عقد مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"، ورشة عمل حول اتجاهات موجة الانقلابات الحالية التي تشهدها منطقة الساحل الإفريقي، بهدف وضع تشخيص دقيق لخريطة الانقلابات بأبعادها المختلفة، ومحاولة تقديم قراءة أولية للسيناريوهات المستقبلية. وشارك في ورشة العمل خبراء من خارج المركز، وهم الدكتور توفيق أكليمندوس، أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الفرنسية في القاهرة، والدكتور محمد بوشيخي، الكاتب والباحث المغربي، والدكتور محمد فايز فرحات، مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. ومن مركز المستقبل، حسام إبراهيم، المدير التنفيذي للمركز، وعلي صلاح، رئيس وحدة الدراسات الاقتصادية، وأحمد عليبة، رئيس وحدة الاتجاهات الأمنية، بالإضافة إلى حضور عدد آخر من خبراء وباحثي المركز.
وتضمنت ورشة العمل عقد عدة جلسات، تطرق خلالها المشاركون إلى عدد من المحاور الرئيسية، بدايةً بتوضيح خريطة الانقلابات في غرب ووسط إفريقيا خلال الفترة الأخيرة، مروراً بتسليط الضوء على سمات الأنظمة العسكرية الجديدة، وبيئات الأمن الداخلي والإقليمية للدول التي شهدت انقلابات عسكرية، ومواقف القوى الخارجية وخاصةً فرنسا وروسيا والصين والولايات المتحدة الأمريكية، ووصولاً إلى مناقشة الآثار الاقتصادية لهذه الانقلابات. وتتضح الاتجاهات الرئيسية للأفكار المطروحة في إطار هذه المحاور، في النقاط التالية.
انقلابات متكررة:
تتواصل موجة الانقلابات العسكرية الحالية في إفريقيا، وكان أحدثها انقلاب الغابون الذي أطاح بالرئيس عمر بونغو في 30 أغسطس 2023، وذلك بعد أسابيع من انقلاب مماثل في النيجر في يوليو الماضي أطاح بالرئيس محمد بازوم، لتصل محصلة الانقلابات في غرب ووسط إفريقيا إلى 8 انقلابات في 6 دول خلال 3 سنوات منذ عام 2020، حيث شهدت دولتان هما مالي وبوركينا فاسو حدوث انقلاب داخل الانقلاب. كما يتنبأ العديد من المراقبين بالمزيد من الانقلابات العسكرية في تلك المنطقة المضطربة بشكل عام.
شكلياً؛ قد لا تعكس سلسلة الانقلابات المتوالية في منطقة الساحل الإفريقي متغيراً جوهرياً عن الانقلابات الروتينية التي تشكل ظاهرة إفريقية ممتدة في مرحلة ما بعد الحقبة الاستعمارية في منتصف القرن الماضي تقريباً، وفي منطقة تستحوذ على 44% من إجمالي الانقلابات العسكرية في القارة السمراء. وهو ما يعكس، من جانب آخر، العديد من القواسم المشتركة في الموجات الانقلابية المتكررة، من حيث تماثل آليات ممارسة الأنظمة العسكرية للسلطة، وتعثر مراحل الانتقال السياسي، على الرغم من وجود ما يمكن اعتباره حاضنة شعبية للعديد من تلك الانقلابات.
أما ضمنياً؛ فإن التشخيص العميق لخريطة الانقلابات العسكرية الحالية قد يشكل انطباعاً معاكساً بالرغم من التقارب الظاهري، وبالتالي فمن غير الموضوعي تعميم الدوافع وبالتبعية التنبؤات المُحتملة بشكل إجمالي. ودلالة ذلك، ما قد تعكسه القراءة الدقيقة لمقاربة البُعد الجيوسياسي لمسرح الظاهرة في ظل التفاعلات متعددة الأطراف، فمسلسل الانقلابات الحالية يعكس تحولاً مركباً في النظام الدولي بالتزامن مع التحول في المشهد الإقليمي، وهو ما يعيد تشكيل خرائط النفوذ التقليدية التي ترسخت تاريخياً في منطقة الساحل الإفريقي، مع الأخذ في الاعتبار أدوار القوى الدولية الصاعدة مثل الصين على الساحة الإفريقية.
وعلى التوازي مع ترسيم خرائط النفوذ الجديدة، يُعاد تشكيل خرائط المصالح الاقتصادية في مسرح الانقلابات الجارية في غرب إفريقيا، مع الأخذ في الاعتبار أن أحد دوافع دعم الحاضنة الشعبية للانقلابات في العديد من الدول ربما يعود إلى تنامي ظواهر الفساد الاقتصادي، واتهام القوى الخارجية بنهب الثروات، وغيرها من العوامل التي خلقت معادلة مختلة ما بين دول غنية وشعوب فقيرة.
الأنظمة الجديدة:
تشترك الأنظمة العسكرية الجديدة في غرب إفريقيا في مجموعة من الملامح، من أبرزها تقارب الخطاب السياسي، الذي يرتكز على خطاب تبريري يتمحور حول العمل على انتشال المواطنين من الأوضاع المعيشية والأمنية المتردية، واستكمال سيادة دولهم وتخليصهم من السيطرة الفرنسية؛ وهذا ما خلق شعبية تدافع عن هؤلاء الحكام الجدد. ثم النزعة التوحيدية كمشترك آخر، وتتمثل في توثيق التعاون بين الأنظمة الانقلابية؛ لتشكيل تيار ضاغط على خصومها، ووصل الأمر مؤخراً إلى إعلان اتفاق دفاع مشترك في حالة حدوث هجوم مسلح على النيجر من قِبل قوات "إيكواس".
ويعكس سلوك إدارة المرحلة الانتقالية شروع الأنظمة الانقلابية في الاستمرار والبقاء في السلطة، وهو ما يظهر من المؤشرات الداخلية التي تتمثل في عدم الاكتراث بعودة تداول السلطة عبر "الديمقراطية الإجرائية"، وعدم طمأنة المكونات السياسية الداخلية بحُسن نيات قادة الانقلاب المستقبلية. بالإضافة إلى تشابه النهج في الصراع مع الحركات المسلحة الانفصالية أو جماعات العنف والتطرف. وعليه من المتصور أن هناك احتمالات لارتفاع منسوب العنف في غرب إفريقيا أكثر مما عليه الوضع الحالي. أما خارجياً، فمن المتصور أن العسكريين الجدد يتشاركون أيضاً في نفس حزمة السياسات، ومن أبزرها رفض السياسات التدخلية في شؤون دولهم، وتفضيل التقارب مع روسيا والصين، وتحجيم الدور العسكري الغربي.
مهددات هجينة:
تعكس المؤشرات الأمنية في دول غرب إفريقيا حالة الهشاشة في بيئات الأمن الداخلي للدول التي شهدت انقلابات عسكرية، وبيئة الأمن الإقليمي المحيطة بها. فهناك حزام من الفوضى والاضطرابات الأمنية يمتد من القرن الإفريقي شرقاً إلى غرب القارة؛ حيث الموجة الحالية من الانقلابات العسكرية. وغلب على هذا الحزام طابع الاستدامة والتكرارية، وبطبيعة الحال هناك قواسم مشتركة متراكمة، تشكلت بفعل الجغرافيا والديموغرافيا، وتطور العامل الجيوسياسي في ظل التفاعلات البينية والعلاقات الخارجية والتحولات في النظام الدولي التي تبدأ من المقاربة الأمنية في المقام الأول حتى وإن اتخذت صوراً أو اهتمامات مختلفة.
وعلى الرغم من وجود العديد من مظاهر الأمن التقليدي، بحكم أنها مظاهر ممتدة في الخبرة الإفريقية، كالتدخل الخارجي، وتوظيف الجيوش للمعارضة السياسية، وتنامي حضور القوى المتمردة والفصائل شبه العسكرية، والافتقار للقدرة على ضبط الحدود؛ فإن ظواهر الأمن غير التقليدي قد تكون أكثر تأثيراً، في ظل تشابكها، وتداخلها مع مظاهر الأمن التقليدي، وهو ما يُسمى بالتهديدات الهجينة. فعلى سبيل المثال، من المُتوقع تعاظم الصراعات ذات الطابع العرقي والديني العابرة للحدود بعد أن كانت صراعات داخلية بين المركز والهامش، وتوظيف وافتعال أزمات المناخ، فضلاً عن متغير أدوات التدخل الخارجي مع انتعاش ظاهرة "المقاولات العسكرية".
مأزق باريس:
تواجه فرنسا حالياً مشكلة بالغة التعقيد في منطقة الساحل الإفريقي؛ لأنها تأتي في توقيت تقوم فيه باريس بمراجعة سياساتها الأمنية والعسكرية، كما أن هذه التحولات التي تشهدها المنطقة في ضوء الانقلابات العسكرية ترتبط بطبيعة المشهد الدولي، وعلاقات فرنسا مع حلفائها في ظل الموقف الغربي من الصين وروسيا. وفي المشهد الدولي، ترى فرنسا أن الخطر الحقيقي عليها ليس من الشرق حيث تدور الحرب الروسية الأوكرانية، وإنما من الجنوب حيث تتعرض مصالحها لتهديدات.
وثمة جملة من الإشكاليات التي تواجهها فرنسا، لعل أبرزها استدعاء الإرث الاستعماري، وتراجع النفوذ، وتشوه السمعة، وسوء التقدير، وغياب الحليف الموثوق. ومع ذلك، يظل أمام باريس عدد من الخيارات، منها إعادة الانتشار، وتغيير السياسات والأدوات.
الموقف الروسي:
يبدو المنظور الروسي لما يجري في إفريقيا أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ"نظرية غيراسيموف"، والتي تفيد بأنه في التنافس العسكري أو الاقتصادي مع الغرب، تظل روسيا متخلفة، وبالتالي لا بد أن تلعب على الفضاء الإعلامي، وتعمل على زيادة حالة التصدع داخل المحور الغربي، كما تستغل موسكو أوجه ضعف الغرب خاصةً الفراغ الأمني.
في الوقت ذاته، تهدف موسكو إلى تنمية مصالحها، فقد كانت نظرة النخبة الروسية تميل إلى أن إفريقيا تُعد ساحة لجني الثروات والمواد الخام، لكن هذه المصالح تزايدت، وأضحى لدى موسكو القدرة على التنسيق والتناغم ما بين الذراع الاقتصادية والخدمات العسكرية، وهو ما يفسر تغلغل روسيا في العمق الإفريقي بالشكل الحالي، فضلاً عن حاجاتها إلى توظيف علاقاتها في كسب الصوت الإفريقي دولياً.
منظور الصين:
لا يمكن فصل التحولات التي تشهدها منطقة غرب إفريقيا في إطار الانقلابات العسكرية الحالية عن التحولات في النظام العالمي، وهناك صراع كبير على قمة هذا النظام في ظل حدة الاستقطاب، والتحول في خطاب الصين سواءً ما يتعلق بقضايا الأمن العالمي، أو العلاقات مع الولايات المتحدة، والتقارب المتزايد مع روسيا.
وتعكس مؤشرات التحركات الصينية على الساحة الإفريقية، تحول بكين من فاعل اقتصادي إلى شريك أمني في إفريقيا. وتتجلى مظاهر ذلك في حرص الصين على حصتها من صادرات السلاح، وهي حصة تصاعدية، وربما الاتجاه لإنشاء قاعدة عسكرية تطل على المحيط الأطلسي حتى وإن كان هناك غموض في هذه النقطة. ومن المتوقع أن الخطاب الذي تتداوله الأنظمة الانقلابية الجديدة في غرب إفريقيا سيفتح الباب للتواصل مع بكين.
وهناك مجموعة من المحددات الصينية التي تجمع ما بين المصالح والمبادئ، وهي: عدم التدخل في الشؤون الداخلية كأحد المبادئ الأساسية التاريخية لبكين، حتى ولو كان على المستوى النظري. علاوة على تأمين تدفق الموارد الطبيعة من النفط أو الموارد المعدنية، وهو محدد يُكبل الصين في مواقفها أو يحدد بشكل كبير موقفها تجاه الأزمات الدولية. ثم مبدأ عدم المشروطية السياسية والاقتصادية، وهو محدد رئيسي في التعامل مع أي أزمات سواءً كانت الديمقراطية أو حقوق الإنسان، وضمان حصة السلاح في إفريقيا.
لكن الصين تواجه قيوداً متعددة، منها ما يتعلق بدورها في مكافحة انتشار الإرهاب في إفريقيا، فبكين ليس لديها مقاربة متكاملة فيما يتعلق بقضية الإرهاب، ولا تمتلك القدرات العسكرية للاستعداد لاستخدام القوة المباشرة في التعامل مع الإرهاب. ويُضاف إلى ذلك، عدم تكامل الرؤية الصينية للتنمية والتي لا تزال تقتصر على البنية التحتية، فضلاً عن غياب التحالفات المستقرة على عكس الولايات المتحدة التي تعد نموذجاً للتحالفات القوية، مثل تحالفات واشنطن في "الإندوباسيفيك" ومع تايوان وكوريا الجنوبية واليابان.
حسابات واشنطن:
يمكن تحليل الموقف الأمريكي تجاه الانقلابات العسكرية في إفريقيا من خلال ثلاث كلمات مفتاحية، وهي الأمن والصين وروسيا، بالإضافة إلى عدد من التساؤلات الرئيسية، ومنها: لماذا تهتم الولايات المتحدة بإفريقيا، وما هي مصالحها الاستراتيجية في القارة، وكيف تعاملت واشنطن مع الانقلابات الأخيرة، وبالتعبية كيف انعكست هذه الانقلابات على المصالح الأمريكية في إفريقيا أو كيف تنظر الولايات المتحدة إلى إفريقيا من منظور أمنها القومي؟
وبشكل عام، فإن الاقتراب الرئيسي الأمريكي تجاه الانقلابات العسكرية في غرب إفريقيا هو دبلوماسي، وهذا ظهر بوضوح في خطاب التعبير عن القلق، ومناشدة قادة الانقلابات العسكرية بالحفاظ على الآلية الديمقراطية، والمتابعة المستمرة والدقيقة للأوضاع. ومن أبرز ملامح السياسة الأمريكية، تقديم المصالح على القيم.
وتركز الولايات المتحدة في المرحلة الحالية على خطط الاستجابة والطوارئ، ولا يوجد تفكير في سحب قواتها، وإنما إعادة انتشارها بحسب الظروف والتطورات، بهدف تأمين عملية الوجود العسكري. كما يتمحور النقاش الدائر حالياً داخل الدوائر العسكرية الأمريكية حول كيفية تأمين المصالح حتى لو حصلت انقلابات عسكرية، أخذاً في الاعتبار أن واشنطن فقدت قدراً من مصداقيتها فيما يتعلق بمبدأ الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبالتالي فإن صورتها تتضرر في هذا الصدد، وربما سيكون هذا الأمر موضع اهتمام أمريكي في ضوء مراجعة السياسات.
الآثار الاقتصادية:
تتبنى إفريقيا خطة تنموية هي "أجندة التنمية المستدامة 2063"، وتهدف إلى بناء اقتصاد إفريقي قوي ومتكامل ومؤثر في الساحة الدولية، وأن يكون السلام والاستقرار السياسي هو العمود الفقري للتنمية (من خلال مبادرة إسكات البنادق). لكن الواقع الفعلي يشير إلى إعاقة الانقلابات العسكرية للطموحات التنموية، حيث إنها تؤدي إلى نتائج معاكسة لما هو مُستهدف، في ظل خلق حالة من التوتر وانعدام الاستقرار، ومنع الحكومات والشعوب من استثمار الثروات التي تزخر بها دولها، واستشراء ممارسات الفساد المالي ونهب الموارد الطبيعية.
وتعكس المؤشرات استمرار تدني مستويات التنمية في دول غرب إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء، فمعظمها يقع ضمن الدول ذات التنمية المنخفضة أو الأقل نمواً، في مؤشر التنمية البشرية، حيث تتزايد أعداد اللاجئين والنازحين (القارة تضم نحو ثُلث اللاجئين في العالم)، وتتراجع مستويات المعيشة (ضعف النمو الاقتصادي، وارتفاع الفقر، وتدهور مستوى البنية التحتية، وضعف الخدمات العامة كالصحة والتعليم).
أما على صعيد التداعيات الاقتصادية الخارجية، فتتمثل التداعيات المباشرة للانقلابات العسكرية في قطع العلاقات الاقتصادية كنوع من الرد الخارجي على الانقلابات، وتعليق عضوية الدول في المؤسسات الإقليمية والاقتصادية. فعلى سبيل المثال، فرض الاتحاد الإفريقي والتكتلات الإقليمية في القارة عقوبات سياسية واقتصادية على الدول التي شهدت انقلابات، حيث تم تعليق عضوية مالي في المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) وفرض عقوبات عليها بعد انقلاب مايو 2021، ثم تعليق عضوية غينيا في (إيكواس) بعد انقلاب سبتمبر 2021. كما فرضت (إيكواس) عقوبات على النيجر بعد الانقلاب الأخير، فضلاً عن تعطل سلاسل توريد السلع، ما تسبب في مشكلات، منها رفع أسعار الأرز بنحو 17%.