ذفالولايات المتحدة ليست دولة عظمى فقط، وبريطانيا ليست دولة كبرى فحسب، وإنما كلتاهما تشكل أبراجاً عالية في الحضارة العالمية المعاصرة. ورغم أن التحولات نحو اليمين بدأت مبكرة في هذا العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين في عدد من الدول، فإن «بريكست» وانتخاب ترمب كانا المؤشر والشعلة الهادية على التغير العميق في النظام الدولي. وصول بولسنارو للسلطة في البرازيل، ومودي للسلطة في الهند، وحصول تشي على دوام السلطة في الصين، وبوتين على السلطة الممتدة في روسيا، والكثير من «الرجال الأقوياء» على السلطة في بلدان عدة، كلها كانت تفاصيل الصورة العالمية التي تصدرتها «بريكست» وتغريدات الرئيس ترمب بكلماتها الملتهبة والمثيرة.
وجزى الله التكنولوجيا كل خير؛ فقد بات ممكناً الأسبوع الماضي أن يرى مشاهد في القاهرة اجتماعات مجلس العموم البريطاني وطقوسه التي كثيراً ما كانت مدعاة للإعجاب في إحكامها ورسوخها. المشهد هذه المرة لم يكن شاهداً على ذلك، فقد كان أوله أن رئيس الوزراء بوريس جونسون مستغلاً تقليداً برلمانياً قديماً قد عزم على تعطيل أعمال مجلس العموم بعد أيام قليلة حتى منتصف أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، أي قبل أسبوعين من إعلانه الخروج من الاتحاد الأوروبي في 31 من الشهر المذكور ودون اتفاق ولا صفقة. ما حدث فعلياً هو أن أعضاء المجلس عرضوا للتصويت قراراً يمنع رئيس الوزراء من الخروج دون اتفاق، ويطلب منه في الوقت ذاته أن يطلب من الاتحاد الأوروبي تمديد فترة المفاوضات حتى يناير (كانون الثاني) المقبل. جرت الموافقة على هذا القرار ثلاث مرات، في القراءات الثلاث المقررة برلمانياً، وهو ما لم يكن حسابياً ممكناً إلا بتحالف من المحافظين والعمل والأحرار الديمقراطيين وأحزاب الأقلية الأخرى. جونسون الذي وجد أن يده بهذا القرار قد شلت، فإنه طرح الإعلان عن انتخابات جديدة لحسم الأمر، فما كان من رئيس حزب العمال إلا أن رفضها مصمماً على الانتهاء أولاً من القرار الجديد بذهابه إلى مجلس اللوردات، حيث يوجد 92 تحفظاً محافظاً عليه. ما حدث هو أن الديمقراطية البريطانية «العريقة» فقدت قدرتها على اتخاذ القرار، ودخل الحزبان الرئيسيان في سلسلة من الأفعال والأفعال المضادة التي تطيل فترة التأجيل وعدم اتخاذ القرار الخاص بالخروج أو عدم الخروج من الاتحاد الأوروبي التي بدأت عندما قرر رئيس الوزراء الأسبق البريطاني المحافظ ديفيد كاميرون إجراء الاستفتاء الشعبي. في الديمقراطية التمثيلية البريطانية فإن هذا السيناريو لا يعد من دعامات الديمقراطية، فالتصور أنه في ظلها سيتمكن الحزبان الرئيسيان، والنخبة السياسية من التوافق حول قرار استراتيجي بهذه الخطورة. وإذا لم يحدث التوافق، فإن الطرفين سوف يعملان على الالتزام بالتقاليد المرعية، لكن ما حدث هو أن التقاليد تحولت إلى مسرحية يعلم الجميع أنها سوف تكون حريصة على أن تكون نهايتها مفتوحة لا يتزوج فيها الحبيب الحبيبة، ولا يموت فيها البطل أو البطلة. وعندما يحدث ذلك في بريطانيا، فإن ذلك يكون من علامات الساعة الديمقراطية التي تنزل بأعقد القضايا السياسية إلى الجماهير والشعبوية السياسية.
وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي كانت هناك علامة أخرى من علامات الساعة بطلها ليس بوريس جونسون، وإنما دونالد ترمب. الثابت أن هذا الأخير كان مثل كثير من العالم يتابع التطورات في مجلس العموم البريطاني مباشرة، وكان حريصاً على أن يغرد ويلقي بتصريح من وقت إلى آخر يعبّر فيه عن سعادته بالقوة والحزم والعزم الذي يتمتع به بوريس في لندن. لم تفلح في الحقيقة أنباء الإعصار «دوريان» الذي يهدد الساحل الجنوبي الشرقي في الولايات المتحدة في جذب اهتمام الرئيس ولا البيت الأبيض. لم يعد الأمر له علاقة بالتحالف التاريخي والمقدس بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة؛ وإنما له علاقة بالتحالف داخل تيار قوي وعارم؛ وفي الولايات المتحدة فإن هذا التيار لا يعبر عن نفسه في جلسات «الكونغرس» كما هو الحال في مجلس العموم، وإنما بقوة السلاح كان آخرها في ولاية تكساس التي شهدت خلال شهر حادثين إرهابيين من المتعصبين البيض الذين لم يختلف أحد في أميركا على أن تصاعد عملياتهم هو نتيجة مباشرة للدعوات التي يبثها رئيس الدولة. وعندما يحدث ذلك في أميركا، فإن ذلك من علامات الساعة الأخرى؛ لكنها ليست الوحيدة لأن بوريس جونسون رغم فشله في مجلس العموم، فإنه كان على ثقة أن الأمر سوف ينتهي في النهاية إلى انتخابات من المرجح أن يفوز فيها مستنداً في ذلك إلى الضعف الشديد في شخصية وقدرة جيريمي كوربين رئيس حزب العمال السياسية. ترمب أيضاً لديه هذه الثقة في نجاحه العام المقبل؛ ويستند في ذلك إلى أن الثلة الديمقراطية المقابلة في الحزب الديمقراطي ليس لديها القدرة على منازلته. والسبب أنها إما أن القيادة الديمقراطية انحازت بقوة إلى اليسار ممثلة في بيرني سوندورز، وإليزابيث وارين، وكاميلا هاريس؛ أو أنها بقيت عند الوسط الذي يعرفه أحد مثل بيت بيتجيج أو جو بايدن المعروف بحكم منصبه السابق في الكونغرس وكونه كان نائباً للرئيس باراك أوباما، لكنه لا يستطيع الحديث دقائق دون أن يفقد الذاكرة أو يخلط الأمور. ظروف ترمب كلها مواتية: هو ليس له منافس داخل الحزب الجمهوري، وقاعدته متعصبة ومهما كان له من فضائح، أو أنه يتجاهل كل شيء له علاقة بالضرائب أو مشروعاته التجارية؛ فإنها مستمرة في تأييد أعمى له. ومن ناحية أخرى، فإن الحزب الديمقراطي أمامه صراع شديد لاختيار مرشح له، وعندما ينتهي ذلك فإن المرشح سوف يكون نازفاً الكثير من المال الانتخابي، وجسده مثخن بالانتخابات التمهيدية التي سوف تجري في 50 ولاية أميركية.
في الأوقات العادية، والأزمنة السابقة، فإن كل ذلك كان من الأمور المعتادة، وكما هو الحال في بريطانيا، فإن الحزبين الرئيسيين يوجد تماس فكري بينهما، وتوافق غير قليل في السياسات العامة؛ وهناك تقاليد للخصام والوئام يحترمها الجميع. كل ذلك لم يعد قائماً لا في لندن ولا في واشنطن. لم تعد هناك منارات هادية لبلادها أو للعالم.
إذا فاز بوريس جونسون وخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة من العالم فإن كوكب الأرض كما نعرفه، لن يكون كما كان مرة أخرى.
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط