جاءت نتائج الانتخابات العراقية مفاجأة سيئة لإيران؛ هي بدأت التدخل في المنطقة من البوابة العراقية، وليل الأحد الماضي سارت المظاهرات في بغداد تهتف: «إيران بَرّه بَرّه، بغداد صارت حرة».
المنطقة هي إحدى «الأدوات» بين أيدي إيران لتخفيف الضغط الدولي عنها، ثم هناك تطلعها إلى النفوذ. هي تظن أن إسرائيل تسيطر على المنطقة، وتريد أن تحل محلها، تدرك أن العراق لا يزال تحت التأثير الأميركي، لهذا تركز على محور المقاومة الذي يضم بنظرها: إيران، وسوريا، ولبنان («حزب الله») والحوثيين في اليمن، وتريد بالتالي تقوية هذا المحور. تتطلع إيران إلى أن تصبح «قوة عظمى» في المنطقة للوقوف في وجه النفوذين الأميركي والروسي.
قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني يريد أن تغادر أميركا العراق وسوريا لأنها تشكل شوكة في خاصرته. ولأن إيران تريد إظهار أن لديها القوة وليس النفوذ فقط، فإنها تدعم الحوثيين بالصواريخ لإطلاقها على المملكة العربية السعودية، تريد أن يكون لها عمق استراتيجي وتبعد الحرب عن حدودها. ترى أن قوتها في المنطقة ستأتيها بمنافع اقتصادية ضخمة كإعادة بناء سوريا واليمن. الملاحظ أن كثيراً من دول المنطقة في عداد أصدقائها، باستثناء السعودية ودولة الإمارات. أما سوريا والعراق، فقد بدآ يظهران عضلاتهما. خطة إيران التمسك بلوحة التحكم (Control Panel)؛ إذا أرادت الضغط على السعودية تحرك الحوثيين. هي تريد أن تكون لها نقطة عسكرية في اليمن ضد السعودية والبحر الأحمر، لأنه من الأفضل لها أن تقاتل السعودية من اليمن وتبقى في حال ارتياح؛ تمد الحوثيين بالصواريخ، وهذا خرق فاضح للقرار الدولي رقم 2216 الذي يمنعها من إرسال الصواريخ إلى اليمن. عندما أسقطت الدفاعات السعودية صاروخاً أطلقه الحوثيون على الرياض، عقدت مندوبة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي مؤتمراً صحافياً كشفت فيه جزءاً من شظايا ذلك الصاروخ وعليه اسم «SBIG»، وهو نوع من الصواريخ الإيرانية، فاضطرت الأمم المتحدة إلى إرسال خبراء إلى إيران للتحقيق، فجاءوا بتقرير كامل. لم يقولوا إن إيران خرقت القرار الدولي، بل «لم تمنع» تصدير الصواريخ. ورغم ما تصنعه إيران للحوثيين، فإنها لا تستطيع السيطرة عليهم بالكامل، كما تفعل مع «حزب الله» في لبنان.
تنفي إيران دائماً أن صواريخها للهجوم، لكنها تصدرها إلى الحوثيين، كما تصدر لهم كيفية التصنيع، وهذا يسمح لها بالنفي، وتوفر لهم المال؛ إذ إنهم لا يملكون المال؛ وهذا معروف.
النقاط العسكرية الأخرى التي تركز عليها إيران منها 3 ضد إسرائيل؛ الأولى: «حماس» و«الجهاد الإسلامي». حركة «حماس» تبحث دائماً عن سيد، والسيد الآن هو إيران، فغزة بالنسب لها هي الأصغر والأسهل.
النقطة الثانية هي «حزب الله» الذي يقول إنه لبناني، إنما في الواقع هو ذراع إيرانية، توفر له إيران السلاح والمال والصواريخ والقدرة على التصنيع، وتسيطر عليه بالكامل على عكس وضعها مع الحوثيين اليمنيين.
أما النقطة الثالثة؛ ففي عام 2011 جاءت إيران لمساعدة بشار الأسد: قتل كثير من الإيرانيين في تلك السنة؛ نحو 700، اضطرب المرشد «الأعلى» علي خامنئي، فطلب من سليماني إدخال «حزب الله»، ثم بدأت بتشكيل ميليشيات شيعية أفغانية وباكستانية ومقاتلين شيعة من خارج سوريا، من هنا جاء قول السيد حسن نصر الله في إحدى خطبه إن جيوشاً عربية وشيعية ستأتي إلى لبنان للحرب مع إسرائيل!
الآن يمكن القول إنه صار لإيران قوات متحركة ولها عملاؤها، إنما في السنتين الأخيرتين رأيناها تدخل مباشرة في المواجهة؛ إذ بعدما أقدم «داعش» على الهجوم على مجلس الشورى الإيراني، أطلقت إيران صاروخاً فوق العراق مداه 700 كلم لقصف مخيم لـ«داعش» في سوريا. بهذا أظهرت ما تملكه من قوة. وفي 10 فبراير (شباط) الماضي أرسلت إيران طائرة «درون» من سوريا عبر الأردن باتجاه إسرائيل، وكان هذا إظهاراً للقدرات الإيرانية، بعدها أسقط السوريون طائرة «F16» إسرائيلية. أما الـ«درون» الإيرانية فكانت تحمل متفجرات واعتمدت في تصميمها على طائرة الـ«درون» الأميركية التي كانت إيران أسقطتها.
ويقول لي خبير عسكري غربي إن المنطقة كانت على بعد دقائق من الحرب، بسبب الـ«درون»، ولو أن الحرب اشتعلت لدارت في سوريا، ولهذا صرنا نرى الأسد الآن أكثر حذراً، فهو يعرف قوة إسرائيل، وأنه إذا تحولت سوريا إلى ساحة حرب، فإن إسرائيل ستهاجم أنظمة وقواعد الدفاع الجوي السورية.
في الأشهر الأخيرة صار الأسد يتحدى الإيرانيين، لأنه يكفي سوريا الحروب الدائرة فيها، فإذا طلبوا عملية عسكرية معينة يحيلهم إلى روسيا.
يقول محدثي إن روسيا لا تريد الحرب ولها مصالح، أما طلباتها من كل الأطراف المشاركة في الحرب السورية فهي: عدم مهاجمة القوات الروسية في سوريا. حياة الروس يجب أن تكون محمية. أيضاً: لا تأخذوا المنطقة إلى الحرب، ثم الإبقاء على بشار الأسد في السلطة. هو الآن يساعدهم، أما إذا تحداهم فسيتخلون عنه.
يريد الروس وجوداً لهم في المنطقة، والمعادلة المطروحة في نظرهم: إسرائيل لأميركا وسوريا لروسيا.
من ناحيتها، تريد إيران قواعد عسكرية وبحرية في سوريا. روسيا تمنعها من ذلك. وما دام لا أحد يصيب الروس، فروسيا لا تتحرك. وكنا رأينا في 9 مايو (أيار) الحالي الرد الإسرائيلي على قواعد إيرانية في سوريا. ليلة القصف احتجت إيران بأن إسرائيل تقصف قواعدها العسكرية في سوريا، في اليوم التالي تراجعت وقالت إن الصواريخ العشرين التي أطلقت على إسرائيل أطلقها السوريون.
الأدوات التي تملكها إيران هي قوات «فيلق القدس». إنها رمح المؤسسة الإيرانية الأمنية، تأسست لحماية وتصدير الثورة. عام 1998 أصبح قاسم سليماني قائدها؛ بدأ في بناء البنية التحتية خارج إيران للهجمات الإرهابية. عام 2011 كان عام التحول. لم يعد يفكر في البنى التحتية؛ إذ صار «فيلق القدس» جيشاً يقاتل فعلياً في العراق، ثم في سوريا. وصار مقاتلوه يملكون أسلحة متطورة وطائرات «درونز» وصواريخ ويسيطرون على الميليشيات الشيعية، لكن الـ«درون» التي حلقت فوق إسرائيل أطلقها «الحرس الثوري»، وحافظ «فيلق القدس»، على الميليشيات الشيعية التي صارت تربطها «أخوة السلاح» رغم اختلاف اللغات. هذه صارت تتقن القتال بالسلاح الروسي، وإذا وقعت حرب مستقبلية بين إسرائيل ولبنان وسوريا، فستكون هذه الفرق الشيعية منخرطة فيها.
تبقى قصة نقل الأسلحة... هناك 10 رحلات أسبوعياً من طهران إلى دمشق. شركة «ميهان إير» يملك جزءاً منها «الحرس الثوري» و«إيران إير». كانت الرحلات تنقل المدنيين وتكون محملة بالأسلحة، لكن في الأشهر الأخيرة اختلف الوضع، فالرحلات الجوية بحاجة إلى استمارات تملأ، ثم هناك الرادارات، وصار التهريب صعباً، فروسيا تسيطر على الأجواء السورية. لجأت إيران إلى الممر البري، ومنذ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لوحظت كثرة قوافل الشاحنات التي تخرج من إيران وتعبر الصحراء العراقية والسورية، إلى العراق وسوريا ولبنان. الممر يعطي إيران النفوذ الواسع. ثم هناك تهريب السلاح عبر البحر، وهذا صار يشكل مشكلة لإيران، إذ كانت لسنوات تستعمل قناة السويس حتى كشفت إسرائيل عن صفقة من الأسلحة الإيرانية المرسلة إلى «حماس». الآن تستعمل إيران البحر، إلا أن البواخر تتعرض لضغوط حتى تمنع نقل الأسلحة الإيرانية إلى اليمن.
المشكلات صارت تتراكم على إيران، داخلياً الوضع سيئ؛ الرئيس دونالد ترمب انسحب من الاتفاق الذي وقعه بدماء السوريين الرئيس السابق باراك أوباما. دفعت ثمن تدخلها في سوريا بقصف قواعدها هناك، بعد قصف قواتها في قاعدة «T4»، ثم إن الأمم المتحدة نشرت تقريراً ضدها.
في إحدى حلقات «حرب النجوم» يقول الطفل لوالدته: «لا أريد للأشياء أن تتغير». فتجيبه: «لا يمكنك إيقاف التغيير تماماً كما لا يمكنك منع الشمس من المغيب». لقد بدأت الشمس تغيب تدريجياً عن الحكم في إيران.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط