تزامن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016 مع ما وصفه الخبراء الأميركيون والأوروبيون بأنه حملة الكرملين المثيرة للقلق من إعادة صياغة قواعد الفضاء السيبراني العالمي.
ولقد حصلت مؤخراً من أحد خبراء الأمن على نسخة من مشروع اقتراح روسي بشأن «اتفاقية الأمم المتحدة للتعاون في مكافحة الجرائم المعلوماتية». وتشتمل الوثيقة المكونة من 54 صفحة على 72 مادة مقترحة، وهي تغطي حركة المرور على الإنترنت بواسطة السلطات، و«قواعد السلوك المتبعة» في الفضاء السيبراني، و«التحقيق المشترك» في الأنشطة الخبيثة. ولغة الوثيقة تبدو بيروقراطية وغير ضارة، ولكن الخبراء يقولون إنه في حال اعتماد الوثيقة، فسوف تسمح لروسيا بممارسة المزيد من الضغوط على الفضاء السيبراني.
ويقول الكثير من الخبراء السيبرانيين الأميركيين إن الاتفاقية المقترحة من جانب الكرملين سوف تعزز من قدرات روسيا وغيرها من البلدان السلطوية، في بسط السيطرة على الاتصالات داخل تلك البلدان، وإمكانية الوصول إلى الاتصالات في بلدان أخرى. ولقد وصف الخبراء المشروع الروسي المذكور بأنه جزء من مساعي موسكو على مدى العقد الأخير لصياغة الهيكل القانوني لما يفضل خبراء الاستراتيجية الروسية تعريفه بأنه «الفضاء المعلوماتي».
ولقد تم طرح الاقتراح الروسي من جانب الكرملين في وقت سابق من العام الحالي، ونشرت نسخة موجزة منه في 4 أبريل (نيسان) الماضي على صفحات جريدة «كومرسانت» الروسية. وذكرت الجريدة الروسية اليومية أن وزارة الخارجية الروسية وصفت الاتفاقية بأنها محاولة «مبتكرة» و«عالمية» لاستبدال اتفاقية بودابست لعام 2001، والتي وقعت عليها الولايات المتحدة الأميركية إلى جانب 55 دولة أخرى، ولكنها كانت مرفوضة من جانب روسيا. وقالت الجريدة الروسية أيضاً: «السلطات الروسية ارتأت تهديداً مباشراً لسيادة البلاد عبر ميثاق بودابست».
والمحاولة الروسية لإعادة صياغة القواعد العالمية من خلال الأمم المتحدة تزامنت مع محاولة شخصية بشأن التعاون السيبراني في يوليو (تموز) الماضي من طرف الرئيس فلاديمير بوتين إلى الرئيس دونالد ترمب، في قمة مجموعة العشرين السابقة في هامبورغ. ولقد نفى الرئيس الروسي وبشدة للرئيس ترمب أن بلاده قد تدخلت في الانتخابات الرئاسية الأميركية، كما قال الرئيس ترمب مغردا على «تويتر». ثم طرح الرئيس ترمب اقتراحاً مثيراً للحيرة: «ناقشت مع الرئيس بوتين تشكيل وحدة للأمن السيبراني لا يمكن اختراقها حتى تكون القرصنة الانتخابية، وكثير من الأمور السلبية الأخرى، قيد الأمن والسيطرة».
ولقد أثار اقتراح ترمب بانضمام الولايات المتحدة إلى روسيا في الدفاع السيبراني ضجة هائلة في الولايات المتحدة. وكتب أحد المعلقين على «تويتر» يقول: «إن هذا مثل أن تطلب المباحث الفيدرالية من المافيا تشكيل وحدة لمكافحة الجريمة سويا».
وسرعان ما تراجع البيت الأبيض في أعقاب تغريدة الرئيس ترمب. وصرح مستشار الأمن الداخلي توم بوسرت للصحافيين يوم 14 يوليو يقول: «لا أعتقد أن الولايات المتحدة وروسيا قد تطرقتا إلى هذه النقطة بعد، فيما يتعلق بالفضاء السيبراني. وحتى نتطرق إليها، لن تكون هناك محادثات بشأن الشراكة السيبرانية».
ويشارك كثير من خبراء الإنترنت الرأي مع السيد بوسرت بأنه على الرغم من أن أية معاهدة أو شراكة رسمية الآن مع موسكو هي خطوة لا تتسم بالحكمة، فإن المناقشات الهادئة الرامية لبناء الثقة بين الجانبين قد تكون مفيدة. وهذه المناقشات قد تتضمن الاتصالات على المستوى العسكري أو الاتصالات التقنية لاستكشاف كيفية تجنب الأحداث السيبرانية الكارثية، التي قد تسبب الشلل للنظم الاستراتيجية أو تشكل مخاطر نظامية أخرى.
ولقد حافظ المسؤولون الأميركيون والروس على هذا الحوار لاستكشاف قواعد الإنترنت، ولكن حتى الآن وصل الحوار إلى طريق مسدود. كان الجانب الروسي تحت قيادة أندريه كروتسكيك، المسؤول في وزارة الخارجية والمستشار السيبراني للرئيس الروسي، وعلى الجانب الأميركي، كان هناك كريستوفر بينتر، وكان يشغل كبير مستشاري البيت الأبيض لشؤون الإنترنت في عهد الرئيس باراك أوباما، ثم منصب المنسق السيبراني في وزارة الخارجية، وهو المنصب الذي غادره العام الحالي.
تعتبر هذه الاتصالات معقولة، ولكن مصيرها كان التلاشي بمرور الوقت مع تدهور العلاقات الأميركية الروسية. ولقد توقفت مجموعة العمل رفيعة المستوى عن الاجتماع بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2014. ثم انهارت مجموعة الخبراء الحكوميين حول أمن المعلومات برعاية الأمم المتحدة في يونيو (حزيران) الماضي، بعد الفشل في التوصل إلى إجماع للآراء حول إجراءات تحسين أمن المعلومات. وسرعان ما اختفى المقترح الثنائي من قبل الرئيس بوتين في هامبورغ بعد التأييد السابق لأوانه الذي تلقاه من الرئيس دونالد ترمب.
ويواصل الجانب الروسي، في الأثناء ذاتها، حملته لتنظيم الفضاء السيبراني وفق شروطه، من خلال حشد الحلفاء لدعم البديل المطروح من جانبهم على ميثاق بودابست، وتكمن شكوى موسكو الأساسية في أن المادة 32 (ب) من ميثاق بودابست تسمح لأصحاب البيانات بالسيطرة على استخدامها، بدلا من الحكومات. وتريد موسكو بسط سيطرة الدولة على المعلومات.
ولقد نالت روسيا بعض الدعم العالمي لجهودها في اجتماع سبتمبر (أيلول) الماضي في مدينة شيامين الصينية، لما يسمى بمجموعة دول البريكس، وهي تضم البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا. وأقرت بلدان المجموعة في إعلانها الرسمي بضرورة صياغة آلية تنظيمية ملزمة بشأن مكافحة الاستخدام الإجرامي لتقنيات المعلومات والاتصالات تحت رعاية الأمم المتحدة. وتعترف بلدان المجموعة بالمبادرة الروسية الساعية لصياغة الميثاق الملزم الجديد.
إذا كانت أحداث العام الماضي قد لقنتنا أي درس، فهو أن روسيا تنظر إلى المعلومات من زاوية أنها سلاح سياسي حاسم، ومن واقع ذلك فهي تريد السيطرة على فضاء هذه المعارك المحتملة. ولا يحظى الجانب التنظيمي العالمي لهذه المنافسة بالكثير من الاهتمام، ولكنه يمكن أن يساعد في تحديد ما إذا كان يمكن لتدفقات المعلومات الصمود في عصر المستبدين.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط