نظم مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، حلقة نقاشية استضاف خلالها العميد خالد عكاشة، مدير المركز الوطني للدراسات الأمنية، عضو المجلس المصري الأعلى لمكافحة الاٍرهاب، بحضور باحثي المركز، وذلك للحديث عن تعقيدات المشهد السياسي والأمني الحالي في ليبيا، ودور الأطراف الإقليمية والدولية في الصراع الليبي، والعقبات التي تحول دون الوصول إلى تسوية سياسية لهذا الصراع.
أولاً: تعقيدات الصراع الليبي
تناول العميد خالد عكاشة طبيعة الأوضاع السياسية والعسكرية والميدانية في ليبيا في الوقت الراهن، واصفاً تحليل الحالة الليبية بأنه يشبه الدخول في رمال متحركة، بالنظر إلى التعقيد والسيولة والتبدل السريع للأوضاع وتعدد الفاعلين المؤثرين وتشابك ارتباطات الداخل بالخارج في منطقة سائلة جغرافياً، بما يجعل الصراع في ليبيا أشد حدة عن سواه من الصراعات الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، ويضعف من فرض التوصل إلى تسوية سياسية لإنهاء الأزمة الليبية. واستعرض عكاشة والحضور المؤشرات الدالة على تعقيدات الصراع الليبي فيما يلي:
1- انقسام سياسي: تعاني ليبيا على مدار السنوات الماضية من تشرذم سياسي، في ظل وجود 3 حكومات، هي حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج والمدعومة دولياً، وحكومة طبرق شرق البلاد وتحظى بدعم الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وحكومة المؤتمر الوطني العام ومقرها طرابلس وسيطرت على مناطق واسعة من غرب وجنوب ليبيا لكنها لم تنل الاعتراف الدولي.
ونجم عن ذلك صراع مستمر بين الأطراف كافة للسيطرة على السلطة السياسية، والثروات النفطية في البلاد. ويعول الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر على الحل العسكري لإنهاء الأزمة الليبية، في الوقت الذي يرفض فيه عدد من الميليشيات الإسلامية في الغرب الحوار مع حفتر وإشراكه في العملية السياسية.
وتبدي الأطراف الدولية والإقليمية تخوفات شديدة من عدم قبول الأطراف المتصارعة في ليبيا بنتائج أية انتخابات برلمانية ورئاسية يتم إجراؤها في المستقبل، حال تعرض أي منها للهزيمة، مثلما حدث عندما رفض التيار الإسلامي الاعتراف بهزيمته في انتخابات مجلس النواب التي أُجريت في يونيو 2014.
2- صراعات عسكرية: ثمة تقارب إلى حد كبير في القوة العسكرية للجيش الوطني الليبي، ومختلف الميليشيات والفصائل المسلحة في ليبيا، وهذا ما يجعل كل طرف غير قادر على حسم الموقف العسكري لصالحه حالياً.
فعلى سبيل المثال، حقق الجيش الوطني الليبي انتصارات عسكرية بارزة في مدينة بنغازي ضد الميليشيات الموالية لحكومة طرابلس. ومع ذلك، فإن قوات الجيش الوطني لم تكن بالمستوى الكافي لإحكام السيطرة الكاملة والمستمرة على المنشآت النفطية في منطقة الهلال النفطي أو ضمان بسط سيطرتها على بعض المناطق المتناثرة في غرب وجنوب ليبيا.
وفي هذا الصدد، أشار عكاشة إلى أن منشآت النفط بمنطقة الهلال النفطي تتعرض بين الحين والآخر لهجوم من قبل ميليشيات مدعومة من حكومة طرابلس، لعل آخرها الهجوم الذي شنه القائد السابق في حرس المنشآت النفطية إبراهيم الجضران، في يونيو 2018، بمساعدة ميليشيات من المعارضة التشادية على ميناءي رأس لانوف والسدرة اللذين تسيطر عليهما قوات حفتر، مرجعاً ذلك إلى انشغال قوات الجيش الوطني الليبي في تحرير مدينة درنة من التنظيمات الإرهابية.
3- تدهور الاقتصاد: أثر الاضطراب السياسي والأمني في ليبيا على الطاقة الإنتاجية للبلاد من النفط، إذ تراجعت إلى مستوى أقل من 700 ألف برميل في يونيو الماضي، وهو أدنى مستوى لها في العام الجاري، وذلك مقابل ما يزيد على مليون برميل يومياً في نهاية عام 2017، وهو ما يعني استمرار نزيف الاقتصاد الليبي، علماً بأن القطاع النفطي يساهم بأكثر من 95% من صادرات البلاد، وقرابة 90% من الإيرادات الحكومية، وفقاً للبنك الدولي. وحسب تقديرات مؤسسة النفط الليبية، تكبدت البلاد خسائر تُقدر بحوالي 130 مليار دولار من إجمالي الناتج المحلي منذ عام 2014 نتيجة الاضطرابات الأمنية.
4- مصالح القبائل: أشار "عكاشة" إلى أن الهشاشة الأمنية الراهنة في ليبيا تسببت في تنامي أنشطة التجارة غير المشروعة مثل تجارة البشر والهجرة غير المشروعة وتهريب النفط، وذلك بمشاركة من أطراف متعددة مثل الميليشيات وبعض القبائل الليبية التي تتحالف في كثير من الأحيان لتقسيم مكاسب من هذه الأنشطة.
وفي هذا السياق، فإن انحياز القبائل الليبية لصالح طرف سياسي على حساب آخر يحكمه دوافع اقتصادية وتجارية بالأساس، وليس لأسباب سياسية بحتة، منوهاً في الوقت نفسه بأن لكل قبيلة تمثيلاً داخل الحكومات الثلاث والعناصر المسلحة التابعة لها.
ثانياً: أزمة إنسانية
أوضح عكاشة أن الليبيين يواجهون ضغوطاً معيشية شديدة في ظل نقص الخدمات التعليمية والصحية وغيرها في البلاد. وطبقاً للبنك الدولي، تعرضت نسبة 11% من المدارس الليبية للدمار، ولا تتوفر الأدوية في المستشفيات، وينقطع التيار الكهربائي يومياً، وثمة نقص أيضاً في إمدادات المياه النظيفة. كما تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى وجود نحو 1.1 مليون ليبي في الداخل يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة.
وتحت وطأة هذه الضغوط، نزح ملايين الليبيين إلى خارج البلاد، منهم ما يتراوح بين 1 - 2 مليون ليبي يعيشون في مصر، ونحو مليون آخر يعيشون في تونس. وما يفاقم من المشكلة الإنسانية في ليبيا، أن هناك أكثر من 704 آلاف مهاجر غير شرعي تدفقوا إلى ليبيا على مدار السنوات الماضية في محاولة للهروب للدول الأوروبية عبر سواحلها.
ثالثاً: عدم توافق دول "الاهتمام"
حرصت أطراف دولية وإقليمية على تقديم يد العون لليبيا من أجل التوصل لحلول سياسية لتسوية الصراع هناك، ولعل أبرزها يتمثل في الاتفاق السياسي الليبي الموقع في الصخيرات بالمغرب في 17 ديسمبر 2015، والذي نتج عنه تشكيل حكومة الوفاق الوطني والمجلس الرئاسي بدعم دولي وإقليمي. بيد أن أهمية هذا الاتفاق انتقصت لاحقاً مع عدم اعتراف حكومتي الشرق والغرب بحكومة الوفاق الوطني.
وعلى الرغم من ذلك، ثمة عدد من الشواهد التي تكشف عن تعارض بعض المواقف الإقليمية والدولية بشأن سُبل تسوية الصراع الليبي الراهن، وذلك كالآتي:
1- الجهود المصرية: أكد عكاشة أن الدبلوماسية المصرية تبذل نشاطاً ملحوظاً لتسوية الصراع الليبي، لما تمثله ليبيا من أهمية جوهرية للأمن القومي المصري، وهذا ما دفع القاهرة إلى عدد من التحركات المهمة شملت إجراء حوارات مستمرة مع الحكومات القائمة، وشيوخ القبائل الليبية، والعمل على إيجاد توافق إقليمي مع دول الجوار الليبي، علاوة على الجهود المصرية لتوحيد الجيش الليبي والحد من نفوذ التنظيمات الإرهابية داخل ليبيا.
2- التدخل القطري - التركي: يقدم الجانب القطري دعماً عسكرياً ولوجستياً للتنظيمات الإسلامية في غرب ليبيا منذ سنوات، وبالمثل فإن تركيا منخرطة بشكل واسع في الملف الليبي، حيث تدعم بوضوح حكومة المؤتمر الوطني العام في طرابلس والميليشيات التابعة لها في صبراته ومصراتة.
3- المبادرة الفرنسية: طرحت باريس في مايو 2018 مبادرة لتسوية الصراع السياسي في ليبيا، شملت عدة محاور أبرزها اعتماد مسودة مشروع الدستور، والالتزام بدعم الحوار العسكري الجاري في القاهرة لتوحيد الجيش الليبي، والاتفاق على تنظيم الانتخابات البرلمانية والرئاسية واحد بحلول نهاية عام 2018 والتأكيد على احترام نتائجها. وتم الاتفاق بين المشير خليفة حفتر ورئيس حكومة الوفاق الوطني في طرابلس فايز السراج خلال محادثاتهما في باريس في مايو الماضي، على إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في البلاد في 10 ديسمبر المقبل.
4- الرؤية الإيطالية: تطرح روما رؤية مختلفة عن باريس، حيث لا يفضل المسؤولون الإيطاليون إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في ليبيا خلال الأشهر المقبلة، مبررين وجهة نظرهم بأنه من غير المحتمل أن تحظى نتائج هذه الانتخابات باعتراف من مختلف الأطراف السياسية الليبية، بل قد تؤدي لمزيد من الفوضى الأمنية داخل البلاد.
5- الموقف الأمريكي: أشار "عكاشة" إلى أن القضية الليبية لا تقع على أولية أجندة السياسية الخارجية الأمريكية في الوقت الراهن، نظراً لانشغالها بملفات أخرى في الشرق الأوسط وتحديداً في سوريا وإيران، إلا أن بعض الترجيحات ذهبت إلى أن المبادرة الفرنسية المطروحة في مايو الماضي جاءت بدعم أمريكي.
ومن الواضح أن التحرك الأمريكي حيال الملف الليبي يحكمه بالأساس مواجهة التنظيمات الإرهابية وتوجيه ضربات استباقية لها، خاصة بعد أحداث الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي عام 2012، وهذا ما دفع قيادة العمليات الأمريكية في أفريقيا "أفريكوم" إلى توجيه ضربات جوية لمناطق تمركز التنظيمات الإرهابية مثل "داعش" و"القاعدة" في ليبيا، وكان آخرها في يونيو الماضي قرب منطقة تينيناي جنوب مدينة بني وليد (شمال غرب ليبيا).
ختاماً، أشار المشاركون في الحلقة النقاشية إلى أن المشهد الليبي الراهن يتسم بالتعقيد الشديد في ضوء الانقسام السياسي القائم في البلاد حتى الآن، والتي تستفيد منه مختلف الأطراف في تحقيق مصالح اقتصادية وتجارية لها، فضلاً عن استمرار المعارك العسكرية بين القوى الليبية، في الوقت الذي تتعارض فيه المصالح الدولية والإقليمية داخل ليبيا، ويغيب التنسيق بينها، وهذا كله من شأنه أن يضعف من فرص التوصل لتسوية سياسية في المستقبل القريب.