أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

الصندوق المظلم:

آليات التلاعب الخفية في أسواق المال العالمية

06 نوفمبر، 2019


عرض: وفاء الريحان - باحثة في العلوم السياسية

شهدت أسواق رأس المال تحولًا جذريًّا في العقدين الأخيرين من القرن الحادي والعشرين، حيث حلت أجهزة الحاسب فائقة السرعة محل منصات التداول التقليدية. وبعد أن كانت البورصات المركزية تضمن الشفافية في تعاملات المتداولين، أضحت اليوم مُجزأة إلى مجموعة من البورصات ومنصات التداول المنافسة، وتحمل في طياتها عوامل فساد كثيرة.

وفي هذا الإطار، يتناول كتاب بعنوان "تصميم الظلام: القوة الخفية في أسواق رأس المال العالمية" لأستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة أكسفورد "والتر ماتي"، الأخطار غير المرئية لتجزئة الأسواق، ونشوء ما يُسمى بـ"الصندوق المشترك المظلم"، وقد تم تصميم بعض هذه الأسواق عن عمد لتمكين نقل الثروات من الضعيف إلى القوي. ويتتبع المؤلف سقوط نموذج التبادل التقليدي المتمثل في بورصة نيويورك، وكيف تم استبداله بالأسواق المجزأة ذات الحوكمة السيئة، والتي يعمل بها بعض المشتغلين لتحقيق مصالحهم الخاصة، وتعظيم أرباحهم على حساب الآخرين.

رؤية مغايرة 

ينظر "ماتي" إلى الأسواق المالية أو البورصات باعتبارها كيانًا سياسيًّا أكثر منها كيانًا اقتصاديًّا، فهو يرى أنها مؤسسات سياسية تحكمها علاقات القوة؛ حيث تضم أعضاء مختلفين لكل منهم رؤيته الخاصة فيما يتعلق بهيكل السوق والقواعد التي تحكمه، وعندما يمتلك هؤلاء الأعضاء نفوذًا متماثلًا تكون النتيجة حلًّا وسطًا ديمقراطيًّا يسود فيه الصالح الأكبر.

على صعيد آخر، يرى الكاتب أنه عندما تحصل المؤسسات المالية على درجة كبيرة من القوة والنفوذ، فإنها قد تتخطى هيكل السوق لصالحها. وما سبق حدث في سوق الأسهم العالمية مؤخرًا، حيث قام أكبر البنوك وشركات الوساطة بإعادة تشكيل الأسواق لخدمة أغراضه الخاصة.

وروى "ماتي" قصة توضح حجم التغيرات التي حدثت في القواعد الحالية المنظِّمة للأسواق المالية؛ حيث أخبر "بوب سيجاس" الموظف البالغ من العمر 33 عامًا في بورصة نيويورك، عن زميل له في العمل تم تغريمه في الثمانينيات من القرن العشرين مبلغ 50 ألف دولار، بما يُعادل أكثر من 100 ألف دولار حاليًّا، لأنه ترك مكتبه لمدة ثماني دقائق دون إعطاء تعليمات كافية لمساعده.

 وكان الرجل يعمل كوسيط بين المشترين والبائعين، وجزء من وظيفته هو الشراء في ضغوط البيع، أي شراء الأسهم حتى مع انخفاض أسعارها لضمان استمرار التداول بسلاسة، وعندما غاب لدقائق عن العمل، ولم يواصل مساعده الشراء، انخفض بحدة سعر السهم الذي كُلف بالإشراف عليه.

ويوضح الكاتب أنه منذ الثمانينيات وحتى نهاية السنوات الأولى من القرن الحالي، كان من المؤكد تقريبًا معاقبة أي خرق لقواعد العمل المنظِّمة، مما عزز الثقة التي كانت لدى جميع المشاركين في السوق. ولعب المتخصصون دورًا رئيسيًّا في الحفاظ على تلك الثقة، فقد فهموا أنماط التداول، وعرفوا كبار المشترين والبائعين، وحققوا الأرباح بشفافية، محاطين بالتجار الذين شاهدوا كل تحركاتهم.

التحول إلى الحوكمة السيئة

يذكر "ماتي" أن ذلك النظام التقليدي المُتعارف عليه لعمل البورصات قد انتهى، ولم تَعُد بورصة نيويورك هي التي تعمل وحدها، أو تحتكر السوق كما كان قبل عام 2005، وإنما هناك 23 بورصة مدرجة في الولايات المتحدة، وبورصة نيويورك هي ثاني أكبر بورصة، وتُمثل حوالي 12% من إجمالي السوق الأمريكية.

ويشير الكاتب إلى أن البورصات أصبحت تفعل كل ما في وسعها لجذب اللاعبين الرئيسيين، الذين يقومون بملايين الصفقات في الثانية الواحدة، وغالبًا ما يستوعبونها بطرق تُفيد هؤلاء اللاعبين على حساب المشاركين الآخرين في السوق، بما يدل على أن السوق يضم اليوم الكثير من المتداولين المتطرفين أكثر من أي وقت مضى.

على جانب آخر، تُعاني الهيئات الحكومية التي تقوم بمراقبة تلك التبادلات من الافتقار إلى التماسك، فنجد أن هيئة الأوراق المالية والبورصة تتنافس مع لجنة تداول العقود الآجلة للسلع من أجل تنظيم الأسواق.

أسباب التحول

يرى "ماتي" أن سبب هذا التغيير الهائل هو التنظيم الوطني للسوق، وهي القاعدة التي أصدرتها لجنة الأوراق المالية والبورصة عام 2005 باسم كفاءة السوق، وقامت بتحديث الأسواق ظاهريًّا عن طريق تحريك تداول الأسهم بعيدًا عن بورصة نيويورك، وتجاه العديد من البورصات الأخرى.

ويذكر الكاتب أن ما حدث ساعد شركات الأوراق المالية العالمية الكبرى على الاستفادة من تدفق أوامر البيع بالتجزئة، حتى أصبحت حصة تلك الشركات في السوق تصل إلى 70%. 

ويتولد الاختبار الكبير لأي سوق للأوراق المالية عما إذا كان لديه عمق أم لا، أي ما إذا كان من الممكن شراء أو بيع عدد كبير من الأسهم في فترة زمنية قصيرة دون تحريك السوق. وهنا سوف يتدفق المتداولون بشكل طبيعي إلى مثل هذه السوق، مما يخلق مزيدًا من العمق، أو بمعنى أدق دورة طبيعية تؤدي إلى احتكارات، مثل تلك التي كانت تتمتع بها بورصة نيويورك حتى عام 2005.

ووفقًا للكتاب، تفتقر الأسواق اليوم إلى مثل هذا العمق؛ حيث يرغب المستثمرون الكبار في نقل مليارات الدولارات من وإلى الأسواق المالية، لكنهم لا يستطيعون القيام بذلك دون تحرك الأسعار ضدهم، ويتم تنفيذ ذلك بواسطة شركات التداول عالية التردد.

وتمثل الشركات التي تعمل وفق هذا النظام تجسيدًا لما وصفه "أدير تيرنر" -الذي كان حينها رئيس هيئة الخدمات المالية في المملكة المتحدة- بأنه نشاط مالي "عديم الفائدة اجتماعيًّا"، فيقوم المتداولون بإعادة استثمار أرباحهم عبر أجهزة الحاسب التي يمكنها التداول في الميكرو ثانية بدلًا من المللي ثانية، بما يعطي ميزة للشركات التجارية التي تحتاج للسرعة.

ويشير الكاتب إلى أن هذه الشركات تغفل القيم الاجتماعية التي كانت تعمل وفقًا لها البورصات في السابق، ودافعها الوحيد هو الربح فقط. وفي هذا الصدد، كان المستثمرون يأملون أن تُوفِّر ما تُسمى بـ"الأسهم في صندوق مشترك مظلم أو السيولة المظلمة" "Dark Pools" (وهي نظام يمكن بموجبه لمتداولي المدى الطويل في السوق تجارة أحجام كبيرة جدًّا في الوقت نفسه دون التأثر بتقلبات الأسعار التي تنتج من مثل هذه الطلبات العالية) مخرجًا من مشكلة العمق.

ويوضح "ماتي" أن فكرة "الصندوق المشترك المظلم" تصاعدت على نحو ملحوظ بعد عام 2005، نظرًا لأن المؤسسات الكبيرة لم تعد قادرة على الاعتماد على المتخصصين في بورصة نيويورك لتوفير سيولة كبيرة، ووجدوا أنفسهم يتفوقون على شركات التداول عالي التردد في البورصات الأصغر.

وبالنظر إلى طبيعة الأوامر في "الصندوق المشترك المظلم" بأنها غير مرئية للمتداولين الآخرين حتى يتم تنفيذها، كان هناك أمل في أن شركات التداول عالي التردد لن تكون قادرة على جني الأموال من هذه المعاملات، ولكنها جاءت بنتائج عكسية.

هيمنة التجارة عالية التردد

 أصبحت شركات التداول عالي التردد هي المسيطرة على الأسواق في الأوقات الحالية. وخلال الفترة من 2006 حتى عام 2010 أعطت بورصة نيويورك تلك الشركات ميزة سرعة التداول من خلال السماح لها علنًا بوضع أجهزة الكمبيوتر التجارية الخاصة بها داخل البورصة.

ومثّلت تلك الممارسات كما يلاحظها "ماتي" انتهاكًا لقانون الأوراق المالية، لكن بدلًا من فرض عقوبات على بورصة نيويورك، انتظر المنظمون أن تطلب البورصة الإذن، وهو ما فعلته في النهاية. كما أن هناك حالات أخرى تتضمن إصدار أوامر سوقية خاصة تعطي لتلك الشركات ميزة إضافية لمستثمري الأموال الحقيقية، بما دفع هيئة الأوراق المالية والبورصة إلى فرض غرامات -في مرات قليلة- على البورصات لتنفيذ الصفقات دون إذن، لكن الغرامات كانت صغيرة مقارنة بالأرباح.

ويُخصص الكاتب فصلًا كاملًا يتناول فيه الأشكال المختلفة من التلاعب بالسوق. فعلى سبيل المثال، هناك الملايين من الأوامر المزيفة حول الأسهم، وبأسعار بعيدة عن سعر السوق، بما يجعل من المستحيل معرفة مقدار السيولة الموجودة في أي ورقة مالية.

وختامًا، يرى "ماتي" أن هناك بارقة أمل فيما يتعلق بتحسين تلك الأوضاع، ويستشهد على ذلك بما قدمه الاتحاد الأوروبي من خطوات لتحسين حماية المستثمرين من خلال التوجيه المسمى "MiFID II"، الذي من خلاله يُفْرَض على البورصات أن تكون أكثر شفافية. 

وقد اتخذت فرنسا أيضًا في عام 2012 خطوة أخرى على الطريق، حيث قامت بفرض ضريبة بنسبة 0.1% على قيمة الأوامر التي يتم إلغاؤها أو تعديلها، والتي تُمثل عائقًا قويًّا لبعض الممارسات التي تتضمن الدخول بسرعة وسحب عدد كبير من الأوامر في محاولة لإغراق السوق، والتي تعد أحد أشكال التلاعب بالسوق.

بيانات الكتاب:

 Walter Mattli, “Darkness by Design: The Hidden Power in Global Capital Markets, (New Jersey: Princeton University Press, 2019).