كشفت عودة "سعد الحريري" إلى لبنان، في 21 نوفمبر 2017، بعد 18 يومًا من الاستقالة، عن بدء فصل جديد من الأزمة اللبنانية، فعلى الرغم من إعلان رئيس الحكومة اللبنانية التريث في الاستقالة بناء على طلب الرئيس "ميشال عون"؛ إلا أن حالة الاحتقان الداخلي والضغوط الإقليمية والدولية لا تزال قائمة بسبب توسع الدور الإقليمي لحزب الله اللبناني وتهديداته لأمن الدول العربية، ومخالفته لسياسة "النأي بالنفس" التي يتمسك بها "الحريري" لتحصين لبنان من تعقيدات الأوضاع الإقليمية.
سياقات ما قبل العودة:
تمسك مؤيدو "الحريري" قبل عدوله عن الاستقالة بعدة مطالب تؤكد جمعيها ضرورة تقليص نفوذ "حزب الله"، وعدم قيامه بالإضرار بأمن دول الإقليم، وهي المطالب التي أكدها "سعد الحريري" في لقائه التليفزيوني من الرياض، في 12 نوفمبر 2017، حيث أعلن رفضه ضرب السعودية بصاروخ من اليمن، مؤكدًا احتجاجه على "وجود أي مكون لبناني في اليمن".
وقد حاول الأمين العام لحزب الله "حسن نصر الله" إنكار هذه الاتهامات أكثر من مرة؛ فقد صرح "حسن نصر الله"، في 10 نوفمبر 2017، بأن "حزب الله" لم يتدخل في اليمن، وأن الانسحاب من العراق وسوريا بات قريبًا لانتهاء المعركة فيهما، وأعاد تأكيد هذا مجددًا في 20 نوفمبر 2017 حين نفى أي وجود عسكري لحزب الله في اليمن.
وفي هذا الإطار، سعت بعض الدول للوساطة والتخفيف من حدة الأزمة مثل فرنسا، حيث قام الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" بزيارة للمملكة العربية السعودية أكد خلالها أهمية استقرار لبنان، كما دعا "سعد الحريري" لزيارة رسمية إلى فرنسا بالتوازي مع فتح قنوات تواصل فرنسية مع طهران.
فيما دعت الأطراف العربية إلى عقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب، في 19 نوفمبر في القاهرة، صدر عنه بيان غير مسبوق يدين تدخلات إيران في الدول العربية، ويعتبر إطلاق صاروخ إيراني الصنع على الرياض "تهديدًا للأمن القومي العربي"، كما وصف حزب الله "بالإرهابي الذي يدعم الجماعات الإرهابية في الدول العربية بالأسلحة المتطورة والصواريخ الباليستية، مطالبًا حزب الله "بالتوقف عن نشر التطرف والطائفية، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وعدم تقديم أي دعم للإرهاب والإرهابيين في محيطه الإقليمي"، كما تم تكليف المجموعة العربية في الأمم المتحدة بمخاطبة رئيس مجلس الأمن لتوضيح الخروقات الإيرانية للقرارات الدولية 2216 و2231.
فيما اتجه الداخل اللبناني للتهدئة، خصوصًا مع فتح "سعد الحريري" باب العودة عن الاستقالة في حال تعهد "حزب الله" بالالتزام بمبدأ النأي بالنفس قولًا لا فعلًا، وإعادة الاعتبار له كما جاء في مقابلته التلفزيونية في 12 نوفمبر، معلنًا فيها أن عودته إلى لبنان تحتاج إلى مسألة أيام قليلة.
محفزات عودة "الحريري":
مع قيام "سعد الحريري" بزيارة فرنسا في 18 نوفمبر لم يعد من الممكن على فريق "8 مارس" الاستمرار في نشر الشائعات حول ظروف الاستقالة، خاصة أن "سعد الحريري" قام بنشر تغريدة على حسابه الرسمي على تويتر، في 17 نوفمبر، قال فيها إنه يقوم -في ذلك الوقت- بإجراء مشاورات حول مستقبل الوضع في لبنان، وعلاقته بمحيطه العربي، وكل ما يشاع خلاف ذلك لا يعدو كونه شائعات.
ويبدو أن المشاورات بين "الحريري" و"ماكرون" انتهت إلى أن التحكم بالأزمة يستوجب القيام بخطوات فعالة في الداخل اللبناني، وهو ما يُفسّر إعلان "سعد الحريري" من باحة قصر الإليزيه في باريس عن تحديد تاريخ عودته إلى لبنان للمشاركة بعيد الاستقلال الوطني في 22 نوفمبر، وبأن مواقفه السياسية سيعلنها من هناك، خصوصًا مع وصول إشارات داخلية تفيد بالاستعداد لمناقشة أسباب الاستقالة.
وقد أدى وضوح المطالب الإقليمية، وتوفر الوسيط المقبول من طرفي الأزمة، والاستعداد لمناقشة أسباب الاستقالة داخليًّا، وحرص الفاعلين الدوليين على تهدئة الداخل اللبناني؛ محفزًا لعودة "الحريري" إلى لبنان. فقد أكدت عدة بيانات وتصريحات صادرة عن وزارات خارجية الدول الكبرى، كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، على اعتبار "سعد الحريري" شريكًا موثوقًا به، وأن وجوده في لبنان "يصب في مصلحة الاستقرار السياسي في لبنان".
سيناريوهات ما بعد التراجع:
يرى البعض أن الاستقالة التي قدمها "الحريري" كانت بمثابة إنذار ضد تزايد نفوذ حزب الله على حساب الدولة اللبنانية، ومحاولات "حزب الله" تهديد أمن وسلامة الإقليم بأكمله، وبعد إعلان "الحريري" تعليق استقالته فإن احتمالات عدم الاستقرار لا تزال قائمة، ويمكن توضيحها فيما يلي:
1- المشاورات السياسية: قد يقوم رئيس الجمهورية اللبنانية بجولة مشاورات سريعة مع كافة الأطراف والمكونات السياسية حول تصوراتهم للتوافق على آلية جديدة لتطبيق مبدأ "النأي بالنفس"، والخروج بصيغة تتبناها الدولة اللبنانية ويوافق عليها "حزب الله"، يتم التعهد فيها بعدم التعرض للدول العربية، وهي الصيغة التي أدت إلى التريث في تقديم الاستقالة، حسب ما أعلنه "سعد الحريري" في 22 نوفمبر بعد اللقاء الذي جمعه مع رئيس الجمهورية.
2- حكومة تصريف الأعمال: في حالة فشل المشاورات وإعلان "حزب الله" عدم موافقته على الالتزام بمبدأ النأي بالنفس، فمن المتوقع أن يتجه "الحريري" للمضي قدمًا في الاستقالة، وبالتالي الشروع في عملية تأليف حكومة لبنانية جديدة، وهو ما قد يأخذ مدة زمنية طويلة، مما يعني بقاء الحكومة المستقيلة لتصريف الأعمال ربما إلى موعد الانتخابات النيابية القادمة في مايو 2018
3- تطبيق "النأي بالنفس": ارتبطت استقالات الحكومات في لبنان بالأزمات التي يثيرها "حزب الله"، فقد سبق وأن استقال الوزراء التابعون لحزب الله وحلفائهم من حكومة الوحدة الوطنية في عام 2011، وهو ما أدى لإسقاط هذه الحكومة، كما استقال رئيس الحكومة "نجيب ميقاتي" في عام 2013 اعتراضًا على قيام "حزب الله" بتمهيد الأجواء للدخول إلى سوريا، ولم يختلف الحال كثيرًا فيما يتعلق بالاستقالة الاحتجاجية التي قدمها "الحريري" اعتراضًا على التمدد الإقليمي لحزب الله، وربما يؤدي ضبط سلوك "حزب الله" إلى استقرار حكومي أكبر في لبنان.
وهو ما يرتبط بضرورة إعادة النظر في مبدأ "النأي بالنفس" الذي صدر ضمن "إعلان بعبدا" في يونيو 2012 بعد مشاورات أجرتها القوى الوطنية في ذلك الوقت. وقد أشار الإعلان في مادته 12 إلى "تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليميّة والدوليّة، وتجنيبه الانعكاسات السلبيّة للتوتّرات والأزمات الإقليميّة، وذلك حرصًا على مصلحته العليا ووحدته الوطنيّة وسلمه الأهلي، ما عدا ما يتعلق بواجب الالتزام بقرارات الشرعيّة الدوليّة والإجماع العربي والقضيّة الفلسطينيّة المحقّة، بما في ذلك حقّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم وعدم توطينهم"، وقد قبل بها "حزب الله" في ذلك الحين؛ إلا أن انخراطه في الصراع السوري دفعه إلى التنصل منها لاحقًا، خاصة مع تغير موازين القوى في سوريا.
وستسعى القوى المضادة لحزب الله في الفترة المقبلة لتأكيد هذا المبدأ، ليشمل كافة الصراعات التي تكون إيران طرفًا فيها، أو الخلافات الإقليمية بصفة عامة.
وإجمالًا، يمكن القول إن لبنان دولة ذات خصوصية شديدة ينطبق عليها ما ذكره "أرند ليبهارت" عند حديثه عن الديمقراطية التوافقية، وطريقة حكم المجتمعات التعددية، وضرورة تسامح النخب الحاكمة فيما بينها، والحاجة إلى إنتاج التسويات عند حدوث الأزمات السياسية، وهي الخصوصية التي أكدها الأمين العام لجامعة الدول العربية "أحمد أبو الغيط" في زيارته الأخيرة إلى لبنان وفي لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين؛ إلا أن هذا لا يعني السماح لبعض المكونات اللبنانية باستغلال هذه الخصوصية لزعزعة أمن الدول العربية.