استضاف مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"، معالي نبيل فهمي، وزير الخارجية المصري السابق، مؤسس كلية الشؤون الدولية والسياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، في حلقة نقاش، يوم الاثنين 14 نوفمبر 2022، للحديث عن مسارات السياسة الأمريكية في ضوء نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، وتأثيرها على منطقة الشرق الأوسط، مع الإشارة كذلك إلى التحولات الجارية في النظام الدولي في إطار الحرب الروسية - الأوكرانية.
وخلص فهمي، خلال الحلقة التي أدارها الأستاذ حسام إبراهيم، المدير التنفيذي للمركز، إلى أن نتائج هذه الانتخابات سوف تضع قيوداً على حركة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في دوائر السياسة الخارجية، ومنها تجاه الشرق الأوسط.
تحولات النظام العالمي:
في بداية حلقة النقاش، تطرق فهمي إلى التحولات التي يشهدها النظام العالمي حالياً، والذي يمر بعاصفة تغيير تكاد تكون مكتملة الأركان، وتُضفي حالة من عدم اليقين على المستقبل، وتجعل اتخاذ قرارات استراتيجية أو القفز إلى استخلاصات حاسمة في قضية ما، أمراً مُعقّداً للغاية.
فبعد الحرب العالمية الثانية، تأسس النظام العالمي في ظل الثنائية القطبية، وارتكز على فكرة "توازن القوة"، ورأى كلا المعسكرين (الشرقي والغربي) أن ما يُسمى بـ "الدمار الشامل المتبادل" هو محور استقرار النظام الدولي، وضمانته لعدم اندلاع حرب عالمية جديدة (ثالثة). وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وتراجع المعسكر الشرقي، وبسط المعسكر الغربي لهيمنته على الساحة الدولية، تلاشت أغلب المفاهيم التي ارتكز عليها النظام الدولي، ولكن ظلّت فكرة واحدة قائمة، وهي تلك المتعلقة بـ "مناطق النفوذ"، بما يفرض على كل قوة احترام مناطق نفوذ القوى الكبرى الأخرى.
وخلال السنوات الأخيرة، بددّت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الفكرة، ليصبح النظام العالمي الحالي مُنبت الصلة تماماً عن ذلك الذي تأسس في عام 1945. وبناءً على ذلك، فإن الحرب الروسية - الأوكرانية الحالية كانت نتيجة لهذا السياق الدولي.
انقسام أمريكي:
انتقل فهمي للحديث عن انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي لعام 2022، مشيراً إلى أنه من المهم قبل دراسة وتحليل نتائج هذه الانتخابات، والتي جرت فيها إعادة انتخاب أعضاء مجلس النواب كافة، وثُلثي أعضاء مجلس الشيوخ، النظر بشكل عام إلى ما أفرزته الانتخابات الأمريكية، وتحديداً الرئاسية خلال العقدين الأخيرين.
فمن المُلحوظ أنه خلال تلك الفترة تعاقب على البيت الأبيض أربعة رؤساء، من خلفيات سياسية واجتماعية مختلفة، وهو اختلاف يصل إلى حد التناقض، ما انعكس بالطبع على سياسة كل منهم. وهذا أمر يحمل دلالة مهمة بشأن "حالة التيه" التي يعيشها الشعب الأمريكي، وكأنه في مرحلة إعادة بحث عن الذات، وتحديد ملامح هويته في عالم الغد.
ويبدو أن ما أفرزته نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس إلى الآن، تؤكد على هذا الاستنتاج، وهو ما يعني استمرار "حالة التيه" في ظل انقسام شديد، وضبابية رؤى الأمريكيين بشأن مستقبلهم، ومستقبل بلادهم. إذ تشير النتائج حتى الآن إلى أن الحزب الديمقراطي سيطر بالفعل على مجلس الشيوخ، وهو على وشك خسارة مجلس النواب لصالح الحزب الجمهوري، ولكن بأغلبية بسيطة. وهي نتائج ربما لا تتوافق مع المعادلة التي سادت خلال السنوات السابقة، حيث إنه غالباً ما يخسر حزب الرئيس الأمريكي انتخابات التجديد النصفي لصالح منافسه في كلا المجلسين.
دلالات رئيسية:
يمكن القول إن هناك ثلاث قضايا رئيسية حددّت مصير انتخابات الكونجرس الحالية، وهي: الوضع الاقتصادي، ومستقبل قضية الإجهاض، وشخصية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب يما يمثله من تيار ذي وزن داخل الحزب الجمهوري. ومن المثير للدهشة أنه في ظل حرب دولية في أوكرانيا، تنخرط الولايات المتحدة فيها بشكل مباشر، لا تدخل قضايا السياسة الخارجية في قائمة اهتمامات الناخب الأمريكي.
وترتيباً على ما سبق، فقد أفرزت نتائج انتخابات الكونجرس الأخيرة الاستنتاجات التالية:
1- خسارة واضحة لتيار ترامب داخل الحزب الجمهوري: إذ إن عدداً كبيراً من النواب الجمهوريين الفائزين في الانتخابات ينتمون إلى التيار الوسطي المعتدل داخل الحزب، بعيداً عن سياسات ترامب الشعبوية.
2- تغير الخريطة الديموغرافية للتصويت في الولايات المتحدة: صار للنساء في الضواحي وزن نسبي لا يُستهان به، بما يعني رفع أهمية القضايا محل اهتمام هذه الشريحة.
3- تردد أمريكي في التعامل مع القضايا الدولية: ظهر ذلك في تراجع اهتمام الناخب الأمريكي بقضايا السياسة الخارجية، وهو ما يتناسب مع التوجهات الأمريكية الشعبوية والانعزالية التي تنامت خلال السنوات الأخيرة، بل ويتناسب مع الرؤية الرسمية كذلك. ففي زيارته لمنطقة الشرق الأوسط في يوليو 2022، قال الرئيس بايدن: "هذه أول مرة يزور فيها رئيس أمريكي هذه المنطقة بدون أن تكون القوات الأمريكية مشاركة في مهمة قتالية في المنطقة منذ هجمات 11 سبتمبر 2001".
4- تقييد تحركات بايدن الخارجية: يبدو أن توزيع المقاعد بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في مجلسي النواب والشيوخ، سيعمل على كبح التحركات الخارجية للرئيس بايدن، دون أن يُعرقلها تماماً. ومن المتوقع ألّا ينجح بايدن في توفير دعم مالي إضافي كبير، سواء لصالح أوكرانيا، أو صالح قضايا البيئة والتغير المناخي.
السياسة الإقليمية:
في ضوء تحولات النظام العالمي، وما ستفرزه نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس من تأثير على السياسة الأمريكية، أوضح فهمي أنه يمكن رسم ملامح هذه السياسة المتوقعة تجاه منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة المقبلة، على النحو التالي:
1- إعادة ضبط العلاقات مع الدول العربية: من المتوقع أن تعمل الولايات المتحدة على إعادة ضبط علاقاتها مع الدول العربية، خاصةً الخليجية، بسبب حاجتها للتعاون مع مجموعة "أوبك بلس" لتنظيم أسعار النفط في مواجهة أزمة الطاقة. وفي الوقت ذاته، لن ترغب واشنطن في التورط عسكرياً مُجدداً في العراق، لكنها ستعمل على دعم الحكومة العراقية الجديدة، وتمكين قواتها العسكرية والأمنية على صعيد العُتاد والتدريب، في محاولة منها لكبح النفوذ الإيراني هناك. أمّا على الصعيدين السوري والليبي، فسيكون تركيز واشنطن بالأساس على تقويض النفوذ الروسي هناك، والحيلولة دون توسعه أكثر.
2- تراجع فرص التوصل لاتفاق نووي مع إيران: بدا خلال الشهور الماضية وما شهدته من جولات تفاوضية حول إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، أن الرئيس بايدن كان يرغب حقاً في استعادة الاتفاق، ولكن طهران هي التي جعلت هذا الخيار مُعقداً – من وجهة النظر الأمريكية - نتيجة تعنتها، وإصرارها على اتفاق يُصوّت عليه الكونجرس، كي لا يكون عُرضة للإلغاء في حالة وصول رئيس أمريكي جديد في عام 2024.
واليوم بعد انتخابات التجديد النصفي، وعودة الأغلبية في مجلس النواب إلى الجمهوريين، صار من الصعب توقع استعادة الاتفاق النووي. أضف إلى ذلك أن السياق السياسي في إيران، واستمرار الاحتجاجات الشعبية هناك، يجعل الأمر أكثر تعقيداً.
وربما الفرصة الوحيدة لإعادة إحياء الاتفاق النووي هي أن تتم ضمن "صفقة كبرى"، لا تشمل فقط الملف النووي، وإنما أيضاً تسوية ملف النفوذ الإقليمي لإيران في كل من سوريا ولبنان واليمن. وعلى الرغم من كون هذه الصفقة معقدة وصعبة الحدوث، فإنها غير مستبعدة كلياً. وفي كل الأحوال، ستكون الإدارة الأمريكية حريصة على عدم رفع مستوى التصعيد والتوتر مع إيران خلال الفترة المقبلة.
3- إدارة التوتر مع إسرائيل: يبدو أن نتائج الانتخابات الأخيرة في كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، أفرزت معطيات لم يرغب في كل طرف في التعامل معها. فعودة بنيامين نتنياهو بحكومة أكثر يمينية هو خبر ليس جيد لإدارة بايدن، في ظل العلاقات المتوترة أصلاً مع نتنياهو. بينما كان الأخير يرغب بكل تأكيد في "أغلبية جمهورية" في مجلسي النواب والشيوخ، مع وصول أكبر عدد ممكن من السياسيين المنتمين لتيار ترامب، وهم الأكثر توافقاً مع سياسات نتنياهو.
لذلك، وفي ظل تراجع آمال الإدارة الأمريكية الحالية في تحريك نتنياهو لملف عملية السلام، بل وتصعيد محتمل في عمليات ضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، ربما تتجه واشنطن لإدارة علاقاتها المتوترة مع نتنياهو وحكومته الجديدة، ومن غير المحتمل أن تستهلك رصيدها السياسي في انخراط (قد تراه غير مُجدي) في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
4- وجود علاقات تُدار بكفاءة مع تركيا: اتفقت معظم الإدارات الأمريكية، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية، على أهمية تركيا كلاعب محوري في منظومة الأمن الغربي. وقد تنامت هذه الأهمية خلال الحرب الأوكرانية، انطلاقاً من ثلاث مُحددات؛ هي أهمية أنقرة كلاعب رئيسي في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، ودورها في إدارة المفاوضات الجارية مع روسيا وتحديداً "اتفاقيات الحبوب" مؤخراً، فضلاً عن تزويد تركيا لأوكرانيا بطائرات مُسيّرة من طراز "بيرقدار تي بي 2" والتي لعبت دوراً محورياً في الحرب الجارية. لذلك، وبغض النظر عمّا ستسفر عنه الانتخابات التركية في عام 2023، ستظل العلاقات الأمريكية - التركية تتراوح ما بين كونها جيدة و"تُدار بكفاءة".