تواجه منطقة الخليج العربية مجموعة من التحديات الاستراتيجية تطرح نفسها بقوة، إذ تتعرض لجملة من التحديات الداخلية والخارجية، منها تنامي صعود بعض بؤر التوتر الداخلية، ومشكلات عدم الاستقرار الممتد في مملكة البحرين، وتنامي التهديدات غير التقليدية مثل الشح المائي والاختراقات الحدودية في بعض المناطق، التي تجمع ما بين الأنشطة الإرهابية وجماعات الإجرام العابرة للحدود، وأزمات عدة تمر بها دول جوار على رأسها العراق وسوريا واليمن، واستمرار التهديد الإيراني، وانتشار نماذج الدول الفاشلة بالإقليم وتمدد التنظيمات الجهادية المسلحة.
جاء ذلك خلال اللقاء الذي استضاف المركز خلاله الأستاذ محمد عزالعرب، الباحث بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام والخبير المشارك بالمركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، المتخصص في الشئون الخليجية، يوم الأربعاء الموافق 13 أغسطس 2014، الذي ألقى محاضرة تحت عنوان "التحديات الاستراتيجية التي تواجه دول الخليج العربية في المدى المنظور".
وتأتي أهمية هذه القضية نظراً لجملة التطورات الراهنة في إقليم الشرق الأوسط، والتي جعلت دول مجلس التعاون الخليجي مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالتعامل مع بعض التحديات الداخلية، وكثير من التهديدات الخارجية، المتفاوتة في درجة تهديدها وحدة خطورتها، منها ما يعزى إلى أسباب ترجع لفترات طويلة سابقة، وبعضها يعتبر حديثاً نسبياً بسبب التغيرات التي مرت بها المنطقة في السنوات الثلاث الأخيرة، والتي شهدت موجات "ثورية" متعددة، وصعود للتيارات الإسلامية إلى سدة الحكم ثم سقوطها في مصر، إضافة إلى الأزمات التي يمر بها عدد من دول الجوار، مثل اليمن وسوريا والعراق، ولايزال لها أكبر الأثر على دول المنطقة.
حراك جيلي
وأشار عزالعرب خلال المحاضرة إلى تعرض عدد من دول المجلس إلى تغير واضح في الشرائح الجيلية والتركيبة الديموغرافية، حيث تصاعد دور القطاعات الشبابية التي لها دور ومطالب اجتماعية واقتصادية. وأضاف أن إحصائيات عام 2013 تشير إلى أن نسبة الشباب الذين تتراوح أعمارهم ما بين 18 و34 عاماً تبلغ 68.8 % من إجمالي سكان دول المجلس، بما يشير إلى ضرورة احتواء مطالب تلك الفئات الشابة، هو ما يستلزم ضرورة الحفاظ على أدوار "دولة الرفاه" في دول مجلس التعاون الخليجي.
المطالب الشيعية
من جانب آخر تواجه منطقة الخليج ــ وفقاً للمحاضر ــ تحدياً قديماً جديداً يتمثل في المطالب الشيعية، إذ على الرغم من الاختلافات بين أوضاع الشيعة في الدول الخليجية المختلفة، فإن هذا الأمر لا يمثل مشكلة في دولة الإمارات وفي قطر، لكنها تمثل عنصراً يجب أخذه في الاعتبار في حالة السعودية والكويت والبحرين، حيث يجري توظيفه من قبل دول إقليمية لتحقيق مصالح سياسية بالإقليم.
واستعرض الأستاذ محمد عزالعرب كيفية تعامل دول الخليج مع هذه المطالب، والتي تتمثل في تحقيق العديد منها أو احتوائها والحرص على ألا تمثل مدخلاً لتعزيز نفوذ دول الجوار أو تدخلها في الشؤون الداخلية لدول المنطقة.
التهديدات الإرهابية
وركز المحاضر على ظاهرة تصاعد التهديدات الإرهابية في المنطقة، مشيراً إلى أن عدداً من دول الخليج تعرض لعمليات إرهابية مثل السعودية، وعلى الرغم من أن هناك جملة من الأسباب التي تفسر هذا التصاعد، فإن دور العامل الخارجي يعتبر هذه المرة مصدراً واضحاً للتهديدات، حيث يلعب القادمون من سوريا دوراً في هذا الصدد، بالإضافة إلى تنظيم القاعدة في شبه جزيرة العرب، وقيام بعض الأطراف الإقليمية خاصة إيران، وجماعات موالية لها، بالتدخل في الشؤون الداخلية لبعض الدول الخليجية من خلال تقديم الدعم المالي واللوجستي لبعض القوى التي تمارس الإرهاب في دول الخليج.
المشكلات غير التقليدية
أشار الباحث بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام إلى وجود حزمة جديدة من المشكلات باتت تواجه دول الخليج بدرجات متفاوتة، مثل التغيرات المناخية، وندرة الموارد المائية، والأمراض الوبائية، والاختراقات الحدودية، والتدخلات الدولية المتعمدة حول العمالة الأجنبية الوافدة، موضحاً أن كل هذه القضايا تحتاج إلى تطوير اقترابات أمنية خليجية جديدة في التعامل مع هذه النوعية من التهديدات، لاسيما أن التغيرات المناخية أدت إلى بعض الأضرار في عواصم خليجية، خاصة الكويت والسعودية، حيث التعرض لعواصف وسيول عارمة نتج عنه ارتفاع منسوب المياه في عدد من المواقع، وغرق بعض الأنفاق، وانهيار الطرق، وتعطل شبكة تصريف المياه، بالإضافة إلى انتشار الأمراض الوبائية، ومنها فيروس "كورونا" و"إيبولا"، وهو من التهديدات الحادة الجديدة، لاسيما أن الأمراض تنتقل إلى الدول الخليجية عبر التحركات البشرية، وهو ما يخلف وراءه أضراراً صحية ومخاطر اقتصادية.
أحزمة الفقر
كما نبه المحاضر إلى ما اعتبره مشكلة تنامي أحزمة الفقر على المناطق الطرفية، حيث لم يعد يقتصر وجود المناطق العشوائية على الدول العربية التي تعاني أوضاعاً اقتصادية صعبة، وإنما ظهرت أيضاً في بعض الدول العربية ذات الدخل المتوسط أو المرتفع، إذ شهد عدد من العواصم والمدن الخليجية، خاصة في الأطراف منها، انتشار الأحياء والمناطق العشوائية، على مساحات واسعة، ومن هذه الحالات مدينة الرياض وجدة في المملكة العربية السعودية.
كرة النار السورية
وفيما يتعلق بأبرز التحديات النابعة من البيئة الأمنية الخارجية، أشار عزالعرب إلى أن عدداً من التحديات التي تواجهها دول الخليج العربية باتت تأتي من مصدر أساسي هو دول الجوار الجغرافي التي تعاني من أزمات مختلفة، وبصفة مركزية حالات سوريا واليمن والعراق.
وتفصيلاً، أشار المحاضر إلى حالة التصدع التي تعانيها اليمن لأطر الحكم المركزية فيها، وعدم قدرة الدولة على بسط نفوذها على أجزاء من أراضيها في مواجهة الحوثيين وتنظيم القاعدة وجماعة أنصار الشريعة، على نحو أدى إلى اختراق الحدود الخليجية في أحيان قليلة، واضطرار دول الخليج خصوصاً السعودية لإجراءات جديدة لإحكام سيطرتها على حدودها المترامية الأطراف. كما أصبح تهريب السلاح وتسلل الأفراد من مواطني الدول المجاورة، وتزايد معدلات تهريب المخدرات من مصادر التهديد المتفاقمة لأمن دول مجلس التعاون الخليجي.
المجاهدون الخليجيون
وبخصوص الوضع في سوريا، فإن دول المجلس تواجه حالياً تهديدات أمنية نابعة من تبعات "الحرب الأهلية" فيها، إذ يتوقع أن يشكل ملف "المقاتلين العائدين من سوريا" أحد المكامن المحتملة لعدم الاستقرار داخل عدد من دول العالم، ومنها دول الخليج، لاسيما السعودية والكويت والبحرين، خلال المرحلة المقبلة، على غرار التهديد الذي واجهته هذه الدول، وبصفة رئيسية السعودية، من ظاهرة سابقة ومماثلة هي العائدون من أفغانستان والعراق والشيشان والبوسنة وكوسوفو.
تمدد داعش
أما العراق فليس أدل على أن التطورات الأخيرة فيه وتمكن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" من احتلال مناطق واسعة، تؤشر بوضوح إلى تأكيد مخاوف دول مجلس التعاون السابقة من انتشار الجماعات الإرهابية المسلحة العابرة للحدود، بعد أن صار التهديد في مساحة جغرافية ملاصقة لمنطقة الخليج، بحيث تساهم الصراعات داخل العراق وسوريا في زيادة معدلات انتشار الجماعات المسلحة، على نحو يحمل معه إمكانية تأثير ذلك على دول الجوار كافة، مع ملاحظة أن دولة الكويت قد وردت ضمن تصور "داعش" لخريطة دولته المزعومة، إلى جوار كل من العراق وسوريا والأردن ولبنان وفلسطين.
من جانب آخر، فإن السعودية ليست بمنأى عن تهديدات داعش، نظراً للجوار الجغرافي من جانب، وتصنيف وزارة الداخلية السعودية لتنظيم القاعدة وتنظيم داعش وجبهة النصرة في سوريا وجماعة الحوثيين في اليمن وحزب الله في المملكة كجماعات إرهابية.
النفوذ الإيراني
لاتزال إيران تستغل الورقة الطائفية لإذكاء الصراعات داخل بعض الدول العربية، وهو ما قد ينعكس مستقبلاً على منطقة الخليج، فمع فقدان وتراجع نفوذ إيران في المشرق مع تصاعد حدة الحرب الدائرة في سوريا، أضحت هذه الورقة من أكثر أدوات إيران، ويرجح لها أن تتصاعد. كما تحاول إيران، من خلال الاتفاق النووي مع الغرب، أن تثبت نفسها كقوة إقليمية معترف بها، وربما هو ما يشكل تهديداً للعديد من الدول العربية والخليجية، خصوصاً أن ذلك قد يكون بتوافق أمريكي لإعادة ترتيب الإقليم.
التحول الأمريكي
إن أحد التحولات الأساسية التي أفرزتها مرحلة ما بعد "الثورات" العربية هو التغير في طبيعة الأمريكية ـ الخليجية، خصوصاً ما يختص بموقف الولايات المتحدة من الأزمة البحرينية، والتي كادت أن تهدد استقرار البحرين، بما لها من تبعات على بقية دول الخليج، وهو ما أثار تساؤلات حول الدور الأمريكي الذي يعمل على احتواء إيران، والوصول معها لتفاهمات إقليمية، في وقت بدأت تتهيأ فيه الولايات المتحدة إلى التراجع التدريجي من الشرق الأوسط نظرياً، ودخول أطراف دولية فاعلة بالإقليم من ناحية أخرى.
وفي ختام اللقاء أثار الحضور عدداً من التساؤلات المتعلقة بترتيب أولويات التهديدات والتحديات التي تواجه المنطقة، وكذلك السيناريوهات المتوقعة التي يمكن أن تحدث في دول الخليج، بناءً على التغيرات الجوهرية الراهنة، بما في ذلك انتشار الدول الفاشلة بالإقليم، والتعثر النسبي لتجربة الوحدة الخليجية، وبروز أدوار محتملة لفاعلين دوليين جدد بالمنطقة العربية، من أبرزهم روسيا والصين.