منذ سقوط حائط برلين في نوفمبر (تشرين الثاني) 1989، وما لحقه من نهاية الحرب الباردة ونهاية الاتحاد السوفياتي كقطب عالمي عظيم، وانفراد الولايات المتحدة بلقب «القوة العظمي الوحيدة في العالم»، والسعي الأميركي نحو «عولمة» قوامها الرأسمالية والديمقراطية والليبرالية؛ والولايات المتحدة تقوم بدور قائد عالمي يقيّم ويفرز دول العالم ما بين السائرين في الركب، وهؤلاء الرافضين لهم، وهؤلاء الذين يعدّون استثناءً من التاريخ المعاصر في أركان العولمة الثلاثة. في البداية وزّعت أميركا ألقاب الثورات في أوروبا الشرقية حسب الألوان فكانت هذه برتقالية وتلك بنفسجية؛ وعندما جاء الحراك أخيراً إلى «الاستثناء» العربي أصبح هناك «ربيعاً» تظهر فيه الزهور من الياسمين إلى اللوتس. لم يستغرق الأمر كثيراً خلال العقد المنصرم حتى ظهر أن الاتحاد السوفياتي يمكنه أن يعود في شكل روسي جديد، وأن الصين يمكنها أن تعيد «الحرب الباردة» حتى ولو كانت في أشكال جديدة، أما الربيع العربي فلم يسفر لا عن نسائم ولا أزهار. المفاجأة الكبرى كانت ما بات يجري في الولايات المتحدة هذه الأيام كأن التاريخ قد دار دورة كاملة حيث لم يعد الموضوع تشكيل العالم على أشكال غربية، وإنما كيف يكون عليه حال الولايات المتحدة في نهاية ربيع العام الحالي وما سوف يتلوه من فصلي الصيف والخريف.
حتى الآن هناك أربعة مداخل لفهم حال واشنطن ومستقبلها القريب، أشهرها الآن هو النابع من قتل الأميركي الأفريقي جورج فلويد على يد رجل شرطة أميركي أبيض، وما نتج عنه من مظاهرات ومسيرات وانفجارات وعنف وصدامات، ربما لخّصها قول الرئيس ترمب: «أنتم تنهبون، ونحن سوف نطلق الرصاص». الحدث في البداية بدا كأنه ليس فيه جديد، فقيام الشرطة البيضاء بقتل أميركيين سود هو حدث متكرر في الولايات المتحدة، اختلفت المدن، وتنوعت القصص، ولكن النتيجة كانت دائماً سخطاً ومظاهرات وعنفاً أحياناً فيه شدة كما حدث في لوس أنجليس عام 1992. القصة دائماً تعود إلى ماضي العبودية البعيد، والمراحل التي مرت بها علاقات البيض مع السود لأكثر من مائتي عام مرت بحرب أهلية سافرة، وأخرى مقنعة، وأدَّت إلى تعديلات دستورية (13 و14 و15)، ومرة إلى قانون الحقوق المدنية. أصبحت القضية هي البحث عن العدالة والمساواة.
المدخل الآخر يضع الحالة الأميركية بأكملها على كتف الرئيس دونالد ترمب، باعتبار أن أميركا كانت في أحسن الأحوال حتى جاءها رئيس له من المواصفات ما يكفي لتفجير الدولة كلها. في مقال نُشر في «أتلانتيك» في 2 يونيو (حزيران) الجاري، جاء: «لقد دخلنا في المرحلة الأخيرة لعصر ترمب؛ الرئيس بات أسيراً لدورة حلزونية جهنمية». عصر ترمب بدأ بدرجة عالية من الاندفاع خلال الحملة الانتخابية الرئاسية عام 2016، ولكنه في عهده الأول بالحكم استدعى عدداً من الذين لديهم من الرشد والخبرة ما يكبح التطرف (تليرسون في الخارجية، وماتيس في الدفاع، وماكماستر في الأمن القومي وغيرهم). لم يمضِ وقت طويل حتى جرى التخلص من هؤلاء ومن يماثلهم وبات الرئيس يتصرف وفق مزاجه الشخصي. أصبحنا في المرحلة الثالثة لحكم الرئيس الذي بدأ في دخول مواجهات كبرى مع الصين وإيران. الآن فإن المرحلة الرابعة محمّلة بمأزق «كورونا» الصحي والفشل فيه، والاقتصادي المنذر ببطالة بلغت 20% من القوة العاملة الأميركية، والخروج من منظمة الصحة العالمية، ومواجهة استقطاب وانشقاق داخلي مروّع.
المسيرة «الترمبية» هكذا تصل بنا إلى انتخابات خاسرة خصوصاً أن الديمقراطيين بات لديهم من السجلات والأحداث والعزم الحزبي ما يكفي لكسب الولايات التي أعطت البيت الأبيض للجمهوريين قبل سنوات.
المدخل الثالث يأخذنا إلى تشريح «الظاهرة الجماهيرية» التي خرجت فيها الملايين، أو مئات الألوف، الغاضبة والساعية إلى العدالة والكرامة؛ ولكنها كما هي العادة لا تلبث أن تتحول إلى العنف والتدمير، واعتلاء قيادتها في الشارع أو إلى السلطة لجماعات متعصبة ومتطرفة سواء كانوا الإخوان المسلمين أو «أنتيفا» المعادية للفاشية. ديكلان والش كتب في «نيويورك تايمز» في 2 يونيو الجاري مقالاً بعنوان «في مصر، صور من الاحتجاجات الأميركية توقظ الثورة الضائعة» ورغم أن المقال يتحدث عن ذكريات الربيع العربي 2011 بآماله الهشة وكيف أنها أظهرت في أذهان المصريين أن ديناميات متشابهة تظهر في الولايات المتحدة؛ فإنه في الواقع يحاول الدفاع عما يراه حقيقة أن الولايات المتحدة لا تزال مختلفة بأركان ديمقراطيتها ومؤسساتها. ستيفن كوك يبدو أكثر صدقاً في مقال 4 يونيو الجاري في دورية «السياسة الخارجية» حين يقول: «نعم، ميدان لافييت هو ميدان التحرير»، فهناك خيوط تربط الاحتجاجات الأميركية بانتفاضات الشرق الأوسط، وهي المطالب الأساسية للمتظاهرين (العدالة والكرامة). المقال يبدو فيه نوع من الاعتذارية الأميركية لفترة من الدروس السياسية لأحوال الشعوب والنظم السياسية في منطقتنا التي انطلقت من تجاهل لحالة الظاهرة الجماهيرية ودينامياتها التي يبدو أن لها منطقها الخاص من السلمية إلى العنف وسواء كانت في الولايات المتحدة أو خارجها... باختصار، أميركا ليست استثناءً من قوانين التغيير في العالم.
المدخل الرابع هو أياً ما كان في المداخل السابقة، فإن أميركا فيها من الصلابة السياسية النابعة من دستورها ومن تقاليدها التاريخية ما يجعلها تعبر الأزمة الحالية، لأن التحكيم فيها قريب ولا يتجاوز نوفمبر القادم، حيث الانتخابات الرئاسية والتجديد في مجلسي النواب والشيوخ. «الأزمة» بأركانها الصحية والعنصرية وما جرى فيها من «انتفاضة» ليست جديدة على الساحة السياسية الأميركية. الستينات من القرن الماضي عرفت اغتيال الرئيس جون كينيدي، وأخيه المرشح الرئاسي روبرت كينيدي، ومعهما جرى اغتيال ليس جورج فلويد وإنما مارتن لوثر كينغ، ومن بعده مالكولم إكس، وجرى كل ذلك بينما أوار الحرب في فيتنام تصل إلى أعلى درجاتها وأشدها قسوة. النتيجة كانت قانون الحقوق المدنية، ومن بعده انتخاب ريتشارد نيكسون للفترة الأولى التي يصل فيها التظاهر والعنف وقتل المتظاهرين إلى أعلى درجاته، ولكن الرئيس يكتسح الانتخابات الرئاسية في 1972 ويحصل على فترة ثانية. لم يمضِ وقت طويل حتى خرج الرئيس من البيت أبيض بسبب فضيحة «ووترغيت»؛ واستكمل جيرالد فورد الرئاسة وكان رد الفعل الأميركي هو انتخاب جيمي كارتر الذي كان ليبرالياً إلى الدرجة التي أخرجته من البيت الأبيض بعد فترة واحدة، وجاءت من دونالد ريغان لثماني سنوات. ما أشبه الليلة بالبارحة، ورغم تغير الظروف، فإن الاستقطاب يجري حول نفس القضايا السابقة، ما بين الحرية في ناحية والقانون والنظام في ناحية أخرى، وما بين تدخل الدولة لكي تنصف الضعفاء، ومنعها من التدخل حتى يكون النمو سريعاً ومستمراً، وعما إذا كان على أميركا أن تقود العالم أم لا، وفي أي اتجاه وبأي وسيلة وتكلفة. ترمب في هذا المدخل ما زال لديه الكثير الذي يقدمه، والمعادلة هي أنه رجل القانون والنظام، والقادر على تحقيق انطلاق الاقتصاد، ومقاومة الصين وروسيا، وفوق ذلك كله الرجل الذي يستطيع وقف المهاجرين واللاجئين.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط