عرض: محمد بسيوني عبدالحليم - باحث في العلوم السياسية
ثمة اتجاه بزغ عقب انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي السابق يُقلل من أهمية دراسات المناطق المقارنة، ومجال السياسة المقارنة بوجه عام. وجادل هذا الاتجاه بأن نهاية الحرب الباردة وانتصار الليبرالية الغربية، أو ما أطلق عليه فرانسيس فوكوياما "نهاية التاريخ"، قد أفضى إلى تراجع -إن لم يكن اختفاء- المناظرات والقضايا الجدلية الكبرى التي كانت قائمة في الماضي، وهو ما يجعل من الدراسات المقارنة أقل جاذبية بالنسبة للعديدين.
بمرور الوقت تعرض هذا الاتجاه لإشكاليات كبرى استدعت مجددًا أهمية الدراسات المقارنة، فالسياق الدولي في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لم يشهد استقرارًا فعليًّا، وتم تجاوز مرحلة "نهاية التاريخ" التي تحدث عنها فوكوياما، وظهرت أطروحات "صدام الحضارات" التي كانت بمثابة تأكيد على فكرة دراسات المناطق المقارنة، ناهيك عن التحولات التي شهدتها العديد من الدول، والصراعات الإثنية، والانتفاضات العربية وما ارتبط بها من صراعات وحروب داخلية في أكثر من دولة عربية لم تنتهِ حتى الوقت الراهن. علاوة على تعاظم دور التنظيمات العابرة للحدود، لا سيما التنظيمات الإرهابية والمتطرفة. وقد عززت كافة هذه المعطيات من أهمية دراسات المناطق المقارنة.
وفي هذا الصدد، يؤكد كتاب "دراسات المناطق المقارنة: المبررات المنهجية والتطبيقات عبر الإقليمية" على أهمية المنهج المقارن في دراسات المناطق باعتبارها مجالًا معرفيًّا متعددًا تتداخل فيها أبعاد وحقول مختلفة على غرار التاريخ والجغرافيا والسياسة والأصول الإثنية للمجتمعات. وينطلق الكتاب، الذي يساهم فيه عددٌ من الباحثين، من فرضية رئيسية مفادها أن البحث المستمر في المناطق المختلفة أمر لا غنى عنه للعلوم الاجتماعية، سواء كطريقة لتوسيع نطاق ملاحظاتنا حيال بعض المناطق، أو كمصدر لأفكار ومقاربات نظرية جديدة.
تطور دراسات المناطق
ارتبطت نشأة دراسات المناطق المقارنة بشكل أو بآخر بالانفتاح الخارجي للمجتمعات، ومحاولة التعرف على طبيعة المجتمعات والدول الأخرى وسماتها، وهو الأمر الذي كان يخدم أهدافًا متنوعة سياسيًّا واقتصاديًّا أو حتى عسكريًّا. أو بمعنى آخر فقد برزت فكرة دراسات المناطق، بحسب الكتاب، في خضم التركيز على "الأماكن والمناطق البعيدة التي تحتاج إلى فهم أفضل من جانب الدول ومراكز القوة العالمية". ولهذا، ارتهن انتشار مؤسسات دراسات المناطق في أوروبا والولايات المتحدة والكتلة السوفيتية السابقة خلال معظم فترات القرن العشرين بالأهداف والطموحات الإمبراطورية وكذلك بالمصالح التجارية الدولية، بالإضافة إلى معرفة الأعداء والبحث عن حلفاء جدد خلال حقبة الحرب الباردة.
وبالرغم من الانتقادات التي وُجّهت إلى دراسات المناطق المقارنة ومحاولة التقليل من أهميتها في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فقد اكتسبت هذه الدراسات، بحسب الكتاب، زخمًا متزايدًا خلال السنوات الماضية لاعتبارات جوهرية، أهمها إشكاليات انتقال العديد من الدول الاشتراكية إلى مصاف الدول الديمقراطية، وما ارتبط بها من صراعات إثنية، وهو ما دفع عددًا من المؤسسات الأكاديمية إلى دراسة طبيعة هذه الدول، وكيفية صياغة نمط مناسب لعملية الانتقال الخاص بها.
وفي السياق ذاته، قدمت العولمة حيزًا جديدًا لدراسات المناطق المقارنة، إذ كثفت العولمة القضايا الجدلية المتعلقة بإعادة تشكيل الوحدات الجغرافية التي ظلت لعقود يتم التعاطي معها على أنها مستقرة، وفي خضم هذا الجدل تزايدت التفاعلات بين الدول، وتنامت الضغوط على الدول، ومن ثم أصبح من الضروري دراسة وتحليل تفاعل واستجابة الدول والمجتمعات لتداعيات العولمة، وماهية تأثيرات العولمة على وحدات النظام الدولي من منظور مقارن يأخذ في الحسبان سمات وخصائص المناطق المختلفة.
وكأحد تجليات العولمة، تشكلت أنواع جديدة من التهديدات الأمنية للدول الغربية تجلت بشكل رئيسي في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 والتي كشفت عن تراجع قدرة الولايات المتحدة على التنبؤ بإمكانية حدوث تلك الهجمات الإرهابية، ولعل هذا ما دفع نحو موجة جديدة من الدراسات الشرق أوسطية التي اهتمت بدراسة وتحليل أوضاع دول الشرق الأوسط، وكيفية تشكيل الأفكار المتطرفة في عددٍ من مجتمعات المنطقة. واعتبر المتخصصون في دراسات المناطق أن الدراسات المقارنة لدول منطقة الشرق الأوسط يمكن أن توفر فهمًا قيمًا لمعطيات المنطقة، كما أنها تسمح بإجراء اختبارات للأطر النظرية على دول المنطقة ومجتمعاتها.
وخلال السنوات الأخيرة، منحت الثورات العربية التي بدأت في تونس نهاية عام 2010، دفعة جديدة لدراسات المناطق المقارنة، لا سيما مع الانتقادات التي وُجهت لدراسات الشرق الأوسط لعدم قدرتها على استشراف أوضاع المنطقة واستيعاب الثورات التي أثرت بالسلب على الكثير من الأنظمة الحاكمة التي صُوِّرت لعقود على أنها أنظمة راسخة ممسكة بزمام الأمور.
وعليه حفزت الثوراتُ العربية إجراءَ دراسات مقارنة داخل المنطقة وبين دول المنطقة ودول في مناطق أخرى تمتلك خبرات مشابهة، كما تنوعت موضوعات هذه الدراسات بحيث لم تعد قاصرة على تناول قضية الإصلاح الديمقراطي في العالم العربي، ولكنها امتدت لتشمل قضايا من قبيل: خرائط قوى المعارضة، والحركات الاجتماعية خاصة الحركات الشبابية، والعلاقات المدنية العسكرية، وأدوار وسائل التواصل الاجتماعي في الواقع السياسي العربي، وأنماط التحول السياسي في المنطقة.
قضايا رئيسية
تندرج دراسات المناطق المقارنة ضمن ثلاثة نماذج رئيسية، هي على النحو التالي:
أولًا- الدراسات البينية داخل المنطقة Intra – area studies بحيث يتم عبرها مقارنة ظواهر الكيانات الجغرافية المختلفة في منطقة معينة.
ثانيًا- الدراسات المقارنة بين المناطق المختلفة Inter area studies والتي تأخذ مناطق أو أقاليم كاملة كوحدات للتحليل. وتحاول مثل هذه الدراسات تحديد الأنماط الإقليمية ومقارنتها عبر مناطق مختلفة.
ثالثًا- دراسات الحالة العابرة للمناطق Cross area studies، وهي تهتم باختيار حالات معينة للدراسة عبر أقاليم متعددة لتحديد خصائص أو سمات مشتركة (أو حتى مغايرة) للوحدات موضع التحليل. على سبيل المثال الدول التي تنتج النفط في مناطق مختلفة.
واستدعت هذه الدراسات عددًا من القضايا المركزية التي يفترض الكتاب ضرورة التعاطى معها عند إجراء مثل هذا النوع من الدراسات، وبوجه عام تتمثل هذه القضايا فيما يلي:
أولًا- معضلة التعددية: حيث إن الجزء الأكبر من الانتقادات التي تعرّضت لها دراسات المناطق المقارنة استند إلى المنظور الغربي المهيمن على الدراسات وما ارتبط به من أفكار المركزية الغربية في التعامل مع المناطق الأخرى، أو بتعبير آخر ثنائية الغرب والآخرين. ولهذا حرص بعض الباحثين على الابتعاد عن الدراسات المقارنة لأنهم اعتقدوا أن هذه الدراسات تنطوي على ممارسات موسومة "بالغطرسة الثقافية، وإهانة الآخر والتقليل من شأنه".
ومن هذا المنطلق، تبدو ثمة حاجة ملحة للتأكيد على مقاربة تعددية وأكثر شمولية تأخذ في حسبانها رؤى مختلفة، وتدمج الأصوات المهمشة، لا سيما في الدول الأقل تقدمًا في العالم غير الغربي.
ثانيًا- حساسية السياق: يشكل السياق محورًا هامًّا في دراسات المناطق المقارنة، وهو ما عبر عنه كل من تشارلز تيلي وروبرت جودن بالقول إن "الاهتمام بالسياق لا يفسد الوصف والتفسير للعمليات السياسية، أو الاجتماعية بشكل أوسع نطاقًا، بل بالعكس فإن هذا الاهتمام يُعزز المعرفة المنهجية". وتماشيًا مع هذا الطرح، يفترض لورانس وايتهيد، أحد المشاركين في الكتاب، أن حساسية السياق تكتسب أهمية في دراسات المناطق المقارنة.
وعطفًا على ما سبق، يتعين التركيز عند دراسات السياقات الإقليمية المتناقضة بشكل رئيسي على الفهم والتفسير بدلًا من الاهتمام القاصر على العلاقات السببية؛ وذلك لأنه عندما تكون السياقات مختلفة، فإن العلاقات السببية التي قد تبدو تلقائية تقريبًا في سياق وبيئة ما يمكن أن تؤدي إلى نتائج مختلفة ومغايرة في سياق آخر، ناهيك عن الطبيعة المعقدة للعلاقات السببية. ولذا، يلزم إعادة تفسير وتحليل وبناء العلاقات انطلاقًا من السياق الداخلي وليس مجرد فرض نماذج تفسيرية ومجهزة من الخارج. وتتطلب حساسية السياق أيضًا من الباحثين التعامل بحذر مع المفاهيم المستخدمة وتفسيراتها المختلفة من منطقة لأخرى.
ثالثًا- أدوات التحليل المتعددة، إذ تستدعي دراسات المناطق المقارنة استخدام أدوات وطرقًا تحليلية متعددة لتعزيز فاعلية ودقة الدراسات، ومن ضمن هذه الأدوات التحليل الكمي الكلي، والبحوث المسحية، والسجلات العامة، والعينات الإثنوغرافية، وتحليل الخطاب، ورسم الخرائط.
ولا يمكن إغفال أن مختلف هذه الأدوات شهدت تطورات ملحوظة خلال العقود الماضية، فقد باتت البيانات الوطنية المفصلة والموثوقة متاحة بشكل كبير، بما في ذلك البيانات الصادرة عن مؤسسات الدولة أو حتى تلك الصادرة عن المنظمات الإقليمية. كما شهدت الدراسات الإثنية وبحوث المسح الاجتماعي تطورات هائلة خلال العقود الماضية، والأمر ذاته بالنسبة للخرائط، لا سيما مع التطورات التكنولوجية، على غرار الجي بي إس "GPS" والمعالجات الرقمية، التي أحدثت ثورة في مجال رسم الخرائط.
وبموازاة أدوات التحليل المتعددة، تأتي البروتوكولات المعرفية Epistemic Protocols كإحدى آليات الضبط المنهجي لدراسات المناطق المقارنة، وتشمل هذه البروتوكولات عددًا من الإجراءات من قبيل تعريف المنطقة، وتحديد المشكلة والمفاهيم، ومراجعة الأدوات والمقاربات التحليلية، وتحديد إجراءات تجميع البيانات، والتحقق من المدخلات التحكمية مع الأقران (المتخصصون في المجال المعرفي)، وتحديد القواسم المشتركة وأوجه التباين، والنظر في الاستنتاجات وما يمكن استخلاصه منها.
رابعًا- المهارات البحثية: تتطلب دراسات المناطق المقارنة توافر عددٍ من المهارات الهامة للباحثين، لعل أهمها توافر اللغة المطلوبة لفهم ديناميات المنطقة موضوع الدراسة، بالإضافة إلى الخبرة الميدانية. ونظرًا لاتساع حيز دراسات المناطق المقارنة فإن العمل الجماعي وتشكيل فرق بحثية (بأفراد ذوي مهارات بحثية متعددة) يُعد أمرًا هامًّا وذلك لأنه يساعد في التغلب على العزلة والانفصال بين المجتمعات البحثية والتي تنتج عن عدة قيود عملية على غرار الحواجز اللغوية، كما أنه يتيح إجراء أبحاث ميدانية تُفضي إلى نتائج ذات مغزى.
خامسًا- كفاية التمويل: يحتاج إجراء دراسات المناطق المقارنة إلى تمويل كافٍ وخاصة في حالة الأبحاث الميدانية. وبالرغم من أن الكثيرين انتقدوا تراجع التمويل للدراسات المقارنة في الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية، فقد شهدت أوروبا نماذج جديدة للتمويل ساهمت في تعزيز الدراسات المناطقية، ففي بريطانيا لا يزال هناك عدد من المؤسسات الرائدة التي تجتذب الباحثين المتميزين وتدعم الأبحاث التي تركز على المناطق، ومنها على سبيل المثال كلية الدراسات الشرقية والآسيوية في جامعة لندن التي تأسست عام 1916 لتعزيز المعرفة والدراسات حول آسيا، كما توجد العديد من المؤسسات المختصة في دراسات المناطق والدول المختلفة. وبعض هذه المؤسسات منضم لمجلس المملكة المتحدة لروابط دراسات المناطق المؤسسة عام 2003.
وفي الإطار ذاته، قام مجلس أبحاث الآداب والعلوم الإنسانية والأكاديمية البريطانية وهيئات تمويل حكومية أخرى بتمويل خمسة مراكز لدراسات المناطق المستندة إلى لغات محددة، وتركز هذه المراكز على دراسات الصين واليابان والعالم العربي ومناطق أوروبا الشرقية. واتساقًا مع هذا النهج، قدمت الحكومة الفيدرالية الألمانية منذ عام 2006 تمويلًا كبيرًا لتطوير الجامعات الحكومية، واستفاد من هذا التمويل مؤسسات ومراكز دراسات المناطق.
واستفادت أيضًا مؤسسات ومراكز أبحاث دراسات المناطق المختلفة من مبادرة التمويل التي دشنتها وزارة التعليم والأبحاث الفيدرالية الألمانية عام 2009 التي استهدفت بصورة رئيسية تدعيم مجموعة واسعة من دراسات المناطق وشبكات التفاعلات والتدفقات عير الأقاليم. كما طرحت الوزارة مبادرة لتعزيز الزمالة والتعاون مع المؤسسات في مناطق مختلفة، على غرار الصين وإفريقيا جنوب الصحراء، وأمريكا اللاتينية.
خلاصة القول، إن دراسات المناطق المقارنة ستظل لها أهمية في خضم الأزمات الدولية الراهنة، والتحولات والتفاعلات التي تعايشها المجتمعات بفعل العولمة، والتي عقدت من مقاربات التعاطي مع المناطق الموسومة بدرجة كبيرة من الديناميكية. وهو ما جعل أميتاف أتشاريا يشير إلى أنه "لم يعد يُنظر إلى المناطق على أنها كيانات مادية ثابتة أو خرائطية أو ثقافية، وإنما كمساحات ديناميكية وهادفة ومبنية اجتماعيًّا.. أو بمعنى آخر هي بنى مادية وفكرية تتولد من الخيال والخطاب والتنشئة".
المصدر:
Ariel I. Ahram, Patrick Köllner and Rudra Sil (Editors), “Comparative Area Studies: Methodological Rationales and Cross- Regional Applications”, (New York: Oxford University Press, 2018)