في إطار أنشطة برنامج "الاستشراف الاستراتيجي"، وهو أحد البرامج البحثية الجديدة التي أطلقها "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"، عقد المركز يوم الأربعاء 15 فبراير 2023 حلقة نقاش بعنوان: "صناعة السياسات، والمستقبل، والاستشراف الاستراتيجي"، استضاف خلالها الدكتورة فلورنس جوب، خبيرة الاستشراف الاستراتيجي، والتي تركز أعمالها على صياغة السياسات بناءً على مناهج الاستشراف وتطبيقاتها في العلاقات الدولية والأمن.
وعملت الدكتورة جوب كنائب مدير لمعهد الاتحاد الأوروبي لدراسات الأمن "EUISS" في باريس في الفترة ما بين فبراير 2018 وحتى مايو 2022، كما عملت مستشاراً لشؤون الاستشراف لدى المفوضية الأوروبية وحلف الناتو ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي. وتعمل حالياً أستاذاً زائراً في جامعة أوروبا وعضواً في الاتحاد الدولي للدراسات المستقبلية وفي لجنة مستقبل المخاطر المركبة، وأسست أخيراً شركة استشارات للاستشراف "Futurate Institute"، وهي مجموعة استشارية تقدم خدماتها للعديد من الوكالات الدولية المعنية بالمستقبل.
مدخل لفهم الاستشراف:
استعرضت الدكتورة جوب مراحل تطور الأطر العملية الخاصة بالاستشراف، حيث أكدت أن الافتراض الأساسي في الاستشراف هو أن هناك مستقبلات "مسارات مستقبلية" عديدة، وليس هناك مستقبل واحد. فهناك المستقبل الشخصي، والمستقبل الذي نتطلع إليه في العمر الواحد، والمستقبل الذي يعبر عن مرحلة ما قد تمتد بين عقدين أو ثلاثة عقود، و"المستقبل المقدس" الذي تعبر عنه النصوص الدينية. ويقوم الاستشراف على أربعة افتراضات حول الطبيعة الإنسانية، وتتمثل في الشعور بمرور الوقت وبقدرة الإنسان على تقرير مصيره، وهو ما عمقه الفكر الديني، الإسلامي والمسيحي على السواء؛ ووجود علاقات سببية بين الظواهر الطبيعية والبشرية، والشعور بوجود تاريخ إنساني يمكن أن نتعلم منه، وهو الشعور الذي تعمق منذ القرن السابع عشر.
وحالياً، في ظل سيادة اللايقين، أصبحت المساحات غير المعلومة من تحولات العالم أكثر اتساعاً. ويمكن القول، وفقاً لتصنيف وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد، إن هناك أربعة مستويات من المعلومات التي يمكن من خلالها فهم العالم وتشمل: المعلومات المعلومة (Known Knowns)؛ وهي الأمور التي نعيها ونفهمها، والمعلومات غير المعلومات المعلومة (Known Unknowns)؛ وهي الأمور التي نعيها ولكننا لا نفهمها، والمعلومات غير المعلومة (Unknown Knowns)؛ وهي الأمور التي نفهمها لكننا لا نعيها، والمعلومات غير المعلومات غير المعلومة (Unknown Unknowns)؛ وهي الأمور التي لا نعيها ولا نفهمها.
وفقاً للدكتورة جوب، فقد كان للتقدم التكنولوجي منذ القرن التاسع عشر دور في تقليص مساحة غير المعلوم من العالم، وبالتالي أصبح محركاً كبيراً لتحولات المجتمعات البشرية. وكان لتمكن البشر من جمع وتحليل البيانات دور هائل في تحسين القدرة على التنبؤ في مجالات عديدة بداية من الطقس إلى "التأمين على الحياة والممتلكات". وقد تمكن حوالي 300 كتاب ورواية من روايات الخيال العلمي، صدروا في الفترة ما بين 1870 و1914، من أن يتنبأوا باندلاع الحرب العالمية الأولى بشكل أقرب إلى الدقة.
وفي مرحلة ما بين الحربين العالميتين، تصاعد الاهتمام بالتنبؤ خاصة في المجال الاقتصادي. وعلى الرغم من إخفاق العديد من الاقتصاديين بالتنبؤ بالكساد الكبير في عام 1929، فإن أسس بناء التوقعات والنمذجة وبناء الأنماط الإحصائية والحسابية ظل مستخدماً بشكل واسع. وجاءت النقلة الحقيقية مع تأسيس "مؤسسة الأبحاث والتطوير" RAND التابع لسلاح الطيران الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية، والذي نجح في بناء نماذج لتوقع الصراع النووي بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وأسس لبناء السيناريوهات التي انتقل استخدامها إلى المجالات الأكثر مدنية في العقود التالية.
وعلى المستوى المؤسسي، أسست المفوضية الأوروبية في عام 1989 وحدة المستقبل ولكن تم حلها في عام 2000. بيد أن الاتحاد الأوروبي أسس شبكة "ESPAS"، وهي اختصار للاستراتيجية الأوروبية وتحليل النظم، لتصبح أكبر شركة تضم معاهد الاستشراف والدراسات المستقبلية في أوروبا عام 2012. وعين الاتحاد في عام 2019 أول مفوض للاستشراف الاستراتيجي، ماروش سيفاتوفيتش. هذا فضلاً عن تطبيقات الاستشراف في الابتكار التكنولوجي والتمويل والبيئة والتعليم.
الاستشراف والتنبؤ:
وعلى الرغم من خلط المفاهيم بين الاستشراف (Foresight) والتنبؤ (Prediction)، فإن هناك فرقاً شاسعاً بينهما، حيث يدور الاستشراف حول استكشاف للإمكانات المستقبلية (المسارات المتعددة)، وهو قائم على مناهج واضحة وقائمة على جمع الأدلة وتحليلها، ويسعى إلى تحديد الاحتمالات التي قد تتخذها ظاهرة ما، مع تحديد مستويات اليقين، وهو يهدف إلى دعم اتخاذ القرار. أما التنبؤ، فهو مقولات محددة حول المستقبل، ولا يخلق بدائل متعددة أمام صانع السياسات.
وتتسم عملية صنع السياسة بشكل عام بأنها متوجهة نحو المستقبل أي أنها أكثر تركيزاً على المستقبل الأكثر احتمالاً والمرغوب فيه. ويسعى الاستشراف إلى تعزيز الأفكار المستخدمة لدى أي منظمة أو حكومة لدعم اتخاذ القرار فيها. وهنا يبرز الفرق بين الاستشراف والاستراتيجية. ففيما يشبه الاستشراف دور عمليات الاستطلاع في الحرب من حيث جمع المعلومات وتحليل التداعيات وتحديد الإمكانات المختلفة، تمثل الاستراتيجية الخطة الموضوعة لتنفيذ هدف ما.
الاستشراف الجيد والسيئ:
أشارت الدكتورة جوب إلى أن الاستشراف منذ تطوره حفل بنماذج جيدة أو مفيدة وأخرى غير مفيدة وربما سيئة. وربما من أفضل النتائج تطوير شركة "شل" لنموذج بناء السيناريوهات في مرحلة مبكرة في السبعينيات، وتمكنها من تجنب أزمتي البترول في عامي 1973 و1979. وكذلك تطويع بناء السيناريوهات في حل أزمات التعايش العرقي بعد انهيار نظام "الأبارتايد" في جنوب إفريقيا.
ومن أمثلة الاستشراف السيئ التوقعات التي تحاول تعزيز الخوف لدى الجمهور العام وصناع القرار، مثل التنبؤ الشهير بالقنبلة السكانية في الستينيات أو التوقعات بنشوب حرب بين الولايات المتحدة واليابان. ويمكن التفريق بين الاستشرافين الجيد والسيئ من خلال العناصر التالية:
- يسعى "الاستشراف الجيد" إلى بناء خيارات لدى صناع السياسات ويدفعهم نحو التحرك لاتخاذ قرارات بعينها، ويُضَمِن أصحاب المصالح في عملية اتخاذ القرار، ويؤسس لمقولات متماسكة.
- يطلق "الاستشراف السيئ" مقولات غامضة لكنها كاسحة، ويحاول إثارة مشاعر الخوف، القومي والاقتصادي، بدلاً من التفكير في الخيارات البديلة، ويستبعد أصحاب المصالح ولا يقدم الأدلة على تنبؤاته.
ضوابط حاكمة:
لبناء مقولات استشرافية مفيدة، أكدت الدكتورة جوب على أنه ينبغي للباحثين والمحللين الالتزام بلغة منضبطة لا تقع في فخ "التهويل" و"الملل". ويؤدي التهويل ببث الكثير من التحذير إلى عدم انتباه صناع القرار، وعندما يتم تقديم مشكلات عديدة متشابكة؛ غالباً ما يتم التركيز على القضايا الأكثر تهديداً من الناحية الوجودية. أما اللغة المملة، فهي التي تركز فقط على ما هو معلوم وتسعى إلى تأكيد الاعتقادات لدى صناع القرار، أو تحاول التركيز على استشراف المستقبل البعيد للغاية (الذي قد ينتمي للخيال العلمي).
وعند محاولة بناء خيارات سياسية مستقبلية، غالباً ما يخلط المحللون بين "الاتجاهات" و"الأحداث". وفيما تعبر الاتجاهات عن مسارات محتملة لاستمرار الحاضر في المستقبل، فإن هذه المسارات قد تتغير وجهتها بسبب وقوع أحداث مستقبلية غير محتملة حالياً لكنها عظيمة التأثير. وتمثل الأحداث أنواعاً مختلفة من مساحة "غير المعلوم" و"اللايقيني في المستقبل"، ويمكن التفريق بين درجات التأثير واللايقين من خلال توظيف مجاز "حيوانات الاستشراف"، وهي ثلاثة: "الملك التنين" (Dragon King)؛ وهي أحداث ذات تأثير كبير ونادرة الحديث إلا أنه من الممكن التنبؤ بها إلى حد ما. و"وحيد القرن الرمادي" (Grey Rhino)؛ وهي أحداث محتملة للغاية وعظيمة التأثير وتقع بعد سلسلة من التحذيرات. و"البجعة السوداء" (Black Swans)؛ وهي أحداث عظيمة التأثير ويصعب التنبؤ بها إن لم يكن مستحيلاً.
وينبغي التأكيد أن تحديد طبيعة "الأحداث المفاجئة" يخضع لوجهات النظر والرؤى، وقد تنكشف حقائق حول ملابسات حدوثها بمرور الوقت. فعلى سبيل المثال، طالما جرى تصنيف أحداث الحادي عشر من سبتمبر كـ"بجعة سوداء"، إلا أنه بمرور الوقت انكشفت وقائع حول التحذيرات التي تم إطلاقها قبل الهجمات من قبل جهات مختلفة.
وتتأثر أحكام العامة والخبراء على السواء بما يعرف بالتحيزات الإدراكية، تلك التي فصلها "دانيال كانمان" في كتابه "التفكير سريعاً وبطيئاً"، مثل "التفاؤل والتشاؤم"؛ الذي يدفع نحو التفكير بالتمني أو الاستسلام للكوارث، و"تحيز الوضع القائم"؛ الذي يفترض استمرار الحاضر في المستقبل، و"مغالطة الترابط"؛ والتي تفترض تزايد وقوع الأحداث التي نعرف عنها الكثير فقط، و"تحيز التأكيد"؛ الذي يفترض أن حدثاً لن يحدث في المستقبل طالما لم يحدث في الماضي، و"تحيز الاعتياد"؛ حيث يتم تجاهل التحذيرات بسبب الاعتياد على المشكلات قبل أن تتطور إلى أزمات.
ولتحييد آثار هذه التحيزات وغيرها، فمن الضروري مراجعة الباحثين ومحللي السياسات لاعتقاداتهم حول العالم بشكل دوري ودائم، والتعرض للأفكار والاتجاهات التي تناقض توجهاتهم واعتقاداتهم. وقد حدد مشروع "الأحكام السليمة" الذي يشرف عليه مكتب مدير الاستخبارات الوطنية في الولايات المتحدة خصائص المتنبئين الفائقين بسبب دقة نتائجهم على النحو التالي: الذكاء الفائق والذي يعول على أحكامه، والمعرفة واسعة النطاق خاصة في السياسة، ومعدلات عالية في اختبارات التفكير المنفتح، والرغبة في التفكير في المعلومات المناقضة لوجهات النظر السائدة والسابقة، والميل إلى الاستمتاع بالتفكير والتنبؤ، والاعتقاد بأن التنبؤ مهارة يمكن تطويرها وليست مجرد قدرة باطنية أو حظاً أعمى، وامتلاك رؤية علمية للعالم، وعدم الاعتقاد المجرد في الحظ أو القدر.
الاستشراف والسياسة الخارجية:
أشارت الدكتورة جوب إلى أن تحولات السياسة الخارجية تحدث بمعدلات متسارعة في أمد زمني قصير، وتتسم البيئة الدولية بالسرية وافتقاد البيانات والاعتماد المتبادل بين الفاعلين، من الدول وغير الدول. وتتغير الرؤى وفقاً للتغيرات الثقافية، وتتخذ قلة من الفاعلين قرارات ذات تأثير عميق. وكقاعدة، كلما زاد تأثير العامل البشري، كلما أصبح الاستشراف أكثر خداعاً، لكنه مطلب ضروري.
ويُعد التنبؤ بالصراعات أحد أكثر الجوانب التي يوظف فيها الاستشراف في السياسة الخارجية. وتشير الخبرة السائدة في حقل الاستشراف إلى أن دقة توقع الصراعات تزداد في فترة تتراوح بين ثلاثة وستة أشهر من وقوعها، كما أن هذه الدقة تزداد في الدول التي تعاني من الصراعات المستدامة، بالإضافة إلى أنه لا يوجد إدراك حقيقي لكيفية منع هذه الحوادث من الوقوع، كما تعبر الأحداث النادرة نسبياً عن العينات الأقل حجماً في أية عينة بحثية.
فقبل 32 يوماً من نشوب الحرب الروسية في أوكرانيا، اتجهت أغلب الآراء في "مشروع الأحكام السليمة"، والذي يقوم على استطلاع آراء المشاركين من ذوي المعرفة الكافية بالصراع، إلى استبعاد وقوع الحرب، إلا أن هذا الرأي تغير تماماً قبل أيام قليلة من نشوبها.
وبشكل عام، لا يوجد علم يمكنه أن يتوقع السلوك الإنساني، وهناك تعويل متزايد على "نظرية السلوك الرشيد" التي تحاول تفسير السلوك البشري والتنبؤ به على قاعدة "الرشادة العقلانية". وقد تتصرف الأطراف برشادة في بعض الأحيان، ولكن ليس في كل الأحيان، فالسياق والخلفيات والرؤى والنوازع قد تدفع صناع القرار/ البشر إلى اتخاذ قرارات غير رشيدة.
وأوضحت الدكتورة جوب أن هناك نوعين من الاستشراف في السياسة الخارجية؛ الأول هو "الاستشراف الهجومي" الذي يرتكز على استراتيجية تحاول تحقيق نتائج معينة، ولا يريد أن يكون في خانة رد الفعل بل يحاول الاستباق، وغالباً ما يسبق وضع الخطط والاستراتيجيات وتمارسه الحكومات. و"الاستشراف الدفاعي" الذي يستلهم الروح الوقائية ويحاول منع الأزمات والتغلب عليها. ومن الملاحظ أن الحكومات وأجهزة الاستخبارات الغربية أصبحت أكثر اهتماماً بإصدار تقارير لاستشراف مستقبل العالم خلال العقود المقبلة، بيد أن هذه التقارير غالباً ما تكون موجهة للداخل.
ختاماً، أكدت الدكتورة جوب أن هناك اهتماماً بمشروعات استشراف المستقبل في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن مشروعات الرؤى الاستراتيجية في العقود المقبلة مثل "السعودية 2030"؛ تعبر عن "المستقبل المرغوب" دون أن تبحث عن خيارات مستقبلية بديلة. وفي الاستشراف، من الضروري أن يكون التركيز على حسابات الفرص والمخاطر على السواء، بدلاً من التركيز على جانب وإهمال آخر. وربما تمثل هذه الحالة أيضاً إسرائيل التي يتسم الاستشراف فيها بأنه "وقائي" ويركز على المخاطر التي ستتعرض لها الدولة دون أن يُعنى بالجوار العربي. وبشكل عام، فإن المنطقة بحاجة إلى تطوير نماذج خاصة باستشراف مستقبلها بدلاً من أن يقوم بهذا خبراء وباحثون من خارجها.