حظى الدور الذي قامت به شبكات التواصل الاجتماعي خلال السنوات الماضية في حشد الرأى العام بشأن قضايا معينة للتأثير على متخذي القرار في العديد من الدول، وما قدمته من إسهامات في تأجيج الثورات والاحتجاجات العربية وزيادة زخمها في الشارع العربي، باهتمام واسع، في محاولة لرصد تطور أداء هذه الشبكات التي أُنشئت في الأساس لأغراض التواصل الاجتماعي، وسرعان ما تحولت إلى منصات للتعبير عن الرأى السياسي، والدفاع عنه، والحشد له.
إذ لم تعد هذه الشبكات وسيلة للتعبير بشكل شخصي عما يتبناه الفرد المستخدم من أفكار وتوجهات، أو حتى مجرد آلية إعلامية تستخدمها وسائل الإعلام والمواقع ومراكز الفكر، كمنابر للشهرة والتعريف بها اعتمادًا على ما توفره من قدر كبير من الاتصال بين مستخدميها، لكنها أصبحت بمثابة أحد أهم المؤشرات الدالة على وجود حشود جماهيرية، أو التنبؤ باحتمالات اندلاع احتجاجات شعبية، وهو ما حدث بالفعل في عدة حالات بدول الثورات العربية، وفي دول أخرى، مثل تركيا وإيران والمغرب.
غير أن هذا الدور الذي تبلور في المنطقة خلال السنوات الست الماضية، قد بدأ في الانحسار لصالح الدور الرئيسي لمواقع التواصل الاجتماعي، إذ بات تأثيرها السياسي على الشارع العربي أكثر خفوتًا من ذي قبل بفعل العديد من العوامل التي يأتي في مقدمتها تطلع الرأى العام العربي إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني بعد سنوات من الاضطرابات المستمرة. فيما بدأت الأدوار الاجتماعية في البروز مرة أخرى وإن كانت تتسم في أغلب الأحيان بالطابع السياسي النقدي؛ حيث ظهرت العديد من الحملات الانتقادية لممارسات بعض الأجهزة الرسمية في عدد من دول المنطقة، كما برزت بعض الحملات الداعية للاهتمام بقضية معينة.
أدوار جديدة:
مثّلت وسائل الاتصال الاجتماعي خلال السنوات الماضية إحدى أبرز أدوات التغيير السياسي في بعض دول الإقليم، بعد أن أثبتت، في العديد من الحالات، أن ما تعبر عنه من اتجاهات لرأى مستخدميها لا يأتي بمعزل عن الواقع؛ بل إن هذه التوجهات تعد انعكاسًا لما يهتم به الشارع ويشغل الرأى العام في مجتمع ما. ولعل فترة اندلاع الثورات والاحتجاجات العربية وما شهدته من توافق توجهات فئات المجتمع المختلفة على شبكات التواصل الاجتماعي حول قضايا سياسية معينة، واستجابتها لمطالب الشارع؛ أحد أهم ملامح هذا التعبير عن الواقع الذي عاشته هذه المجتمعات وعكست توجهاتها شبكات التواصل الاجتماعي.
ويمكن القول إن مواقع التواصل الاجتماعي، التي تتمثل في "فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب"، تُعد أبرز الشبكات التي أثرت بشكل مباشر في الثورات والاحتجاجات التي اندلعت منذ مطلع عام 2011 في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، فضلا عن أنها الأكثر استخدامًا من قبل قوى المعارضة في العديد من دول الإقليم، كما تبرز في حالات مثل تركيا وإيران والمغرب والسودان، الأمر الذي اضطر السلطات، في بعض الحالات، إلى محاولة تقييد هذه المواقع التي باتت من المحركات الأساسية للتعبير عن الرأى والقدرة على الحشد، بل ومخاطبة العالم الخارجي.
وقد تزامن مع تزايد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي في المنطقة تراجع ملحوظ لدورها السياسي في تحريك الشارع، وإن كان الطابع السياسي للتعبير عن الأفكار وإبداء الرأى لا يزال سمة أساسية فيما يُطرح على هذه الشبكات من محتوى يومي، إلا أن الزخم السياسي "الثوري" -إن جاز التعبير- القائم في الأساس على حشد الشارع للتحرك والتظاهر قد خفت إلى حد الانعدام، في ظل فشل العديد من محاولات الحشد السياسي، لا سيما في الدول التي شهدت ثورات مثل مصر التي لم تنجح فيها العديد من محاولات الحشد الإلكتروني من قبل جماعة "الإخوان المسلمين".
وقد أوضحت نتائج تقرير الإعلام الاجتماعي العربي السابع الصادر في فبراير 2017 عن كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية، أن ثمة نموًّا واضحًا في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي؛ حيث وصل عدد مستخدمي موقع "فيسبوك" بحلول 2017 إلى 156 مليون مستخدم، مقارنة بـ115 مليون مستخدم في عام 2016، وبلغ عدد مستخدمي موقع "تويتر" 11.1 مليون مستخدم نشطوا في أوائل 2017، مقارنة بـ5.8 ملايين مستخدم فقط قبل ثلاث سنوات.
كما أشار التقرير، الذي اعتمد في جزءٍ منه على دراسة استقصائية أُجريت في 22 دولة عربية على شبكة الإنترنت، إلى أن أدوارًا جديدة باتت تمارسها مواقع التواصل الاجتماعي في المنطقة، تتمثل في المساعدة على صناعة السياسات الحكومية والتنموية، وتشكيل توجهات القطاع الخاص، وذلك من خلال متابعة البيانات والآراء المتدفقة على هذه الشبكات، لا سيما في ظل سعى وحرص العديد من الشركات والجهات الحكومية على تواجد منصات رسمية لها على هذه الشبكات بهدف الاتصال الجماهيري ورصد توجهات مستخدميها.
وعلى الرغم من أن المحتوى السياسي لم يغب عن شبكات التواصل الاجتماعي التي لا تزال أهم وسائل التعبير عن الآراء السياسية لمستخدمي هذه الشبكات؛ فإن تحولا مهمًّا يتمثل في تغير ملمح التناول السياسي الذي يعتمد على الحشد، وانتقاله إلى التناول النقدي الهادف، في أحيان كثيرة، إلى الضغط على الأجهزة المعنية لتصحيح ممارسةٍ ما تُثير انتقادات الرأي العام، أو توجيه اهتمامها إلى ضرورة حل مشكلة بعينها، أو حتى الضغط على بعض الشركات الخاصة والقنوات الفضائية، وغيرها من الجهات التي تقدم خدمات للمواطنين على اختلافها.
وفي هذا الإطار، يبرز نجاح العديد من الحملات الشعبية على شبكات التواصل الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، تمكنت العديد من الحملات التي شنها ناشطون مصريون بشكل متواصل بشأن استخدام العنف ضد الأطفال في بعض دور رعاية الأيتام من دفع الأجهزة المعنية إلى الاهتمام بالقضية ومعاقبة المتورطين. كما حققت حملة شنها نشطاء في أكتوبر 2015 لمقاطعة الشركات الراعية لبرنامج "صبايا الخير" على فضائية "النهار" عقب اتهام مقدمة البرنامج بالإساءة لفتاة ونشر صور شخصية لها دون موافقتها في تحقيق أهدافها، حيث سحبت الشركات المعنية رعايتها للبرنامج الذي أعادت القناة بثه بعد ذلك بدون شركات راعية.
كما شهدت تونس حملات إلكترونية ناجحة مثل التي أطلقها نشطاء في سبتمبر 2015، تحت عنوان "وينو الترتوار" (أين الرصيف)، وذلك عقب تفشي ظاهرة التعدي على الطريق العام من قبل المحلات التجارية والباعة الجائلين، حيث اتخذت الحكومة التونسية قرارات للرد على ظاهرة استغلال الأرصفة، وأغلقت مطلع عام 2016 ما يزيد عن 333 إشغالا غير مرخص.
وفي المغرب لاقت حملة "طحن مو" انتشارًا جماهيريًّا وصدى في الشارع المغربي عقب حادث مقتل بائع أسماك طحنًا داخل شاحنة لنقل النفايات، والتي تدخّل بشأنها الملك محمد السادس بالتوجيه بسرعة التحقيق في الحادث ومحاسبة المسئولين عنه.
أسباب التراجع:
تتعدد الأسباب التي أدت إلى تراجع الدور السياسي الذي مارسته شبكات التواصل الاجتماعي خلال السنوات الماضية، ويتمثل أهمها في:
1- اختلاف أولويات الشارع العربي: تسود حاليًّا قناعات لدى قطاعات مجتمعية عديدة مفادها البعد عن مسببات عدم الاستقرار، والاهتمام ببناء الدولة ومواجهة الأزمات، والإحجام عن دعم دعوات الحشد في الشارع، وهى قناعات تعبر عنها استطلاعات الرأى العام التي أُجريت في عدد من دول المنطقة خلال الفترة الماضية.
2- الرقابة الصارمة على مواقع التواصل الاجتماعي: تفرض إيران، على سبيل المثال، قيودًا رقابية شديدة على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي منذ عام 2009، عقب دور مهم قامت به هذه المواقع في حشد الشارع عن طريق دعوات تظاهرات "أين صوتي" فيما سُمي بـ"الثورة الخضراء"، والتي أعقبتها حملات قمع واعتقالات للعديد من نشطاء هذه المواقع إلى جانب قيادات الحركة، وتستمر هذه الحملات حتى الآن إذا ما ثبت بحق أحد النشطاء استخدامه مواقع التواصل لغرض سياسي.
كما شددت السلطات في تركيا إجراءاتها الرقابية على شبكات التواصل عقب محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في يوليو 2016، والتي سبقتها محاولات لحجب هذه المواقع جزئيًّا. وقد أدت هذه الممارسات إلى إحجام عدد كبير من النشطاء عن استخدام هذه المواقع لأغراض سياسية، إما اعتقادًا بأن انتشارها في البلاد لم يعد كافيًا بسبب سياسات الحجب، أو تجنبًا للتعرض لإجراءات عقابية من جانب السلطات.
3- محاولات تشويه مواقع التواصل ونشطائها: في إطار الدعوة إلى عدم الانسياق وراء محاولات زعزعة استقرار الدول، فإن انتقادات عدة وُجِّهت لمواقع التواصل الاجتماعي ونشطائها السياسيين، إلى جانب محاولات تخوينهم، في بعض الأحيان، وهو ما ساهم في تكوين صورة ذهنية سلبية عن شبكات التواصل الاجتماعي، والتشكيك في نوايا ما يتم نشره عليها من انتقادات وآراء سياسية.
لذا بات من الطبيعي وجود صفحات وحسابات للرد على الانتقادات السياسية، فلا يلبث هاشتاج في الظهور لدعم قضية ما حتى يتم إطلاق آخر مخالف له فى الرأى، وهو ما أدى في النهاية إلى تشتيت المتابعين، وبروز حالة من عدم اليقين لديهم، صبت في اتجاه حياديتهم في النهاية، أو على الأقل عدم اهتمامهم بإبداء آرائهم بشأن القضايا المطروحة.
وخلاصة القول، إن نمط الدور السياسي التقليدي الذي مارسته مواقع التواصل الاجتماعي في السنوات الماضية من خلال حشد الشارع قد شهد تحولا نحو القيام بأدوار اجتماعية وخدمية استطاعت أن تثبت في إطارها نجاحات ملحوظة، الأمر الذي يشير إلى استمرار حضورها كفاعل في تحريك الرأى العام، لا سيما في ظل تزايد استخدام هذه المواقع في العديد من دول المنطقة.