خلال السنوات الأربع الأولى من الثورة السورية، كانت سياستا روسيا وإيران في سوريا مُتناغمتين وقائمتين على الانضباط وتوزيع الأدوار بشكلٍ سلس وبسيط للغاية. فمن ناحية، كانت موسكو تقوم بضبط ولعب دور المُدافع عن النِظام السوري في المحافل والمؤسسات الدولية، خصوصاً في إفشال أية قرارات يُمكن أن تصدر عن مجلس الأمن. وكانت تستحوذ، مُقابل ذلك، على كُل الثِمار السياسية الاستراتيجية من بقاء نِظام بشار الأسد، وتساوم بالمسألة السورية في باقي الملفات العالقة بينها وبين القوى الكُبرى، من أوكرانيا إلى مسألة الدرع الصاروخية إلى خلافاتها مع تُركيا.
في ذات الوقت، كانت إيران مُخولة بأن تعلب دوراً محورياً في إسناد النِظام السوري من الداخل، وحمايته من دعم الدول الإقليمية للمعارضة السورية. وقد تنامى النفوذ الإيراني بالتقادم، حيث بدأت طهران دعم نظام الأسد سياسياً، وفتح خطوط الائتمان المالية له، ثم دفعت بالأذرع والميليشيات العسكرية الإقليمية التابعة لها، لكي تُدافع عن المقامات الشيعية في سوريا، ثم حدث انخراط تام من قِبل هذه القوى الميليشياوية في الحرب السورية، وأخيراً انخرطت الأجنحة النِظامية وغير النِظامية من القوات الإيرانية في هذه الحرب، وعلى جميع الجبهات.
تغير الأدوار الروسية والإيرانية في سوريا
أغلب الظن أن تبدلاً جوهرياً طرأ على توجهات كِلا الطرفين الروسي والإيراني، وبالتالي في "مطامع" كُلٍ مُنهما في المسألة السورية. فقد حدث نوع من الخلاف الجوهري بينهما، بحيث أدى لاحقاً إلى أن يظهر وكأنه توجد استراتيجيتان مُتباينتان لكُل منهُما في سوريا، وأن النِظام السوري يستميت في خلق توافق بين خطي علاقته مع كِلا الطرفين.
فقد اكتشفت روسيا، في لحظة ما، أن استخدامها الملف السوري في علاقاتها ونفوذها الدولي، لا يأتي لها بعوائد مُناسبة، فهي لم تستطع أن تحل الملف الأوكراني، ولم تحد من توجه الولايات المُتحدة والدول الأوروبية إلى المزيد من نشر الدرع الصاروخية، وزادت حدة العقوبات الأوروبية والأمريكية الاقتصادية عليها، وتسببت في انهيار أسواق النفط عبر علاقتها غير التوافقية مع دول الخليج العربية. كما زاد الملف السوري من تناقض موقف موسكو مع الشعور العام للمُسلمين الروس "السُنة"، لأنها تظهر وكأنها مُوالية للنفوذ الإيراني المُضاد للعرب السُنة في الشرق الأوسط. حدث كُل ذلك من دون أن يكون ثمة أفق لما يُمكن أن تجنيه روسيا مُستقبلاً من الملف السوري، وفي ظل استحالة حدوث الحسم من أي من أطراف الصراع.
وبالتالي تنبهت روسيا إلى إمكانية حضورها بشكل فعلي ومُباشر في الساحة السورية، عبر فرض نفسها كقوة عسكرية مُباشرة، تستطيع بعد عملية عسكرية نوعية وغير طويلة، أن تفرض نفسها كطرف حلٍ وحيد في المسألة السورية، وأن يكون هذا الحل السوري ضمانة لنفوذها المُستقبلي، وأن تبدأ انطلاقاً من عملية الحل تلك، جني تبعات نفوذها في سوريا.
بناءً على ذلك، بدأت روسيا حملتها العسكرية في سوريا، لكنها في الوقت نفسه انخرطت بشكل موازٍ وحساس في عملية تفاوض سياسية مع الولايات المُتحدة على مُستقبل المسألة السياسية السورية، وكذلك فرضت على النِظام السوري القبول بالهدنة العسكرية والجلوس على طاولة المفاوضات.
وعلى عكس ذلك المسار تماماً، فإن إيران بُعيد توقيع الاتفاق النووي مع الغرب، شعرت وكأنها عبرت الطريق الصعب مع الدول الكُبرى، دون أن تُقدم أية تنازلات من نفوذها وأدوارها الشرق أوسطية، وأن المُجتمع الدولي يُمكن أن يقبل بها كقوة مُهيمنة إقليمياً، وأن خطواتها الحرجة في سوريا يُمكن أن تغدو أكثر جُرأة، وأن تتحول عبر ملفات محاربة الإرهاب ومواجهة تنظيم "داعش" إلى شريك للقوى الدولية في المنطقة.
وباتت إيران تُظهر دورها ونفوذها العسكري المُباشر في المسألة السورية، وتُعبر عن رغبتها في حسم الملف السوري بشكل عسكري تام، وتسند نِظام الأسد في محاولاته للتهرب من أية عملية تفاوضية قد تؤدي إلى حلول وسطى، تُقلل من سيطرته وهيمنته المُطلقة على سوريا.
أي أنه بطبيعة الأحداث التي تقادمت في الملف السوري، وعلاقتها بالتحولات على الساحة الدولية، فإنه جرى تبدل تام في الاهتمامات الروسية والإيرانية في الساحة السورية، ورغبتهُما في جني عوائد سياسية منها. ففي حين كانت روسيا فاعلاً دولياً، تحولت إلى لاعب إقليمي ومحلي مُنخرط تماماً على الأرض في تفاصيل الحرب السورية. بينما تحولت إيران من مُساند ومُنخرط عسكري نسبي، إلى فاعل يسعى لأن تُشكل الحرب السورية منصته للتحول إلى قوة ما فوق إقليمية.
دور الأسد في تباين الأدوار
كان للنِظام السوري دور مركزي في خلق هذا التباين في الأدوار ومستويات وأدوات النفوذ الروسي والإيراني. فاستقدامه للقوة العسكرية الروسية وقبوله باتفاقية عسكرية "مُذلة" لسيادته، جاءت فقط في لحظة شعر النِظام بأنه غير قادر على الصمود في وجه قوى المُعارضة، وإن كانت جميع القوى الإيرانية تُسانده، لكنه بات يستشعر محدودية القوة العسكرية الإيرانية وقُدرتها على الانخراط في الحرب السورية بشكلٍ علني ومُباشر. واستطاعت موسكو أن تُؤمن للنِظام تلك الحماية العسكرية المُباشرة والمُعلنة، من دون أية خشية بأن يكون لذلك الانخراط الروسي عواقب على مستوى رفض الدول الإقليمية والدولية لها.
من جانب آخر، فإن النِظام السوري كان يُعاني بلوغ النفوذ الإيراني عليه حده الأعلى، وهو ما بات يُشكل حتى حساسية اجتماعية وثقافية له في معاقله الديموغرافية، حيث إن الهيمنة الإيرانية على الطائفة العلوية السورية بشكل مُطلق، إنما تُشكل نهاية موضوعية لهذه الطائفة، فثمة تناقض بنيوي بين التوجهات الثقافية/ الاجتماعية لكِليهما. وتستطيع روسيا أن تحمي القواعد الاجتماعية الداعمة للنِظام السوري من تلك الهيمنة الإيرانية، وتُحول نفوذ طهران إلى فاعل نسبي وليس مُطلقاً.
لكن ديناميكية النِظام السوري في ذلك المسعى كانت تعاني مأزقاً جوهرياً، كامن في أن التعاطي الروسي إنما ذو استراتيجية تسعى إلى تغير المعادلات العسكرية على أرض الواقع، وأيضاً الدخول في عملية سياسية حقيقية، يتم فيها التفاوض على كُل شيء في سوريا. وكذلك فإنها استراتيجية تُؤمن بأنه لا يوجد حسم عسكري للحرب السورية، وأن شكل سوريا المُستقبلي يجب أن يكون خاضعاً للنِظام السوري بشكلٍ نسبي.
أي أن الاستراتيجية الروسية مُتباينة من حيث البُنية للتوجه الإيراني الاستراتيجي، الذي يسعى إلى تنفيذ حلٍ عراقي للحرب السورية، عبر خوض حرب مفتوحة ضد "العرب السُنة" السوريين، تحت غِطاء مُحاربة القوى المُتطرفة، ومن ثم فرض حلولٍ مُطابقة تماماً للمصالح الاستراتيجية للنِظام السوري والنفوذ الإيراني في المنطقة.
رؤية مستقبلية
يتكثف التناقض بين النفوذين الإيراني والروسي في مسألة المفاوضات السورية، وبالذات حين الحديث عن الدور السياسي للرئيس بشار الأسد ومُستقبله. وهو شيء من المُتوقع أن يبقى محل تناقض بينهُما في المُستقبل المنظور، لأنه يُشكل العُقدة التي يظن كُل طرف مُنهما بأنها قادرة على حفظ نفوذه المُستقبلي في سوريا وأدواره في منطقة الشرق الأوسط، وهو التناقض الذي يظن النِظام السوري بأنه قادر على المواءمة بينهما والتعايش معهما، بحيث يستمر كِلا الطرفين في الاعتقاد بأنه يجب أن يبذل المزيد لكسب ولاء النِظام السوري.
ويؤمن الروس بضرورة أن يكون هناك مزيج من دستور دائم بموصفات مُناسبة لحلفائهم السوريين، ونِظام سياسي لا مركزي يحفظ نفوذهم السياسي والعسكري في الكثير من المناطق السورية، مع مؤسسة عسكرية وأمنية مضبوطة، تستطيع أن تحفظ النفوذ الروسي في سوريا، حالياً ومُستقبلاً. وتراهن روسيا على كونها قوة دولية ذات مسؤولية، تستطيع جني تبعات أدوارها في حل المسألة السورية في باقي الملفات العالقة بينها وبين القوى الدولية، وأن تُعطي نموذجاً لما يُمكن أن يفعله انخراطها المُباشر في الساحات العسكرية الدولية الساخنة.
على عكس ذلك، فإن إيران تؤمن بأن الضامن الوحيد لنفوذها السوري هو بقاء النِظام السوري بهيمنته المُطلقة الراهنة على كامل الدولة السورية، وأن التنازلات التي يُمكن أن يقبل بها يجب أن تكون فقط إصلاحات وتحولات سطحية وصورية فحسب، حيث إن أية إصلاحات أو مساومات حقيقية من قِبل النِظام ستطيح تماماً بهوية وطبيعة النِظام السوري، الذي يُمثل فقط أقلية سُكانية من المُجتمع السوري. ويرى الإيرانيون أن الشخص الوحيد القادر على الحِفاظ على وحدة النِظام وإجماع الأجهزة الأمنية والقواعد الاجتماعية الموالية هو بشار الأسد، وأن التخلي عنه يعني تفكيك النِظام السوري، وكسر نمط نفوذهم في العراق ولُبنان وسوريا. كما ترفض إيران أي مقترحات روسية لإقامة فيدراليات في سوريا.
لكُل ذلك، فإن الاستراتيجية التفاوضية الروسية وخيارها في خلق عملية سياسية في سوريا، إنما يشكلان خطراً جوهرياً على راهن ومُستقبل النفوذ الإيراني في سوريا. وعلى المنوال نفسه، يعتقد الروس أن استراتيجية الحرب المفتوحة التي يخوضها الإيرانيون في سوريا، مُتباينة جوهرياً مع استراتيجيتهم السورية.