أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

مصالح متنافسة:

هل تتجه واشنطن وأنقره وموسكو لصفقة في معركة “الرقة”؟

16 مارس، 2017


يعكس اجتماع رؤساء أركان الجيوش التركية والأمريكية والروسية في أنطاليا، يوم الثلاثاء (7 مارس 2017)، أن هناك اتفاقًا بين الدول الثلاث على ضرورة خوض معركة الرقة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" بعد النجاحات التي يُحققها الجيش العراقي بدعم من التحالف الدولي في معركته ضد التنظيم في مدينة الموصل.

لكنه أظهر -في الوقت ذاته- أن هناك خلافًا حول كيفية إدارة تلك المعركة، واستحقاقات ما بعد المعركة، أو حقبة ما بعد داعش في الرقة. وهو الأمر الذي يُشكل أزمة كبرى لأنقرة التي وجدت نفسها بين فكي رحى، تنظيم داعش من جهة، وقوات وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتمد عليها الولايات المتحدة لطرد التنظيم من مدينة الرقة من جهة أخرى.

إدارة ترامب واستعادة الدور

تبدو معركة الرقة للقضاء على تنظيم داعش في سوريا، تزامنًا مع جهود القضاء عليه في العراق، نقطة الانطلاق الرئيسية التي تعول عليها إدارة الرئيس دونالد ترامب، لحلحلة الأزمة السورية المعقدة، بهدف استعادة الدور الأمريكي في الشرق الأوسط بعد فترة من الانسحاب الاختياري الذي اعتمدته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، والذي أفسح المجال أمام تمدد روسيا في منطقة الشرق الأوسط بشكل غير مسبوق، الأمر الذي جعلها -مع إيران- اللاعب الأبرز في الأزمة السورية الممتدة على مدار السنوات الست الماضية.

ومن شأن هذه المعركة المرتقبة أن تحقق للإدارة الأمريكية هدفين اثنين في آن واحد، أولهما القضاء على إرهاب تنظيم داعش، باعتباره الأولوية الأكثر إلحاحًا للاستراتيجية الأمريكية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، لإعادة الاعتبار للقوة الأمريكية التي كانت القوة الوحيدة المؤثرة في شئون المنطقة، وثانيهما أخذ زمام المبادرة من روسيا التي اختطفت الأزمة السورية من أروقة الأمم المتحدة إلى دهاليز مسارات أستانة، لترسم معالم سوريا ما بعد الحرب على حسب رؤيتها، لإجهاض استراتيجية موسكو الرامية إلى مزيد من النفوذ وتثبيت الأقدام في الشرق الأوسط.

بيد أن الهدفين يصطدمان باستحقاقات تلك المعركة المرتقبة على الأرض، الأمر الذي يفرض على الإدارة الأمريكية التعامل بقدر من الحنكة مع دول التماس المباشر مع الأزمة السورية (أنقرة وموسكو وطهران) لإنجاح هدفها المتمثل في القضاء على تنظيم داعش من دون خسارة الشريك التركي، أو تعزيز حضور المنافس الروسي.

هواجس تركيا من مشاركة الأكراد 

يعد خوض معركة الرقة في ظل محدودية القوات الأمريكية في الشرق الأوسط معضلة كبيرة بنظر محللين، وربما لا يقلل من إشكالية ذلك ما أعلنه البنتاجون قبل أيام من أن الجيش الأمريكي نشر عددًا من جنوده في مواقع غربي بلدة منبج الواقعة شمالي سوريا، وما أعلنه المتحدث باسم قوات التحالف الدولي في بغداد، جون دوريان، يوم الخميس (9 مارس الجاري 2017)، بأن بلاده بصدد إرسال 400 جندي إلى البلدة، ليرتفع بذلك عدد القوات الأمريكية الموجودة في سوريا إلى نحو 900 جندي، كما نشرت الوحدة 11 لمشاة البحرية الأمريكية بطارية "هاوتزرز" من عيار 155 ملم في أحد المراكز الأمامية في سوريا استعدادًا لمعركة الرقة.

ولفاعلية تلك المعركة المرتقبة، ولتجنب هزاتها الارتدادية، فإن الولايات المتحدة ستكون مطالبة بأن يمتد وجودها العسكري الفاعل ليشمل مناطق شرقي سوريا بأكملها، وهذا أمر يعد من الصعوبة بمكان لاعتبارات عسكرية ولوجستية. ومن ثم فإن واشنطن ستعول كثيرًا في معركة الرقة على إشراك وحدات حماية الشعب الكردية (الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي السوري) في القتال، وهو الأمر الذي ترفضه تركيا بشكل قاطع.

ترى أنقرة أنه لا يمكنها التخلص من قوات داعش الإرهابية عبر تمكين الميليشيات الكردية السورية التي تعتبرها تركيا إرهابية كذلك، لارتباطاتها المتشعبة بحزب العمال الكردستاني المحظور من قبلها. وإشراك قوات حماية الشعب الكردية في معركة تحرير الرقة من شأنه أن يعزز من حظوظ أكراد سوريا في إقامة نظام حكم ذاتي على غرار إقليم كردستان العراق، بما يمثله ذلك من تهديد أمني مباشر لتركيا التي طالما أعلنت مرارًا أنها لن تسمح مطلقًا بإقامة دولة كردية على حدودها الجنوبية.

وإزاء هذه المعضلة، طرحت تركيا على الولايات المتحدة خيارًا من شأنه تحقيق وجود فعلي لقوات قتالية محلية على الأرض، من غير الحاجة إلى جهود المقاتلين الأكراد، يتمثل في الاستعانة بمقاتلي الجيش السوري الحر، حلفاء أنقرة في سوريا، على أن تكون قيادة العملية بيد الجيش التركي لضمان الكفاءة والفاعلية، في ظل مشاركة رمزية للقوات الأمريكية، لكن هذا المقترح يلقى رفضًا كرديًّا، حيث طالب المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية الكردية باستبعاد أنقرة من عملية تحرير الرقة، واصفًا إياها بأنها قوة احتلال في شمال سوريا.

إزاء هذه المعضلة، ولإرضاء الحليف التركي وتخفيف حدة هواجسه، قد توافق الولايات المتحدة على منح أنقرة سلطة قيادة شركائها المحليين في سوريا، الجيش السوري الحر، خلال عمليات معركة الرقة، مع دعم قتالي محدود من القوات الخاصة الأمريكية المتواجدة بالفعل على الأراضي السورية حاليًّا، شريطة أن يكون المقاتلون الأكراد مشاركين في العملية، ضمانًا للفاعلية، وتحقيقًا لاستراتيجية تطويق مقاتلي داعش من جبهتين؛ الجيش التركي والجيش السوري الحر من جهة، والقوات الأمريكية وقوات حماية الشعب الكردية، من جهة أخرى.

ثمة ثقة لدى أنقرة في أن واشنطن لا يمكنها البدء في معركة بحجم الرقة من غير مشاركة الجيش التركي، لما تملكه تركيا من أوراق ضغط مهمة في هذا الصدد، لا سيما مع أهمية قاعدة إنجرليك التي تتمركز فيها القوات الأمريكية في تركيا، ما قد يفسر تصعيد رئيس الوزراء التركي في تصريحاته حول تلك الإشكالية مؤخرًا من أن "تركيا لن تكون جزءًا من أي عملية تتضمن القوة الكردية السورية (قوات حماية الشعب الكردية) التي تعتبرها أنقرة منظمة إرهابية تهدد أمن تركيا"، مضيفًا أنه "إذا كانت الولايات المتحدة تفضل المنظمات الإرهابية على تركيا في الحرب ضد داعش، فسيكون هذا قرارهم، لكننا لن نوافق على ذلك".

عمليًّا، لن تستطيع الولايات المتحدة غض الطرف عن المخاوف التركية بشأن مشاركة الأكراد في تحرير الرقة، كما أنه لا يمكنها المخاطرة بإجبار أنقرة على اللجوء إلى خيار إغلاق قاعدة إنجرليك بوجه القوات الأمريكية، هذا بالإضافة إلى أهمية تركيا، جغرافيًّا، فيما يتعلق بخطوط الإمدادات البرية للقوات الأمريكية في سوريا خلال العمليات القتالية، والتي لا يمكن لواشنطن أن تستعيض عنها بالإمدادات البرية القادمة من إقليم كردستان العراق، حتى لا تتأثر المرونة التكتيكية للتحركات الأمريكية في سوريا، وهو ما يدفع واشنطن إلى مشاركة موسكو في معركة الرقة لكسر حدة الموقف التركي المتشدد إزاء مشاركة الأكراد.

محور موسكو - طهران

لا ترغب الولايات المتحدة في مزيد من الحضور الروسي في الأزمة السورية، لكنها، في الوقت ذاته، لا تستطيع الفكاك من إقحام موسكو في معركة الرقة لاعتبارات عدة، يتعلق أولها بتخفيف حدة خلافها مع تركيا على خلفية مشاركة الأكراد في المعركة، بالنظر إلى تحسن العلاقات التركية-الروسية حاليًّا، والتي عادت إلى سابق عهدها قبل حادث إسقاط الطائرة العسكرية الروسية على يد المقاتلات التركية نهاية عام 2015. وفي هذا الشأن، ذكر بعض المحللين أن التصعيد التركي الحالي ضد دول أوروبية على خلفية منعها تجمعات تركية لحشد الدعم للاستفتاء على الدستور التركي الجديد لم يكن له أن يتم بهذه الحدة من غير اتكاء أنقرة على حليف وثيق (موسكو) تتشارك معه التصعيد ضد القارة العجوز.

أما ثانيها فيتعلق بأهمية التنسيق الأمريكي-الروسي لإقامة منطقة حظر جوي في إطار استراتيجية المناطق الآمنة التي ألمح لها الرئيس الأمريكي مطلع العام الجاري لحماية المدنيين السوريين كنقطة ارتكاز لبحث جهود تسوية الأزمة بعد ذلك.

في حين يتعلق ثالثها بكون التنسيق الرمزي مع روسيا في معركة الرقة على الصعيد الاستخباري اللوجستي من شأنه أن يمنح موسكو نصرًا رمزيًّا كان يمكن لواشنطن الاضطلاع به مع حلفائها منفردين، ربما توظفه واشنطن فيما بعد في سياق استهدافها لإيران، الحليف الاستراتيجي الأبرز لروسيا في المنطقة.

إذن، قد تكون معركة الرقة التي تستهدف داعش، بداية لتفكيك المحور الروسي في المنطقة، ومن ثم استهداف طهران بعد ذلك عبر العمل على خلخلة علاقاتها الوثيقة مع موسكو، باللعب على التناقضات المستترة للحليفين فيما يتعلق بمآلات الآزمة السورية، حيث تدرك طهران أن معركة الرقة، حال نجاحها، قد تكون الباب الخلفي لتقليص نفوذها في سوريا، لا سيما مع إعلان "نيكي هالي" السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة أن "بلادها تدعم محادثات السلام السورية التي تقودها المنظمة الدولية"، مشددة على أن "سوريا لا يمكن أن تظل ملاذًا آمنًا للإرهابيين، وأنه من المهم إخراج إيران ووكلائها من سوريا".

تصريحات السفيرة الأمريكية تذهب إلى أن عملية تحرير الرقة من إرهاب داعش لا بد لها من ترتيبات محددة مع كلٍّ من تركيا وروسيا، حتى لا تقع المدينة في قبضة الميليشيات الموالية لإيران في سوريا، لا سيما مع حضور حزب الله اللبناني بقوة على الأراضي السورية، ومن ثم تفويت فرصة أن تصب العملية في اتجاه تعزيز المحور الروسي الإيراني في المنطقة، وهو الأمر الذي تهدف واشنطن بالأساس إلى تفكيكه، والحيلولة دون تمدده في أزمات الشرق الأوسط.

لا يمكن لواشنطن، كذلك، أن تخسر أنقرة بشكل من الأشكال، لا سيما مع سعي الاستراتيجية الروسية إلى كسب ودها مع انتهاء أزمة إسقاط الطائرة الروسية، لتنأى بها بعيدًا عن المحور الأمريكي. فالقيادة الروسية تسعى قدمًا نحو توثيق أواصر التحالف مع تركيا، عبر اقترابات "الرفض الغربي"، بالنظر إلى كونهما دولتين مرفوضتين أوروبيًّا، لا سيما مع تصاعد أجواء التوتر التركي الأوروبي مؤخرًا بسبب فعاليات الاستفتاء الدستوري المرتقب في تركيا، الأمر الذي يعني أن استبعاد تركيا من ترتيبات الرقة أو الاستعانة بمناوئيها الأكراد في سياق العمليات من شأنه أن يزيد الهوة بين واشنطن وأنقرة، ويمد جسور التواصل بين الأخيرة وموسكو.

قد تكون تركيا معنية إلى أقصى درجة بالتقارب مع روسيا لإزالة رواسب الاغتراب، السياسي والثقافي والحضاري، بينها وبين جيرانها الأوروبيين، لكنها قطعًا لا تود أن تضحي بكونها دولة أطلسية، بما يمثله لها ذلك من ضمانات أمنية وقدرات عسكرية ولوجستية لا يمكنها التضحية بها، ومن ثم فإنها ستمارس مزيدًا من الضغط على الولايات المتحدة للخروج بصفقة ما تُمكِّنها من المشاركة الفاعلة في معركة الرقة، من دون أن ترضخ لمطالب واشنطن بإطلاق يد الأكراد في شمال سوريا.

وأخيرًا؛ إن كافة الخيارات بشأن معركة الرقة المقبلة باتت مفتوحة، وإذا كانت لعبة الشد والجذب بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وتركيا هي الصورة البادية للعيان في ترتيبات تلك المعركة، فإن إيران التي تمارس دورًا مؤثرًا في المشهد الجيواستراتيجي في سوريا، لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء محاولات إزاحتها عن واجهة الأحداث في الشرق الأوسط.

ليست السياقات الراهنة في المنطقة بصدد إبرام صفقة كبرى بين واشنطن وموسكو على حساب الحلفاء الإقليميين لكلا الدولتين، كما أن حالة الغياب العربي عن دائرة التأثير والنفوذ في المنطقة لا يمكن لها أن تستمر طويلاً، والعلاقات التركية-الإيرانية لا يمكن لها أن تصل إلى مستوى التحالف، كما أنها كذلك لن تصل إلى مستوى العداء، ومن ثم ستبقى كل من تركيا وإيران حاضرتين دائمًا على خريطة التجاذبات الروسية-الأمريكية في المنطقة، قبل معركة الرقة، وبعدها. أما تنظيم داعش، فإنه سيبقى بانتظار توافق الأطراف المعنية، التي ترى فيه عدوًّا، لكنها لم تتفق بعد على كيفية قتاله، ولا على كيفية توزيع تركته على الأرض حال هزيمته في تلك المعركة المرتقبة.