حملت الأيام الأخيرة مؤشرات جديدة تؤكد الانطباع بأن ثمة انحرافاً في إدارة جهود الحرب على الإرهاب يمكن أن يهدد الغاية منها، وهي استئصال جذور الإرهاب الذي ألحق بنا أضراراً مدمرة. ففي البداية ثار الشك في الصفقات التي كانت تُعقد في سياق الصراع السوري بإخلاء المقاتلين من مناطق معينة وترحيلهم إلى أماكن أخرى، ومع ذلك كان المرء يمنّي نفسه بأن يكون هؤلاء المقاتلون مناضلين عاديين من أجل الحرية، غير أن تكرار هذه الصفقات أكد بما لا يدع مجالاً لشك أنها تتضمن عناصر إرهابية. ومن هنا ثار السؤال حول مدى سلامة هذا التكتيك في محاربة الإرهاب، بمعنى أنك حين تُزيحه من مكان إلى آخر فسيتعين عليك إن كنت جاداً في محاربة الإرهاب أن تواجهه لاحقاً في أماكن جديدة، ناهيك عن الشك في أن تكون عمليات الترحيل هذه مقدمة لتقسيم على أساس طائفي بغيض.
وفي أغسطس الماضي حدثت الواقعة التي لاشك في دلالتها بالنسبة لموضوعنا، ففي سياق حرب «حزب الله» على «داعش» في منطقة الحدود اللبنانية تكشفت الأحداث عما سُمي باتفاق القلمون ومضمونه خروج مقاتلي «داعش» من منطقة القتال بعد تسليم أنفسهم إلى الجيش السوري و«حزب الله» على أن يُنقلوا وأسرهم إلى دير الزور عند مدينة البوكمال على الحدود مع العراق بعد أن يكشفوا عن مصير الجنود الأسرى اللبنانيين المحتجزين منذ سنوات لديهم. كما تضمن الاتفاق أيضاً تسليم أسير وستة جثامين لمقاتلين تابعين لـ«حزب الله»، وقد أثار هذا الاتفاق في حينه ردود فعل سلبية في الساحة اللبنانية باعتباره تفريطاً في جهود استئصال الإرهاب، فيما ردت مصادر «حزب الله» بأن الاتفاق جنب لبنان المزيد من إراقة الدماء وكشف مصير الجنود الأسرى اللبنانيين. غير أن الغضب الأشد جاء من الأوساط العراقية الرسمية والشعبية حيث وصف رئيس الوزراء العراقي الاتفاق بأنه عمل غير مقبول، واستهجنت قوى سياسية عديدة الاتفاق باعتبار أن «تصدير» الإرهابيين إلى حدود العراق عمل يمثل تهديداً لأمنه وهو الذي أُثخن بالجراح طويلاً في الحرب على «داعش». ومع ذلك، وكما في الحالة اللبنانية، وُجد من بين القوى السياسية العراقية المتعاطفة مع إيران و«حزب الله» من يقلل من أهمية العملية لقلة عدد الإرهابيين الذين تم نقلهم للحدود العراقية.
ثم كانت ثالثة الأثافي بالتقرير الذي أذاعته فضائية بريطانية عما أسمته «سر الرقة القذر» وكشفت فيه أسرار خروج مقاتلي «داعش» من الرقة، وكانت «قوات سوريا الديمقراطية» قد أذاعت أن عشرات من مقاتلي «داعش» المحليين قد سُمح لهم بالخروج مع أسرهم بعد أن تأكدت هزيمتهم، وأن هذا الاتفاق قد تم بوساطة قيادات عشائرية. غير أن تقرير الفضائية البريطانية كشف من خلال استقصاءات وصور وشرائط فيديو وحوارات مع السائقين الذين قاموا بنقل المقاتلين أن عددهم بالآلاف وأنهم تضمنوا مئات المقاتلين الأجانب، وأنهم خرجوا بكميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، بل إنهم كانوا جميعاً يرتدون أحزمة ناسفة تحسباً لأي غدر بهم! وبطبيعة الحال نفت «قوات سوريا الديمقراطية» هذه الرواية، وتمسكت مصادرها بما سبق وأعلنته عن خروج عدد محدود من المقاتلين المحليين. وبغض النظر عن الجدل حول التفاصيل ودقتها فإنه من الواضح أن هناك عنصراً جديداً في سياسات محاربة الإرهاب ينطلق من نظرة جزئية لا مانع بموجبها من «كنس» الإرهاب من منطقة معينة لإخلائها من العناصر الإرهابية، ولا مانع أيضاً بموجب هذه السياسة من انتقال هذه العناصر إلى أماكن أخرى داخل الدولة المنكوبة بالإرهاب أو خارجها. ولا منطق لهذه السياسة سوى إعلان نصر على الإرهاب في منطقة ما وتقليل تكلفة هذا النصر ولكنه بالتأكيد نصر مراوغ وغير مكتمل. وعلى كل من يتصور أن الحرب على الإرهاب يمكن أن تتجزأ أن يدرك أنه إما ساذج أو متواطئ مع الإرهاب ولو دون وعي منه، فسيتحول الإرهابيون بموجب هذه السياسة إلى فرق تنشر الموت والخراب في أي مكان يصلون إليه، وقد تقوى شوكتهم مجدداً فيعيدون الكرة على من تسامحوا معهم. ولاشك أن هذه الاتجاهات الخطيرة في سياسات الحرب على الإرهاب تتطلب من كل القوى المخلصة في استهدافه تقييماً موضوعياً لهذه السياسات لفضح آثارها ومواجهة تداعياتها الخطيرة.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد