يبدو أن القسمة قسمت أن الانتخابات للرئاسة الأميركية سوف تكون بين مرشح الحزب الجمهوري ساكن البيت الأبيض الحالي دونالد ترمب، ومرشح الحزب الديمقراطي نائب الرئيس الأميركي السابق جو بايدن. الأول لم ينافسه منافس من حزبه، ورغم الأحقاد الكثيرة من قيادات الحزب الجمهوري، فإن الحزب يلتفّ حول قائده الحالي، أما الآخر فهو لم يحصل بعد على أغلبية الموفدين إلى مؤتمر الحزب القادم، ولكن كل المؤشرات الانتخابية تشير إلى أن بايدن لم يعد أمامه منافسة حقيقية من جانب خصمه الرئيسي بيرني ساندرز، وما بقي من منافسات انتخابية هي من تحصيل الحاصل وربما ترتيب الصفوف الديمقراطية للمواجهة القادمة مع ترمب. وفي الأول والآخر فإن مرشحهم هو رفيق وصفي بطل الديمقراطيين باراك أوباما، وصاحب السجل الكبير في الخدمة العامة في الكونغرس ولجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، فضلاً عن الخدمة في مؤسسات كثيرة. ولكنّ هذه المسيرة الجديدة لبايدن كمرشح للحزب ربما شكّلت نوعاً من خيبة الأمل بالنسبة إلى معسكر ترمب الذي كان يراهن على أن تكون المنافسة بينه وبين بيرني ساندرز، نظراً إلى تعريف نفسه بأنه «اشتراكي ديمقراطي»، وهذه في تعبيرات ترمب يمكن أن تتحول إلى «شيوعي» بسهوله لبناء قاعدة كبيرة من النفور حوله، وسيشكّل تبايناً سهلاً في الانتخابات العامة وقد يؤدي إلى خروج بعض الولايات المتأرجحة من معسكر الديمقراطيين إلى معسكر الرئيس.
لن يكون ساندرز مرشحاً سهلاً بالضرورة، فقد أظهر قوة مع قاعدة قوية وأرقام رائعة لجمع التبرعات، لكنه جادل بأن سياساته في مجالات الصحة والتعليم ستجعل من السهل رسمه على أنه اشتراكي يساري متطرف أخذه تطرفه، وهو «اليهودي»، إلى ساحة انتقاد إسرائيل ومناصرة الحقوق الفلسطينية في التخلص من الاحتلال. ولكن ربما إذا كان لترمب أن يختار خصومه فسوف يكون خياره الثاني هو جو بايدن الذي وجده في بداية الحملة الانتخابية كسولاً حتى وصفه بأنه «جو النائم» وضعيف «اللياقة الذهنية» والذي لا يخلو من توجهات يسارية ورثها عن طريق رئيسه السابق باراك أوباما. والآن بات على الرئيس أن يراجع هذا الموقف، فرغم كل العوائق والتحديات الفكرية والعمرية فإن باقة كبيرة من صغار السن والأكثر حيوية من المرشحين الديمقراطيين، نساءً ورجالاً ومثليين، قد تمت إزاحتهم من خلال العمليات الانتخابية لولايات مختلفة لكي تمهّد الطريق لفوز بايدن.
الآن أصبحت كل القفازات مخلوعة، والرئيس لديه قدرات غير عادية في إشعال قاعدته السياسية والسعي للحصول على أصوات إضافية تكفيه للفوز. كان ذلك هو ما فعله في مواجهة بنت «المؤسسة» السياسية الأميركية هيلاري كلينتون والتي ينتمي إليها بايدن أيضاً. ولكن بداية المعركة لن تكون مع «المؤسسة» الديمقراطية البراغماتية، ولكنها سوف تكون، على الأقل خلال المرحلة المقبلة حتى انعقاد مؤتمرات الحزبين الجمهوري والديمقراطي، شخصية تماماً. وبالفعل فإن الجمهوريين في مجلس الشيوخ بدأوا بالفعل في بعث قضية هنتر بايدن، نجل نائب الرئيس المرشح الديمقراطي، والتي حاول ترمب أن يثيرها مبكراً وأدت إلى إقامة الادّعاء ضده في مجلس النواب ومحاكمته أمام مجلس الشيوخ التي نجا فيها بفعل الأغلبية الجمهورية. القضية حتى الآن تقوم على أن هنتر مع شركة «بوريزما»، وهي شركة غاز أوكرانية استخدمته في مجلس إدارتها، ومن ثم فإن المراد هو التحقيق فيما إذا كان نائب الرئيس السابق قد أساء استخدام منصبه السابق من أجل خدمة الشركة التي ينتمي إليها ابنه. ما يأمل فيه الجمهوريون أن تمثل التحقيقات مجهوداً جديداً لجذب الانتباه إلى مزاعم الفساد التي وجّهها ترمب وحلفاؤه ضد بايدن العام الماضي. والواقع أنه لا يوجد أي دليل على ارتكاب أيٍّ من جو أو هنتر بايدن أيَّ مخالفات في هذا الشأن، وقد تسببت التقارير في تشويه سمعة هذه المزاعم ذاتها، على الرغم من أن المسؤولين الحكوميين أقروا بوجود تضارب في المصالح على الأقل بين منصب نائب الرئيس وعمل ابنه.
ولكنّ الانتخابات الأميركية لا يقوم الكسب فيها على أساس المهاترات الشخصية التي قد تصلح لملء الفراغ الحالي وكسب اهتمام الإعلام، وإنما عندما تبدأ المواجهة المباشرة، وسلسلة المناظرات بين الطرفين، فإن الرسائل الخارجة منهم لا بد لها أن تقدم لسياسات محددة تنجح في جذب اهتمام الناخبين. الثابت، أولاً ودستورياً، أن الانتخابات تجري على أساس من المجمع الانتخابي للولايات الخمسين في الولايات المتحدة الأميركية. وثانياً أن هذه الولايات مقسمة لأسباب تاريخية واقتصادية واجتماعية وثقافية وحتى تكنولوجية إلى ولايات زرقاء (ديمقراطيون) وأخرى حمراء (جمهوريون)، ولا يمكن تصور أن كاليفورنيا أو نيويورك يمكن أن تتحولا إلى اللون الأحمر، بقدر ما لا يمكن تصور أن ولايتي تكساس أو أوكلاهوما يمكن أن تتحولا إلى اللون الأزرق. وثالثاً أنه في العموم فإن ولايات الساحل على المحيطين الأطلنطي والباسفيكي هي ولايات ديمقراطية، أما ولايات الداخل حول جبال الروكي والجنوب فهي جمهورية. ورابعاً فإن هذا التقسيم ينجم عنه بالضرورة وجود حزمة من الولايات «المرجِّحة» التي يختلط فيها الأحمر في الريف مع الأزرق في المدن، وهذه يحسم توجهها «البنفسجي» بين اللونين حسب التوازن بين الضواحي وقلب المدينة. الولايات البنفسجية المتقلبة هي بنسلفانيا وميتشغان وأوهايو وويسكونسون وفلوريدا. وخامساً أن القسمة بين الأزرق والأحمر ليست في الولايات فقط وإنما أيضاً في الشريحة الاجتماعية التي يعتمد عليها الحزب والمرشح الرئاسي. وفي انتخابات 2016 اعتمد ترمب على الطبقة العاملة البيضاء وهذه تشكّل 44% من الناخبين في الولايات البنفسجية، حيث نجح في حشدها خلف سياساته المناوئة للصين، ونقل المصانع الأميركية إلى الدول الصناعية البازغة خصوصاً المكسيك التي حصلت علي نصيب الأسد منها. الحزب الديمقراطي لديه أيضاً قاعدته المكونة من الأقليات (الأفريقية واللاتينية) والنساء والمتعلمين فوق الجامعيين؛ وتاريخياً كان للحزب نصيب كبير من الطبقة العاملة ولكنها هجرته في الانتخابات الأخيرة. المهم أن نجاح المرشح يتوقف على قدراته في حشد أعلى النسب الممكنة من قاعدته الخاصة مع محاولة الحصول على نسب من قاعدة الخصم تحتجّ على سياسات مرشحها خصوصاً في القضايا الخلافية الكبرى في أميركا مثل حمل السلاح والموقف من الهجرة الخارجية والحريات الدينية والمثليين. وفي انتخابات هذا العام سوف تكون كل سياسات ترمب، وما نجح في تحقيقه وما لم ينجح فيه على المحكّ في الانتخابات الرئاسية. وسادساً أن الرئيس في سنة الانتخابات لديه ميزة كبيرة، حيث يمكن لسياساته أن تشكّل توجهات الرأي العام، ولكنها من جانب آخر تجعله أكثر تعرضاً للنقد. وكان ذلك هو ما فعله بايدن إزاء سياسات ترمب الجارية فيما يخص فيروس «كورونا» ووقف الرحلات الجوية من 26 دولة أوروبية في منطقة «شنغن» حيث اتهمه بالفشل وعدم القدرة على إدارة الأزمة وإضعاف تحالفات تاريخية. تُرى من الذي سيفوز بالرئاسة الأميركية في هذه الجولة؟!
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط