وجهت روسيا رسائل عديدة بشأن إنهاء الوجود العسكري الأجنبي في سوريا كمنطلق لتهيئة الساحة لحل الأزمة سياسيًا في ضوء مسارى الآستانة وسوتشي. وقد لا يبدو هذا المضمون جديدًا، إذ أنها أكدت مرارًا على أن الوجود العسكري الأجنبي في سوريا يزيد أزمتها تعقيدًا، لكن الجديد هو أن هذه الرسائل شملت الدول التي تحرص روسيا على التنسيق أمنيًا وسياسيًا معها، مثل إيران وتركيا قبل غيرها من الأطراف الأجنبية الأخرى، وهو ما أظهر إلى العلن سجالاً روسيًا– إيرانيًا انعكست ملامحه بوضوح على المستويين الإعلامي والدبلوماسي، على تحو يضفي مصداقية على التكهنات والتقديرات التي تشير إلى اتساع مساحة التباين في المواقف والرؤى لدى الجانبين على الساحة السورية، خاصة في إطار معطيات التطورات الأمنية الأخيرة في الجبهة الجنوبية، والتي بدت جلية في المواجهة العسكرية الإيرانية– الإسرائيلية الأخيرة.
واللافت للانتباه، أن السجال بين روسيا وإيران لم يتكرر في حالة تركيا التي كانت إحدى الأطراف المعنية بالرسائل الروسية ذاتها والمتمركزة عسكريًا في الشمال السوري في عفرين، لا سيما وأنها هى الأخرى تصعد في مواجهة الوجود الفرنسي في مناطق متاخمة لانتشارها، لكن أغلب التقديرات تتجه إلى أن مستوى التفاهمات الروسية– التركية بشأن هذا الوجود يظل تحت السيطرة في ضوء حرص موسكو على استيعاب مخاوف أنقرة إزاء تمدد الأكراد على حدودها، في ظل الدعم الغربي لميليشيا قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، وهو ما تعزز في لقاءات روسية– تركية وروسية- أمريكية جرت على مدار الأيام الماضية وأحرزت تقدمًا على صعيد مستوى الانتشار ومنع التصعيد، بل إن خبراء توقعوا أن تتحول هذه اللقاء من ثنائية منفصلة إلى ثلاثية.
رسائل مزدوجة:
أكد الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين، خلال لقاءه الرئيس السوري بشار الأسد في سوتشي في 17 مايو الجاري، على ضرورة خروج كافة القوات الأجنبية من سوريا في إطار حل سياسي شامل، وهو ما اعتبرت اتجاهات عديدة في إيران أنها الطرف المقصود بتلك الرسالة، مشيرة إلى أنه كان يجب استثنائها منها، على نحو دفع المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي إلى التأكيد على أنه "لا أحد يستطيع إجبارنا على الخروج من سوريا"، مضيفًا أن بلاده "ستبقى في سوريا لأن وجودها شرعي وبطلب من الحكومة السورية"، مطالبًا بـ"خروج القوات الأجنبية الأخرى الموجودة بشكل غير شرعي على الأراضي السورية".
وقد وضعت هذه التصريحات إيران في مأزق مع حليفتها روسيا، إذ توالت الرسائل الروسية الصريحة لتؤكد على عدم وجود استثناء لأى طرف، وهو ما أكده مبعوث الرئيس الروسي الخاص الكسندر لابرينتيف بقوله أن "دعوة الخروج تشمل الجميع بمن فيهم إيران"، في حين أعلن السكرتير الصحفي للرئيس الروسي دميتري بيسكوف أن "بعض القوات الأجنبية الموجودة في سوريا تستطيع مغادرة البلاد مع بدء العملية السياسية، لعدم وجود أسس قانونية لوجودها هناك"، الأمر الذى يثير شكوكًا حول طبيعة الاتفاق بين طهران ونظام الأسد في هذا الصدد.
وفى ضوء هذا المشهد، من المتوقع أن تواصل موسكو الضغط على ايران بشأن شكل ونمط وجودها على الساحة السورية باعتبار أنها، وفقًا لاتجاهات عديدة، أصبحت تشكل عبئًا عليها في تلك الساحة، بالتوازي مع سعيها للانتقال إلى الحل السياسي وعدم فتح جبهات جديدة للصراع، خاصة مع إسرائيل، وهو ما ظهر خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى موسكو، والتي ستتبعها زيارة لوزير الدفاع افيجدور ليبرمان، بشكل يؤشر إلى أن روسيا بصدد قطع الطريق على استمرار التصعيد على الجانبين الإسرائيلي– الإيراني في سوريا.
خيارات صعبة:
لا تمتلك إيران خيارات متعددة بشأن وجودها في سوريا. ورغم أنها سارعت إلى الرد على المبادرة الروسية في مؤشر يكشف عن مدى الاستياء الذي تبديه تجاه السياسة الروسية في سوريا، إلا أن ذلك لا ينفي أنها، في ظل الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، بحاجة إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا، كما أنها مضطرة إلى التخلي عن تغير قواعد الاشتباك مع إسرائيل على الجبهة السورية، لا سيما في ضوء التصعيد الإسرائيلي ضدها في سوريا وعدم قدرتها على الرد المماثل. بالإضافة إلى ذلك، فإن طهران تبدو مدركة لمستوى التفاهمات الروسية مع باقي الأطراف، والذي قد يضعف من حضورها، وهو ما ألمح إليه موقع "تابناك" المحسوب على أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام محسن رضائي، الذي أشار إلى أن النظام السوري وموسكو اتفقوا على إقصاء طهران مقابل إشراك الدول الغربية في الحل السياسي.
وفى هذا السياق، من المتوقع أن تلجأ إيران إلى العودة خطوة إلى الخلف، بمحاولة استيعاب الضربات الإسرائيلية دون الرد عليها، والقبول بإعادة هيكلة شكل انتشار قواتها ميدانيًا في سوريا، وهو ما ظهر في مفاوضات عمان بشأن منطقة خفض التصعيد المشتركة، وأيضًا في مباحثات موسكو التي أفضت إلى قبول إسرائيل بإعادة انتشار الجيش السوري فقط على الحدود المشتركة وبالتالي إبعاد إيران إلى العمق السوري.
ويعني ذلك أن مساحة المناورة المحدودة أمام إيران ستفرض عليها قواعد انتشار محدودة قد تضطر في سياقها إلى تخفيض مستوى انتشار القوات الموالية لها، والتي تقدر بـ2000 مستشار إيراني، و9 آلاف من عناصر ميليشيا "الفاطميين" و"الزينبيين"، بالإضافة إلى 7 آلاف من عناصر حزب الله.
وعليه يتوقع أن تتجه طهران نحو تخفيف شكل الانتشار بما يتوازى مع تأمين مصالحها ويحافظ على وجود مقبول لها في سوريا، وقد يعاد مأسسته من خلال اتفاق جديد يتم إبرامه مع النظام السوري، مع عدم استبعاد احتمال عزوفها عن إعادة بناء قواعدها ومنشآتها العسكرية التي شكلت أهدافًا عسكرية لإسرائيل في الفترة الماضية، وبالتالي الوصول إلى معادلة مقبولة لوجودها في سوريا.
حدود التوافق:
شهدت التفاهمات الأمنية الروسية– الأمريكية والروسية– التركية حول شكل التواجد خاصة في مناطق غرب الفرات والمناطق الجنوبية، حراكًا في الفترة الأخيرة أفضى إلى التأكيد على طابع "التواجد المؤقت" لتلك القوات، خاصة وأنه يتقاطع مع الرغبة الأمريكية في الانسحاب من سوريا، وإن تضمنت تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرجى لافروف إشارات عديدة حول بعض التحديات التي قد تعرقل تفعيل تلك التفاهمات.
فعلى سبيل المثال، بدأ الخلاف الروسي-الأمريكي حول قاعدة التنف الحدودية يظهر تدريجيًا، إذ أشار لافروف إلى أنه لا أهمية لوجودها، في حين وجهت واشنطن رسائل تفيد أنه رغم رغبتها في الانسحاب من المشهد السوري، إلا أنها مصرة على أن يضمن هذا الانسحاب تنفيذ سياساتها وتحقيق مصالحها، على نحو يشير إلى أنها لن تتجه إلى انسحاب غير مشمول باتفاق خاص بترتيبات أمنية أخرى مع أطراف محلية مثل ميليشيا "قسد".
وعلى ما يبدو، فإن روسيا وإن روجت لأهمية إنهاء الوجود الأجنبي في سوريا، فهى تتجه عمليًا على الأرض إلى ترتيبات توازن قوى تسمح للأطراف المنخرطة في الصراع بتواجد مكافئ لمصالحها وأهدافها، بما لا يؤدي إلى إضافة مسارات جديدة للصراع في سوريا. ومن المتصور أيضًا أن خيارات إيران المحدودة في سوريا حاليًا ستفرض عليها الموازنة بين ترتيباتها السياسية والأمنية في سوريا ومصالحها في الإطار الأوسع، وهو ما سيدفعها إلى التركيز على تواجد يُؤمِّن مصالحها وإن كان لا يحقق تطلعاتها مع عدم توسيع مساحة التباينات مع حلفائها الذين تظل بحاجة إليهم في الملفات الأخرى.