رغم التصعيد المستمر بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية حول الاتفاق النووي، والذي يبدو أنه سوف يتواصل خلال المرحلة القادمة، إلا أن ذلك لا ينفي أن إيران ما زالت حريصة على استمرار العمل بالاتفاق، الذي تعول عليه في تقليص حدة العزلة والعقوبات التي تعرضت لها قبل الوصول إليه مع مجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015.
وهنا، فإن الانتقادات الحادة التي يوجهها المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي فضلاً عن قادة الحرس الثوري وبعض وسائل الإعلام، وفي مقدمتها صحيفة "كيهان" القريبة من المرشد، ما هى إلا محاولة من جانب طهران لتوسيع هامش الخيارات المتاحة أمامها، في إطار سياسة "تقسيم الأدوار" التي تتبناها بشكل مستمر في تعاملها مع التطورات الخارجية، والتي تسبب ارتباكًا، في بعض الأحيان، في تقييم اتجاهات السياسة الإيرانية إزاء بعض الملفات.
لذا، فإن تهديدات إيران المتواصلة بالعودة إلى تطوير برنامجها النووي مرة أخرى في حالة ما إذا انسحبت الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق أو اتخذت إجراءات جديدة تضع عقبات أمام استمرار العمل به، ربما لا تكون الخيار الوحيد الذي يمكن أن تلجأ إليه إيران في التعامل مع هذا الاحتمال الذي أصبح قائمًا، في ظل تعمد الإدارة الأمريكية رفع منسوب التوتر مع طهران حول بعض القضايا المرتبطة بالاتفاق النووي، على غرار مطالبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش القواعد العسكرية الإيرانية التي يشتبه في أن إيران أجرت فيها بعض الدراسات الخاصة بجوانب عسكرية سابقة لبرنامجها النووي، وهو ما سارعت الأخيرة إلى رفضه بشكل حاسم على لسان أكثر من مسئول سياسي وعسكري.
مجموعة "7-1":
وقد كان لافتًا في هذا السياق، أن إيران وجهت إشارات موازية لتهديدها بتطوير برنامجها النووي، تفيد إمكانية استكمال العمل بالاتفاق النووي مع غياب الولايات المتحدة الأمريكية، وبمعنى أدق تغيير المجموعة الدولية التي أجرت مفاوضات شاقة توصلت في نهايتها إلى الاتفاق النووي، من "5+1" إلى "7-1"، أى إيران والدول الأربعة دائمة العضوية في مجلس الأمن (روسيا والصين وبريطانيا وفرنسا) إلى جانب ألمانيا، مع استثناء الولايات المتحدة الأمريكية في حالة انسحابها من الاتفاق النووي.
وقد عبر أكثر من مسئول إيراني عن هذه الرؤية، فقد قال رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية على أكبر صالحي، في 8 أغسطس 2017، أن "انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي لن يكون مؤثرًا"، مشيرًا إلى أنها "هى التي ستخسر".
هذه الرؤية تطرح دلالتين مهمتين: تتمثل الأولى، في أن إيران ترى أنها في موقف جيد في الاتفاق، خاصة في ضوء إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أكثر من مرة، عن التزامها ببنوده الفنية، إلى جانب أن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها سبق أن أكدت الأمر نفسه.
وهنا، فإن إيران باتت تعول على أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق سوف يفرض تداعيات سلبية على الولايات المتحدة الأمريكية في المقام الأول، خاصة أنها لن تستطيع، وفقًا للرؤية الإيرانية، استقطاب تأييد القوى الدولية الأخرى لمواقفها المتشددة من الاتفاق، بما يزيد من العقبات التي ستواجهها في حالة ما إذا سعت إلى فرض حظر دولي جديد على إيران.
وقد أشار الرئيس حسن روحاني إلى ذلك بقوله في حواره مع التليفزيون الإيراني، في 29 أغسطس الفائت، أن "العودة إلى الحظر السابق غير ممكنة"، مضيفًا أن "الظروف الدولية إزاء الجمهورية الإسلامية قد تغيرت تمامًا، ورؤية العالم لإيران تبدلت كاملاً ونحن تخطينا كثيرًا من المشكلات الكبيرة".
وتنصرف الثانية، إلى أن إيران تعول في الحصول على عوائد الاتفاق النووي على الدول الأوروبية إلى جانب روسيا والصين، بما يعني أنها لا تعتمد كثيرًا على إمكانية انخراطها في تعاملات مالية واقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما بدا جليًا في التحذيرات العديدة التي أطلقها المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية إزاء فتح الأسواق الإيرانية للمنتجات الأمريكية، التي يمكن أن تتسبب، طبقًا لرؤيته، في "غزو ثقافي أمريكي للمجتمع الإيراني".
وبالفعل، بدا لافتًا أن معظم الصفقات التجارية التي أبرمتها إيران بعد الاتفاق كانت مع تلك القوى، على غرار الصفقة التي أبرمتها مع شركة "توتال" الفرنسية وشركة النفط الوطنية الصينية لتطوير المرحلة الحادية عشر من حقل "بارس الجنوبي" المشترك مع قطر، في 3 يوليو 2017، فضلاً عن الاتفاقات التي وقعتها شركات أوروبية مع شركات إيرانية لفتح خطوط إنتاج في طهران، مثل شركة "فولكس فاجن" الألمانية وشركة "بيجو" الفرنسية للسيارات، إلى جانب الصفقات العسكرية والتكنولوجية التي وقعتها مع روسيا والصين في الفترة الأخيرة.
وربما يكون الاستثناء الوحيد في هذا السياق، هو الصفقة التي وقعتها إيران مع شركة "بوينج" الأمريكية، في 11 ديسمبر 2016، لبيع إيران 80 طائرة مدنية بقيمة 16 مليار دولار، وهى الصفقة التي أثارت جدلاً حادًا بين الكونجرس والإدارة الأمريكية قبل أن يتم تمريرها.
عقبات عديدة:
ومع ذلك، فإن التعويل على إمكانية مواصلة العمل بالاتفاق النووي بدون الولايات المتحدة الأمريكية يواجه عقبات عديدة لا تبدو هينة. إذ أن ذلك يمكن أن يفرض تداعيات سلبية تقلص من المكاسب الاقتصادية التي يمكن أن تحصل عليها إيران بمواصلة تنفيذ التزاماتها التي تضمنها الاتفاق.
فخلال الفترة التي تلت الوصول للاتفاق ورفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران، ترددت كثير من الشركات الأجنبية في الدخول في تعاملات مالية ومصرفية مع شركات إيرانية تجنبًا للتعرض لعقوبات أمريكية، خاصة في حالة ما إذا أجرت تعاملات مع شركات خاضعة لتلك العقوبات أو متهمة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بدعم برنامج الصواريخ الباليستية أو المشاركة في انتهاكات حقوق الإنسان، ومن ثم فإن انسحاب واشنطن من الاتفاق سوف يزيد من حدة الضغوط التي يمكن أن تتعرض لها بعض تلك الشركات التي تفكر في الدخول إلى السوق الإيرانية.
ومن دون شك، فإن انسحاب واشنطن سوف يمنح الفرصة للاتجاه السياسي الإيراني الرافض للاتفاق النووي والتنازلات التي قدمتها إيران في رؤيته، من أجل إضفاء وجاهة خاصة على دعوته لتجميد العمل بالاتفاق والعودة إلى تطوير البرنامج النووي مرة أخرى، خاصة أن حكومة روحاني سوف تواجه خيارات محدودة للتعامل مع هذه الضغوط، التي يمكن أن يؤدي دعم المرشد خامنئي لهذا الاتجاه إلى تصعيد حدتها.
وبالطبع، فإن هذه الدعوات سوف تكتسب مزيدًا من الزخم مع تصاعد حدة التوتر بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في الملفات الإقليمية المختلفة، في ظل الاهتمام الذي تبديه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بكبح نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا، التي تشهد في الفترة الحالية إعادة صياغة الترتيبات السياسية والأمنية للتعامل مع المعطيات الجديدة التي فرضتها التطورات السياسية والميدانية الأخيرة.
وهنا، فإن هذه الدعوات وما يمكن أن تفرضه من تغييرات على الموقف الإيراني من الاتفاق ربما تدفع الشركات الأجنبية المترددة إلى حسم موقفها بالعزوف عن إبرام صفقات تجارية مع جهات داخل إيران، في ظل حالة عدم اليقين التي يواجهها استمرار العمل بالاتفاق النووي.
كما أن بعض الإجراءات التي اتخذتها إيران خلال الفترة الأخيرة دفعت عددًا من الدول الأوروبية إلى توجيه انتقادات قوية لها، على غرار الموقف الذي اتخذته كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا بعد إطلاق إيران لصاروخ "سيمرغ" القادر على حمل أقمار صناعية، في 27 يوليو 2017، حيث وجهت رسالة إلى رئيس مجلس الأمن بالمشاركة مع الولايات المتحدة الأمريكية، في 2 أغسطس الفائت، أكدت فيها أن "تلك الخطوة تمثل تهديدًا وقرارًا استفزازيًا من جانب إيران"، بشكل يشير إلى أن الأخيرة لا تضمن أن يستمر التوافق والتعاون عنوانًا رئيسيًا لعلاقاتها مع الدول الأوروبية في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي المحتمل من الاتفاق.
هذه العوامل في مجملها سوف تربك حسابات إيران وتدفعها إلى التأني قبل اتخاذ القرار الأخير للرد على احتمالات الانسحاب الأمريكي من الاتفاق، والذي سيفرض تداعيات استراتيجية لا تبدو هينة في منطقة الشرق الأوسط.