أخبار المركز
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)
  • د. أحمد قنديل يكتب: (أزمات "يون سوك يول": منعطف جديد أمام التحالف الاستراتيجي بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة)
  • أسماء الخولي تكتب: (حمائية ترامب: لماذا تتحول الصين نحو سياسة نقدية "متساهلة" في 2025؟)

هسبريس:

دلالات تهديد مكونات سياسية إسرائيلية بتشكيل "مليشيات الحماية النسائية‬"

27 أغسطس، 2023


اعتبر سعيد عكاشة، الخبير في الشؤون الإسرائيلية بمركز الأهرام للدراسات السياسية الاستراتيجية، إعلان تأسيس حركة “بونوت ألترناتيفا”، المليشيا النسائية التي تتصدى لمحاولات المتدينين اليهود المتطرفين فرض “الزي المحتشم” على النساء والفتيات في وسائل النقل العامة، حدثا فارقا في تاريخ إسرائيل.

وفسر الخبير ذاته، ضمن مقال نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بعنوان “حدود تهديد اليسار الإسرائيلي بتشكيل مليشيا لحماية النساء”، غياب التعليق الشعبي أو الإعلامي على إعلان تأسيس مليشيا “بونوت ألترناتيفا” بكون الأغلبية تتعامل معه على أنه مجرد تصريحات غاضبة تحت تأثير فشل المظاهرات المناهضة لنتنياهو في إيقاف خطة الإصلاح القضائي.

هذا نص المقال:

أعلنت حركة تُسمى “بونوت ألترناتيفا” (Bonot Alternativa) “نساء يبنين بديلا”، في تل أبيب، في منتصف غشت الجاري، عن تشكيل مليشيا نسائية تتصدى لمحاولات المتدينين اليهود المتطرفين فرض “الزي المحتشم” على النساء والفتيات في وسائل النقل العامة. وكان ظهور هذا الإعلان من جانب إحدى الناشطات في مجال الدفاع عن حقوق المرأة بمثابة صدمة للبعض في إسرائيل، خاصة في وقت يتزايد فيه الحديث عن احتمالات نشوب “حرب أهلية” في البلاد، على خلفية الأزمة الممتدة منذ شهر يناير الماضي حول خطة الإصلاحات القضائية التي دفعت بها حكومة بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الحالي.

وقد أثارت الصيغة الغامضة لهذا الإعلان والمنظمة شبه المجهولة التي تبنت إصداره الكثير من التساؤلات حول ماهية مصطلح مليشيا في سياقه الإسرائيلي؟ وما هي حركة “بونوت ألترناتيفا”؟ وما دوافعها وأهدافها؟ وما الأدوات التي سوف تتسلح بها هذه المليشيا إذا ظهرت إلى الوجود بالفعل؟ فضلا عن التساؤل بشأن موقف وردود فعل الداخل الإسرائيلي.

السياق التاريخي

مع الأخذ في الاعتبار أن تعبير “مليشيا” في عمومه يشير إلى حركة مسلحة تنتهج العنف كأسلوب لتحقيق أهدافها، وتكسر، في أغلب نماذجها، مبدأ “احتكار الدولة للعنف”، بأن تنشط في مواجهة الدولة ذاتها؛ فإن الأمر في سياق الثقافة اليهودية والإسرائيلية من بعدها يبدو مختلفا، فاليهود لهم تاريخ ممتد منذ أواخر القرن التاسع عشر في تشكيل مليشيات مسلحة لمواجهة حوادث الاعتداء على الطائفة في بعض الدول الأوروبية. كما ظهرت مليشيات في إسرائيل مثل “الهاجاناه” (تحولت لاحقا بعد قيام الدولة إلى جيش الدفاع الإسرائيلي)، ومنظمة “الأرجون” التي كان يقودها مناحم بيجن، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، ومنظمة “شتيرن” التي كان يقودها يتسحاق شامير، رئيس الوزراء الأسبق. وقد حاول التنظيمان الأخيران التمرد على الدولة بعد تأسيسها بالإبقاء عليهما ككيانين مسلحين مستقلين عنها؛ إلا أن ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، خاض معركة قصيرة ضد التنظيمين وأجبرهما في النهاية على الاندماج في جيش الدفاع.

ومع ذلك، لم تنتهِ ازدواجية “الدولة – المليشيا” في إسرائيل بشكل نهائي، إذ سمحت الدولة نفسها بتكوين مليشيات تحت إدارتها. ولا يزال بعض هذه المليشيات يعمل ضمن وحدات الجيش الإسرائيلي، مثل وحدة “الدوفدوفان” التي تأسست عام 1986؛ وهي وحدة تتشكل من جنود من الجيش وحرس الحدود ومتطوعين من البدو في النقب. وهناك مليشيا أخرى تُسمى “الكتيبة الحريدية”، تأسست عام 1999، وتتبع “الوحدة 903” في الجيش الإسرائيلي. وكما يدل اسمها، فهي منظمة عسكرية لأبناء الطائفة الحريدية الذين يقبلون الخدمة في الجيش خلافا لموقف الطائفة المعروف برفض الخدمة العسكرية لأسباب دينية. وتوجد أيضا وحدة “الناحال” أو “الطليعة المقاتلة”، وكانت موجودة قبل إنشاء إسرائيل وأُعيد تأسيسها عام 1982، وهي تجمع مدنيين وعسكريين وتقوم بمهام مزدوجة مدنية وعسكرية. كذلك هناك اللواء المعروف باسم “كفير”، الذي يقوم بأنشطة ضد المنظمات الفلسطينية العاملة في الضفة الغربية.

وبطبيعة الحال، ترفض إسرائيل الاعتراف بحقيقة أن بعض هذه المنظمات تتصرف بعيدا عن أوامر الجيش بالرغم من تبعيتها له اسميا؛ وهو ما كان ملحوظا بشكل أكبر في وحدة “كفير”، التي تخضع لرقابة وسطوة حاخامات متشددين، ويعلن رجالها صراحة بأنه إذا ما تعارضت أوامر قادتهم العسكريين مع تعاليم الحاخامات فسوف ينفذون أوامر الحاخامات.

وهذا الاستعراض لعلاقة المليشيات بالدولة في إسرائيل، تاريخيا وحتى اليوم، يستهدف لفت النظر إلى أن تهديد حركة “بونوت ألترناتيفا” بتحويل نفسها أو جزء منها إلى مليشيا لحماية النساء لا يُعد حدثا مختلفا في تاريخ إسرائيل. وبالتالي، ينبغي أخذ تصريح الناشطة الإسرائيلية موران زير كاتزنشتاين ومجموعتها “بونوت ألترناتيفا” على محمل الجد؛ فتاريخها الشخصي والأفكار التي تحملها لا تبتعد كثيرا عن فكرة ازدواجية “الدولة – المليشيا” في إسرائيل. ويكمن الفارق الوحيد في إعلان “بونوت ألترناتيفا” أنها تستهدف تأسيس مليشيا في مواجهة الدولة، خلافا لكل النماذج التي تحدثنا عنها سابقا، والتي كانت جزءا من الجيش وتحت سيطرة الدولة، بالرغم من تمتعها بهامش من الاستقلالية، والاستعداد الكامن داخلها للتمرد على السلطة الحاكمة ذاتها.

نشاط “بونوت ألترناتيفا”

أسست كاتزنشتاين حركة “بونوت ألترناتيفا”، عام 2020، احتجاجا على تزايد معدلات حوادث الاعتداء الجنسي على الفتيات والنساء في إسرائيل وعدم تصدي الحكومة بشكل كافٍ لهذه الظاهرة. وتمتلك كاتزنشتاين سيرة ذاتية تثير الارتباك، فهي تنتمي إلى عائلة متدينة، وتربت على التقاليد الدينية قبل أن تثور عليها. وبعد إنهاء خدمتها العسكرية، التحقت بجهاز الشاباك (جهاز الاستخبارات الداخلية – أمن الدولة) لوقت قصير حتى عام 2007، ثم تنقلت فيما بعد في وظائف عديدة، في إدارات التسويق لدى كبريات الشركات مثل “لوريال” و”كوكاكولا” و”جوجل”. وبالرغم من نشاطها الواسع كمحاضرة وكاتبة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، فإن البعض يتهمها بأنها تمثل النخبة الأشكنازية وتدافع عن ثقافتها وليس عن حقوق المرأة والديمقراطية. ولا تنتمي كاتزنشتاين إلى تيار سياسي محدد، وتحرص على تقديم “بونوت ألترناتيفا” باعتبارها حركة حقوقية قائمة على المتطوعين، وليست منظمة سياسية أو حزبا.

وفي بداية عام 2023، حولت كاتزنشتاين نشاط حركتها إلى قيادة مظاهرات الاحتجاج ضد خطة الإصلاحات القضائية المُثيرة للجدل لحكومة نتنياهو.

دوافع التأسيس

على مدار تاريخ إسرائيل، كان تشكيل المليشيات لا يتم إلا على يد الدولة نفسها، كما تم التوضيح سابقا، لأغراض محددة، أو على أيدي القائمين على التيارات الدينية المتطرفة، مثل التنظيمات التي ظهرت في العقود الأخيرة من القرن الماضي؛ ومنها حركة “كاخ” التي أسسها الحاخام مائير كاهانا عام 1971، وحركة “كاهانا حي” التي أسسها نجله بعد اغتيال والده عام 1990، والتي نفذ أحد أعضائها وهو باروخ جولدشتاين حادث الحرم الإبراهيمي عام 1994، الذي راح ضحيته 29 من المصلين المسلمين. وحظرت إسرائيل الحركتين بعد هذا الحادث مباشرة.

في المقابل، لم تشهد إسرائيل تشكيل أي من الأحزاب أو التنظيمات اليسارية مليشيات لتحقيق أهدافها. ومن ثم، فإن إعلان تشكيل مليشيا لمنظمة قريبة من أفكار اليسار الليبرالي (بونوت ألترناتيفا) يُعد حدثا فارقا في تاريخ البلاد، ويمكن فهمه في سياق العناصر التالية:

1ـ تراجع تأثير اليسار سياسيا في إسرائيل على مدى ما يقرب من ربع قرن، وهيمنة اليمين على الحكم في البلاد.

2ـ الانقلاب الديمغرافي في إسرائيل لصالح غلبة اليهود السفارديم (ذوي الأصول الشرقية) عدديا على الأشكناز (اليهود من أصول غربية). ففي حين يميل السفارديم إلى المحافظة اجتماعيا وسياسيا، يتبنى الأشكناز أفكارا أكثر انفتاحا وتسامحا مع الاختلافات الدينية والثقافية.

3ـ يقين اليسار بأن عودته إلى الحكم في إسرائيل ربما صارت شبه مستحيلة، بعد أن انحسر تمثيله السياسي في حزبين فقط؛ أحدهما “ميرتس” الذي لم ينجح في الوصول إلى الكنيست في الانتخابات الماضية، والثاني حزب “العمل” الذي حكم الدولة عند تأسيسها لما يقرب من 30 عاما، قبل أن يتراجع تمثيله حاليا في الكنيست إلى 4 مقاعد فقط، وترشحه الاستطلاعات للاختفاء من البرلمان المقبل بسبب عدم تجاوزه “نسبة الحسم”. وعندما تضعف قوة أي تيار أو حزب سياسي ويفقد قدرته على الوصول إلى الحكم من الطبيعي أن تنتشر في أوساط مؤيديه الأفكار الداعية إلى العنف ضد الدولة، خاصة إذا لم يتمكن عبر المظاهرات والاحتجاجات من تغيير القوانين والتشريعات التي تسنها السلطة الحاكمة، والتي تهدد ما يعتبره مكتسبات حققها في الماضي، ويجب عدم المساس بها تحت أي مسمى.

4ـ اعتبار النساء الأكثر تأثرا بإصلاحات نتنياهو القضائية كون أحزاب الصهيونية الدينية والأحزاب الحريدية، الشركاء في ائتلاف نتنياهو، لا تخفي رغبتها في تمرير تشريعات تستهدف حرية المرأة؛ مثل منع الاختلاط في الأماكن العامة، ومنع النساء من ارتداء الملابس “غير المحتشمة”، وعدم السماح لهن بالجلوس في المقاعد الأمامية في وسائل النقل العامة وغيرها. ومن ثم، فإن بقاء حكومة نتنياهو في السلطة لسنوات مقبلة قد يهدد بزيادة العنف ضد النساء، خاصة مع رفض وزير الأمن القومي ورئيس حزب “عوتسماه يهوديت”، إيتمار بن غفير، مشروع قانون يُلزم الرجال المتهمين بممارسة العنف ضد زوجاتهم أو ذويهم بوضع شريحة إلكترونية حول معاصمهم ليكونوا تحت الرقابة الأمنية بشكل دائم لمنعهم من تكرار جرائمهم ضد النساء.

ردود الفعل

يمكن القول إنه لم تظهر، حتى هذه اللحظة، ردة فعل شعبية على إعلان تأسيس مليشيا “بونوت ألترناتيفا”؛ فالإعلان الذي قدمته كاتزنشتاين لم يُوضح حجم التأييد الشعبي لمثل هذا الطرح وكم عدد المتطوعات اللاتي أبدين الاستعداد للانضمام إلى هذه المليشيا؟ وما نوع التسليح الذي ستلجأ إليه لتحقيق مهمتها الدفاعية؟

ويمكن تفسير غياب التعليق الشعبي أو الإعلامي على هذه الخطوة بأن الأغلبية تتعامل معه على أنه مجرد تصريحات غاضبة تحت تأثير فشل المظاهرات المناهضة لنتنياهو في إيقاف خطة الإصلاح القضائي، وأن كاتزنشتاين – التي تنشط بقوة في قيادة تلك المظاهرات – ليست لديها نية فعلية ولا أدوات حقيقية لوضع إعلانها موضع التنفيذ؛ لكنها تراهن على زيادة الضغوط الشعبية على الائتلاف الحاكم، على أمل الإبقاء على استمرارية حركة التظاهر مستقبلا.

وعلى المستوى الرسمي، لم تظهر تصريحات مباشرة من جانب مسؤولي الحكومة الإسرائيلية بشأن إعلان تأسيس المليشيا المذكورة؛ بيد أن نتنياهو حاول طمأنة النساء اللاتي يهددن بانتهاج العنف في مواجهة من يريدون فرض قيود على حريتهن. وقد صرّح، في أعقاب تكرار منع النساء من ركوب وسائل النقل العام بسبب أزيائهن، قائلا: “إسرائيل بلد حر، حيث لا يمكن لأحد أن يحدد من يركب وسائل النقل العام، ولا يمكن لأحد أن يملي المكان الذي يجلس هو أو هي فيه. من يفعل هذا ينتهك القانون وتجب معاقبته على ذلك”.

العودة إلى السلمية

إن تجاهل نتنياهو الإعلان عن تشكيل مليشيا نسائية، بالرغم من أنه تهديد تقوم به نساء يساريات لحلفائه من اليمين الديني، يُرجح أن تصريح كاتزنشتاين قد لا يُؤخذ بجدية حقيقية سواء رسميا أم شعبيا. ومن ثمّ، من المتوقع أن تعود “بونوت ألترناتيفا” إلى نشاطها العادي كحركة دفاع عن حقوق المرأة سلميا، وأن تنسى مثل هذا التصريح تدريجيا؛ لأنها تعلم جيدا أن المنخرطين في حركتها لن يُقدموا على التطوع في ميلشيا مسلحة، وأيضا لأن القانون الإسرائيلي سيمنعها من تحقيق هذا الهدف حتى لو سعت إليه فعليا.

والأهم من ذلك كله هو أن تأسيس مليشيا على يد اليسار سيمنح الشرعية لليمين للدفاع عن مليشياته التي تعمل بالفعل في الخفاء وبعيدا عن أعين الدولة أحيانا، وفقا لما صرح به رونين بار، رئيس جهاز الشاباك، في 6 غشت الجاري، بأنه حذر نتنياهو من أن “الإرهاب والعنف اليهوديين” يخرجان عن نطاق السيطرة، دون أن يوضح أي عنف يقصد؛ هل هو عنف المستوطنين ضد الفلسطينيين أم عنف المتظاهرين المناهضين لخطة الإصلاح القضائي ضد الدولة وضد المؤيدين لتلك الإصلاحات؟

*لينك المقال في هسبريس*