أصبحت الحواسيب الرقمية الكلاسيكية قريبة أكثر من أي وقت مضى من الوصول لأقصى قدرة حوسبية لها، واقتربت البشرية من الاحتفال بتقديم آخر جيل من هذه الهندسة المعمارية القائمة على السيليكون، والتي غيرت شكل العالم خلال عدة عقود، وأصبح التطور حتمياً نحو تطوير أجهزة كمبيوتر تعمل على المستوى الذري أو الكمي، واشتد التنافس بين الدول وشركات التكنولوجيا حول تطوير الحواسيب الكمومية نظراً للقدرات الفائقة التي تعد بها هذه التكنولوجيا الجديدة.
فالحواسيب الكمومية، قوية لدرجة أنها يمكن وصفها بالكمبيوتر اللامتناهي (Ultimate Computer)، فمن الناحية النظرية، يمكن لهذه الأجهزة أن تكسر جميع شيفرات الأمان الإلكترونية المعروفة، وهذا الوضع خطر لدرجة أن المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا الأمريكي (NIST)، الذي يضع السياسات والمعايير الوطنية، أصدر إرشادات لمساعدة الشركات الكبرى والوكالات الحكومية على التخطيط للانتقال الحتمي إلى هذا العصر الكمي الجديد. وقد أعلن (NIST) بالفعل توقعه أن تكون الحواسيب الكمومية قادرة على كسر تشفير (AES) بتقنية 128 بتاً، بحلول عام 2029، وتشفير (AES) تستخدمه العديد من الشركات في حماية بياناتها، وتنفق الدول عشرات مليارات الدولارات لحمايته.
لا تقتصر تطبيقات الحواسيب الكمية أو الكمومية على الجانب الأمني والعسكري فقط، بل تتنوع لتشمل مجالات عديدة، من الطب إلى الفضاء والبيئة والمناخ والطاقة، وقادرة على القيام بحسابات تعجز أجهزة الكمبيوتر التقليدية عن القيام بها، فمثلاً في عام 2019 أعلنت جوجل عن تطوير جهاز سيكامور (Sycamore) الذي استطاع أن يحل مسألة حسابية في مدة 200 ثانية، وهذه المسألة قد تستغرق من الحواسيب الرقمية الكلاسيكية 10 آلاف عام. وفي عام 2020 أعلن معهد الابتكار الكمي في الصين (Quantum Innovation Institute) تطوير حاسب كمي أسرع بمقدار 100 تريليون مرة من جهاز كمبيوتر خارق (supercomputer).
لذا، تتسابق العديد من شركات التكنولوجيا العملاقة لتطوير الحواسيب الكمية مثل: جوجل، مايكروسوفت، إنتل، آي بي أم، ريجيتي، وهانيويل، وجميعها تعمل على بناء نماذج أولية للحواسيب الكمومية، وفي عام 2021 أعلنت آي بي أم، تطوير جهاز الكمبيوتر الكمي الخاص بها المسمى (Eagle)، كما أن المنافسة لا تقتصر على الشركات الأمريكية فقط بل والصينية أيضاً.
نهاية عصر السيليكون:
في الخمسينيات، كانت أجهزة الكمبيوتر عملاقة لدرجة أنها تعادل حجم غرفة كبيرة كاملة، وكان يمكن فقط للشركات الكبيرة والوكالات الحكومية مثل: البنتاغون والبنوك الكبرى شراء هذه الحواسيب. على سبيل المثال، كان بإمكان الحاسوب (ENIAC) أن يقوم في ثلاثين ثانية بما قد يستغرق الإنسان عشرين ساعة لإتمامه في هذا الوقت، لكنها كانت باهظة الثمن وضخمة، إلى أن حدثت ثورة في تطوير الرقائق الإلكترونية وتقلص حجمها على مر العقود حتى أصبحت شريحة واحدة بحجم الظفر، قادرة على أن تحتوي على حوالي مليار ترانزستور (الترانزستور هو جهاز يُستخدم لتضخيم أو تبديل الإشارات الكهربائية، ويعمل على مبدأ التحكم في تدفق الإلكترونات، وتمثل الحالة 1 في اللغة الثنائية عملية تدفق الإلكترونات عبر الترانستور والحالة 0 عدم تدفق تلك الإلكترونات)، هذا التطور مكّن المهندسين والعلماء من تطوير أجهزة كمبيوتر صغيرة ومحمولة وتطور الأمر لظهور الهواتف الخلوية وأجهزة إنترنت الأشياء وغيرها من الإلكترونيات الدقيقة.
ونتيجة لتسارع عملية تطوير الشرائح الإلكترونية صاغ جوردون مور، أحد مؤسسي شركة إنتل، في عام 1965 مبدأً عرف باسم قانون مور (Moore's Law)، وينص هذا القانون على أن عدد الترانزستورات يتضاعف تقريباً كل عامين، مما يؤدي إلى زيادة الأداء وانخفاض التكاليف بشكل متزامن. وفي تحديث لاحق لهذا القانون، عدّل مور الفترة إلى كل 18 شهراً. هذا المبدأ لا يُعد قانوناً فيزيائياً بالمعنى الصارم، بل هو ملاحظة تجريبية توجه صناعة أشباه الموصلات، وقد أدى هذا القانون دوراً حاسماً في تطور صناعة الإلكترونيات، إذ قاد الابتكارات وخفض تكاليف الإنتاج وسمح بإنتاج أجهزة إلكترونية أكثر قوة وأصغر حجماً بأسعار معقولة.
ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، بدأ العديد من الخبراء يشيرون إلى أن قانون مور قد بدأ يصل إلى حدوده الفيزيائية. السبب الرئيسي هو أن الترانزستورات قد أصبحت صغيرة لدرجة أنها اقتربت من حدود ما يمكن تحقيقه باستخدام التقنيات الحالية، هذا لأن الشرائح الإلكترونية باتت مضغوطة للغاية بحيث إن عرض الترانزستورات بات يبلغ حوالي عشرين ذرة فقط. وعندما تصل هذه المسافة إلى حوالي خمس ذرات عرضاً، يصبح موقع الإلكترون غير مؤكد بسبب مبادئ ميكانيكا الكم (والإلكترونات في هذه الحالة هي العناصر الحاملة للشحنة الكهربائية في الترانزستورات وتؤدي دوراً حاسماً في تشغيل ومعالجة البيانات داخل الكمبيوتر).
هذا الغموض في موقع الإلكترون مع صغر حجم الترانزستور يمكن أن يؤدي إلى "تسرب" الإلكترونات من مسارها المحدد (أي البوابات المسؤولة عن مرور الإلكترونات من داخلها)، مما يتسبب في تقصير دائرة الشريحة أو يولد حرارة مفرطة قد تذيب الشرائح. بمعنى آخر، بموجب قوانين الفيزياء، يجب أن ينهار قانون مور في نهاية المطاف إذا استمررنا في استخدام السيليكون بشكل أساسي، فقد وصلت هذه الهندسة الحوسبية المعمارية إلى نهايتها، وبالتالي قد نكون نشهد نهاية عصر السيليكون.
هذا لا يعني أن التقدم في تكنولوجيا الحوسبة قد توقف، ولكن يعني أن الابتكار قد بدأ يتحول من مجرد زيادة عدد الترانزستورات على شريحة إلى تحسينات في تصميم الأنظمة، واستخدام مواد جديدة، واستكشاف معماريات حوسبة جديدة. بمعنى آخر، قد يكون قانون مور كما نعرفه قد وصل إلى نهايته، ولكن الابتكار في تكنولوجيا الحوسبة مستمر بطرق جديدة يأتي على رأسها الحوسبة الكمومية.
بداية عصر الكوانتم:
نهاية عصر السيليكون وتوقف قانون مور هو بداية في نفس الوقت لعصر الكوانتم، فمع صغر المساحة التي يعمل عليها الترانزستور وتراجعها إلى أقل من خمس ذرات، فإن هذا يعني أننا بدأنا بالفعل في الهندسة على مستوى الذرة الواحدة، وبدلاً من الاعتماد على الترانزستور في التحكم في عملية تدفق الشحنة الكهربائية، سيتم الاعتماد على حركة الذرات نفسها. لك أن تتخيل استغلال حركة الذرة للقيام بعمليات حوسبية بدلاً من الترانزستور الذي يقوم بعملية تمرير التيار الكهربائي والتحكم فيه فقط، وفي هذه الحالة يتم استخدام ميكانيكا الكم لمعالجة وتحليل كميات هائلة من البيانات بشكل متزامن، بدلاً من معالجتها بشكل متسلسل مثلما في الحواسيب الرقمية.
فمثلاً إذا كانت لدينا متاهة بها فأر وقطعة جبن في آخر المتاهة، سوف يحتاج الحاسوب الرقمي إلى فحص كل طريق محتمل في المتاهة واحداً تلو الآخر بشكل متسلسل، إلا أنه يمكن للحاسوب الكمي تقييم جميع المسارات في وقت واحد، وبسرعة فائقة فيصل إلى نتيجة في اللازمن تقريباً. هذه القدرة الفريدة تفتح إمكانات جديدة لحل المشكلات التي كان يُعتقد سابقاً أنها لا يمكن حلها بالوسائل الرقمية.
وتتمثل قوة الحواسيب الرقمية الكلاسيكية في عدد البتات (Bits) التي يمكن معالجتها في الثانية الواحدة، والتي إما أن تكون 1 في حالة التشغيل أو صفراً عند إيقاف التشغيل. ولكن، نظراً لأن الذرة توجد على أكثر من حالة واحدة في نفس الوقت فإنها تستخدم وحدة البت الكمومية أو الكيوبت (Qubits) التي تعتمد على مبادئ ميكانيكا الكم، إذ تكون في تراكب من الحالات أو ما يعرف باسم التراكب الكمي Quantum) (Superposition.
بمعنى أن الذرة قد تدور وهي متجهة لأعلى أو لأسفل، أو يميناً أو يساراً، أو تدور لأعلى ناحية اليمن أو اليسار، في الحقيقية هي تدور في عدد لا نهائي من الاتجاهات كلها في ذات الوقت، مما يعني أنها تحمل الحالة 0 والحالة 1 وكذلك الحالة (0،1) في نفس التوقيت. فإذا كانت البت الكلاسيكية تعني حالة مرور التيار الكهربائي فإن الكيوبت تعني حالة دوران الجزيئات داخل الذرة مثل: الإلكترون والبروتون والنيترون، وتكمن ميزة الكيوبت في قدرته على تمثيل الأصفار والواحدات في نفس الوقت (أي حالة الدوران مع حالة الحركة في اتجاهات مختلفة)، هذا السماح بتراكب الحالات يعطي الحواسيب الكمومية قدرة هائلة على معالجة المعلومات والقيام بعدة عمليات حسابية في نفس الوقت بكفاءة وسرعة لا يمكن للحواسيب التقليدية مجاراتها.
لذا فإن مبدأ التراكب الكمي أو الفوقية الكمومية هو أحد الأسس الرئيسية لميكانيكا الكم ويمثل خاصية أساسية تميز الحوسبة الكمومية عن الحوسبة التقليدية، وباختصار فإن هذا المبدأ يصف كيف يمكن للجسيمات الكمومية، مثل: الإلكترونات أو الفوتونات، أن تكون في عدة حالات في نفس الوقت.
علاوة على خاصية التراكب، يتميز الكيوبت أيضاً بخاصية التشابك الكمومي Quantum) (Entanglement إذ يمكن لهذه الكيوبتات التفاعل، والتشابك فيما بينها. ففي كل مرة تضيف فيها كيوبتاً جديداً فإنه يتفاعل مع جميع الكيوبتات السابقة، وبالتالي يتضاعف عدد التفاعلات الممكنة. وهو ما لا يمكن للبتات العادية فعله إذ تأخذ حالات مستقلة وليست متشابكة، لذلك، تكون الحواسيب الكمومية بطبيعتها أقوى بشكل أسي من الحواسيب الرقمية، لأنك تضاعف عدد التفاعلات في كل مرة تضيف فيها كيوبتاً إضافياً.
لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فحالة التراكب الكمي والرابطة الموجودة بين الذرات قد تتأثر بأي مؤثر خارجي مما يعدل من حركة دوران الذرات وكذلك اتجاهها، وقد ترتبط الذرة بذرة أخرى أو تتفكك الرابطة الذرية بينهما، وبالتالي يفشل استقرار الكيوبت وتزداد الأخطاء الكمومية.
فعندما نحاول قياس حالة الكيوبت لمعرفة ما إذا كان في حالة 0 أو 1، فإن حالة الفوقية أو التراكب الكمي تنهار إلى واحدة من هاتين الحالتين. هذا يعني أنه قبل القياس، يمتلك الكيوبت إمكانية الوجود في كلا الحالتين، لكن بمجرد أن نقوم بالقياس، يختار الكيوبت حالة واحدة فقط ليكون عليها، لذا فإن أي نوع من القياس أو التفاعل مع الكيوبت قد يؤدي إلى انهيار حالته الكمومية الفوقية، مما يغير النتيجة المحتملة للعمليات الحسابية. لذلك، يُعد التحكم في هذه الحالات والحفاظ على استقرارها دون أن تتأثر بالقياسات الخارجية تحدياً كبيراً في تطوير وتشغيل الحواسيب الكمومية.
كما أن تصميم البرمجيات والخوارزميات الكمومية يتطلب فهماً عميقاً لميكانيكا الكم وأساليب جديدة في الترميز والحساب، لكن بالرغم من هذه التحديات، فإن البحث في مجال الحوسبة الكمومية يتقدم بسرعة، وقد أدى إلى تطورات مهمة في مجالات مثل: الكيمياء الكمومية، وتحسين الخوارزميات، والأمن السيبراني.
وفي النهاية، فإن دخول عصر الكوانتم أصبح وشيكاً للغاية، ففي أي لحظة قد يستطيع العلماء التحكم في حالة التحلل الكمي، وتحقيق أقصى استقرار ممكن للكيوبتات، ليمهد ذلك الطريق لاكتشافات غير مسبوقة، تزيد الفجوة القائمة بين المجتمعات المتقدمة وتلك النامية.