات في توقيت على درجة كبيرة من الأهمية على الساحة العراقية الداخلية، في ظل ما يشهدة إقليم كردستان من انقسامات خاصة حول رئاسة الإقليم، وهو ما جعل المكون الكردي يمرر الإصلاح بغية الانتباه إلى مشاكله الداخلية وسعيه للحفاظ على تماسك واستقرار أربيل، واعتبار هذا الأمر أحد أهم عناصر مواجهة تنظيم "داعش".
3 ـ أما عن موقف القوى السياسية السنية، فقد اعتبر تحالف القوى السنية أن هذه الإجراءات غير كافية، وأنها لا تعبر عن المطالَب الأساسية للتظاهرات الاحتجاجية التي تشهدها البلاد. كما طالب التحالف الحكومة بفتح ملفات معينة مثل ملف العقارات الحكومية التي تقدر بمليارات الدولارات، خاصة في ظل ما تعانيه العراق من أزمة تتعلق بإغاثة النازحين والمهجرين بعد أن فشلت الحكومة في إيجاد حل مناسب لها. وكذلك ملف التسليح الذي كلّف ميزانية العراق 148مليار دولار منذ عام 2003، إذ رغم التكلفة العالية، فإنها لم تؤتِ بثمارها، سواءً في توحيد الجبهة الداخلية أو تقوية الجيش العراقي للتصدي للإرهاب. هذا علاوة على ملف الكهرباء الذي كلّف الدولة عشرات المليارات من الدولارات دون جدوى.
ووعد التحالف بتقديم ورقة إصلاح برلمانية تتضمن إصلاحات حقيقية وجذرية تستجيب لكل مطالب المتظاهرين التي تنسجم مع ما نص عليه الدستور والقانون، وهو ما يعني بشكل ما التشكيك، ولو بطريقة غير مباشرة، في مدى مصداقية حزمة الإصلاحات الأخيرة، وهو ما يمكن أن يفتح المجال لمزيد من الجدل بين المكون السني والشيعي في المرحلة المقبلة.
4 ـ في الوقت الذي خرجت فيه التظاهرات العراقية لدعم خطة العبادي الإصلاحية، وطالبته باتخاذ مزيد من الإجراءات الإصلاحية، اعترض إياد علاوي نائب رئيس الجمهورية على "دستورية" قرار إلغاء منصب نائب الرئيس، معتبراً أن خطة رئيس الوزراء تعد انتهاكاً للدستور. وبناءً عليه أمهل علاوي الحكومة ثلاثة أشهر لتلبية مطالب المواطنين، وإلا فإنه سيطالب بإجراء انتخابات مبكرة.
5 ـ يمكن القول إن معظم عناصر المكون الشيعي أيدت خطة العبادي الإصلاحية، خاصة بعد دعوة المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، حيث أكد حزب الدعوة الإسلامية على لسان رئيس الوزراء السابق نوري المالكي تأييده لخطة العبادي، داعياً إلى تشكيل حكومة جديدة من التكنوقراط بدلاً من الحكومة الحالية.
ودعا زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر السلطة القضائية إلى محاسبة من تثبت إدانتهم في قضايا الفساد بشكل حيادي وحاسم، مؤكداً رفضه أي تدخل أجنبي في حملة الإصلاحات.
كما أبدا ائتلاف المواطن، وهو أحد قوى التحالف الوطني الشيعي، تأييده لهذه الإصلاحات، وأعرب نواب كتلة الصادقون التابعة لعصائب أهل الحق عن تأييدهم للإصلاحات أيضاً، معتبرين أنها تتوافق مع تطلعات الشارع العراقي.
عقبات تواجه التنفيذ الصارم لخطة الإصلاحات
على الرغم من تشكيك بعض المراقبين في قدرة مجلس النواب على تمرير حزمة الإصلاحات نظراً لما يشهدة النظام السياسي العراقي من محاصصة طائفية، فإن المجلس قد استطاع الموافقة عليها بالإجماع في جلسة استثنائية؛ وهو ما يمكن إرجاعه إلى أن كافة القوى السياسية بمختلف ألوانها تخشى في الوقت الحاضر من تمدد وانتشار موجة الاحتجاجات في الشارع، خاصة مع حالة الانفلات الأمني التي تشهدها العراق في ظل ضعف قدرات قوات الأمن؛ الأمر الذي دفع غالبية القوى السياسية الرئيسية في العراق إلى تأييد خطوات العبادي.
وعلى صعيد آخر يمكن اعتبار هذا التأييد نوعاً من المحافظة على نصيب المكون الشيعي من السلطة، وعدم الرغبة في المجازفة بما حصل عليه طوال الفترة الماضية.
وهنا ثمة بعض الملاحظات المهمة، ومنها أن اقترح العبادي بإلغاء نظام المحاصصة في المناصب الحكومية وتقليص أعداد الحمايات الشخصية لكبار المسؤولين، يحتاج إلى إجراء برلماني أو إلى تعديلات دستورية، وكلا الأمرين يصعب ضمان تحققه، ما يعني أن تنفيذ هذه الإجراءات سيأخذ مزيداً من الوقت، خاصة مع ترسخ فكرة الولاءات الحزبية والطائفية في العراق منذ سنوات، حيث أصبح المواطن العراقي أسيراً لميوله المذهبية التي تستخدمها القوى السياسية والدينية، لإعلاء الانتماء الطائفي على الوطني لتحقيق مصالحها الخاصة، وهو ما يزيد من صعوبة تطبيق العبادي لخطته، لاسيما في هذه النقطة بالتحديد.
أما الملاحظة الأخرى فتختص بمدى قدرة هذه الحزمة الإصلاحية على القضاء على جذور الفساد المستشري في المؤسسات والهيئات العراقية، فهي وإن كانت تمثل عنصراً مساعداً في تقليصها إلى حد ما، وأن النجاح الجزئي في تطبيقها يمكن أن يزيد من قوة حيدر العبادي ومنحه فرصة الظهور كزعيم يتمتع بشعبية وقوة، إلا أن ثمة عقبات عديدة تعترضها في ظل وجود طبقة سياسية ذات نفوذ كبير في مؤسسات الدولة.
وتشير الملاحظة الثالثة إلى أن خطة الإصلاح لم تعالج ما تقوم به الميليشيات الشيعية المسلحة الموالية لإيران من انتهاكات وخروقات، متمثلة في عمليات التطهير الطائفي التي تقوم بها في المناطق المحررة من تنظيم "داعش"، وهو ما يضيف صعوبة أمام العبادي لكسب ثقة المكون السني في المرحلة القادمة، خاصة مع ثقة معظم القوى السياسية السنية في عدم قدرته على محاسبة هذه الميليشيات أو حتى على تقييد دورها.
ويمكن القول إن جملة الإصلاحات الأخيرة في العراق هي وسيلة للحفاظ على بقاء الدولة العراقية موحدة متماسكة. وعلى الرغم من صعوبات ومعوقات التطبيق الفعلي، فإنه لا بديل عن التطبيق، ولو بشكل جزئي.
وقد يساعد على ذلك ترحيب الإدارة الأمريكية بحزمة الإصلاحات، نظرا لإدراكها ضرورة بقاء حيدر العبادي في السلطة، والاستفادة من جهود الإصلاح قدر الإمكان لمحاربة "داعش" التي تتطلب استقرار وتماسك بغداد. كما باركت إيران، ولو مضطرة، هذه الإصلاحات لأنها تدرك أن دخول العراق في فوضى عارمة يهدد مصالحها بشكل مباشر، بل وتؤيد إيران الإصلاحات لسبب أكثر أهمية يرتبط بالتصدي بشكل فعال لتنظيم "داعش" كما أكد على ذلك النائب الأول للرئيس الايراني إسحاق جهانغيري.
ولكن ستظل مشكلات العراق، سواء من ناحية الاختلافات الواضحة بين القوى السياسية بمختلف انتماءاتها أو التحديات الاقتصادية، مؤجلة حتى يتم التصدي لإرهاب تنظيم "داعش" وتحرير الأراضي العراقية من قبضته، وهو ما يعني ضرورة أن يعمل كل مكون على إعلاء مصالح الدولة العراقية وطرح أي انتماءات طائفية جانباً، وإلا سوف يفتح المجال أمام صراعات داخلية في المستقبل يصعب على الجميع في الداخل والخارج التعامل معها، أو احتوائها.