يهدف هذا المقال إلى تقديم رؤية استشرافية لمستقبل صراعات منطقة الشرق الأوسط في عام 2023، وتحديداً الصراعات الدائرة في اليمن وليبيا وسوريا، وذلك من خلال تحليل التطورات الطارئة على المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية المؤثرة في مسارات هذه الصراعات، وحدود تأثير كل من هذه المحددات على اتجاهات تلك الصراعات في العام الجديد.
استشراف المستقبل:
يعد استشراف المستقبل في التحليل السياسي - كما هو في كل الظواهر الاجتماعية وإن بدرجة أشد - عملية تحيط بيها صعوبات جمة، ليس التغلب عليها سهلاً، وأكتفي في هذا السياق بالصعوبة الخاصة بتعدد المتغيرات وتعقدها بسبب علاقات التشابك بينها، ويكفي مثلاً الإشارة إلى أن المُضي قُدماً في عملية استشراف المستقبل بشيء من الثقة تتطلب الإحاطة بتفاصيل بالغة التعقيد، لا تكون متاحة بالضرورة حتى لأعتى أجهزة المخابرات، عن خريطة القوى الداخلية وأوزانها سياسياً وعسكرياً في دول الصراعات، والتحالفات البينية لهذه القوى وموازين القوة الناجمة عنها، والأطراف الخارجية الداعمة لتلك القوى إقليمياً وعالمياً، وحدود هذا الدعم وأشكاله، علاوة على التفاعلات بين جميع أطراف صراع ما. وهذا كله بافتراض ثبات المتغيرات، لأن أي تغيير ذي شأن في أحدها لابد أن تكون له تداعياته على نموذج هذه التفاعلات.
وتزداد هذه الصعوبات في التنبؤات قصيرة المدى، لأنه في الأجل الطويل كلنا نموت كما يقولون. أما على المدى القصير - كذلك الذي يتصدى له هذا المقال - فإن أي تغير مفاجئ غير متوقع، مثل وفاة زعيم أو اغتياله مثلاً، يمكن أن يحدث ارتباكاً في مسار الأحداث. ولا مناص لتفادي هذه الصعوبات من بذل أقصى الجهود للإلمام بالتفاصيل والتطورات المتعلقة بها كافة، والاستفادة من تراكم الخبرة بموضوع ما، وتحليل اتجاهاتها العامة والتوصل إلى النماذج التي حكمت تطورها والاستفادة من الأخطاء التي تقع فيها عمليات التنبؤ لتحسين قدرتنا دائماً على استشراف المستقبل.
وفي محاولة لاستشراف مستقبل الصراعات في اليمن وليبيا وسوريا في عام 2023، سوف أقوم بمغامرة تحليلية، إذا جاز التعبير، يُبنى التنبؤ فيها على الخبرة المتراكمة من تحليل الاتجاهات العامة على صعيد المتغيرات الداخلية والإقليمية والعالمية المؤثرة في هذه الصراعات. والافتراض في هذه المغامرة أن الأوضاع التي ستكون عليها تلك الصراعات في العام الجديد، ستمثل بصفة عامة امتداداً للأوضاع الحالية حتى وإن اختلفت التفاصيل، حيث إن هذه الاختلافات إن وقعت لن تمثل خروجاً حاداً عن النموذج العام لتطور تلك الصراعات حتى الآن، وأن أي تغيير في هذه الأوضاع سيكون أساساً بفعل المتغيرات الإقليمية، ولن يكتمل في مجرى العام، كما أن نتائجه ستكون على أحسن الفروض متوازنة؛ بمعنى أنها لن تنطوي على انتصار واضح للشرعية في اليمن أو ضد التدخل الخارجي في ليبيا أو للنظام السوري على خصومه. وتقتضي محاولة التدليل على صحة هذا الفرض استعراضاً لحال المتغيرات الداخلية والإقليمية والعالمية المؤثرة في الصراعات موضوع التحليل.
متغيرات داخلية:
كشف النموذج العام لتطور الصراعات الإقليمية عن استقطابات حادة بين القوى المحلية في هذه الصراعات، سواء بين قوى الشرعية اليمنية وخصومها من ميليشيا الحوثيين، أو بين قوى شرق ليبيا وغربها، أو بين النظام السوري وخصومه، وقد فشلت كل المحاولات لتجاوز هذه الاستقطابات. ففي اليمن، باءت كل محاولات تسوية الخلافات بين الشرعية والحوثيين، بالفشل، وذلك مثلاً عبر مفاوضات فيينا (2015)، والكويت (2016)، ثم فشل مبادرة وزير الخارجية الأمريكي السابق في نهاية عام 2016، ثم المبادرة العُمانية (2021)، وصولاً إلى فشل تجديد مبادرة التهدئة الأممية التي بدأت في 2 أبريل 2022 وانتهت في 2 أكتوبر من العام نفسه. وكان تشدد الحوثيين سبباً رئيسياً لفشل المفاوضات، ولا توجد أدنى إشارة لاستعدادهم لتليين مواقفهم باتجاه الاحتكام لآليات ديمقراطية لأنهم يعرفون نتائجها سلفاً، علماً بأن أمير الكويت الراحل صاحب الخبرة التي لا تُبارى في الشؤون العربية عامة واليمنية خاصة، قد ألقى بثقله في مفاوضات الكويت من دون جدوى، وأن المبادرتين الأمريكية والعُمانية واجهتا المصير نفسه.
وينطبق الأمر نفسه على ليبيا التي تنقسم فيها القوى السياسية بين موالين لنظام القذافي السابق، وأنصار الثورة عليه الذين ينقسمون بدورهم إلى قوى مدنية وأخرى ترفع شعارات الإسلام السياسي، فضلاً عن الخلافات القبلية أو الأسس القبلية للانقسامات الراهنة. وكذلك سوريا التي صمد فيها نظام الحكم برئاسة بشار الأسد في مواجهة معارضيه من القوى المدنية السياسية والعناصر العسكرية المنشقة عن الجيش النظامي والقوى التي ترفع شعارات إسلامية، وبعضها على الأقل مصنف دولياً كفصائل إرهابية، فضلاً عن الأكراد السوريين الذين يطالبون بحكم ذاتي، وينطبق على الاحتقان السياسي في سوريا ما انطبق على الحالتين اليمنية والليبية.
تدخلات إقليمية:
ترجع أهمية المتغيرات الإقليمية إلى أن دور القوى الإقليمية، وبالذات إيران وتركيا، بالغ الأهمية في دعم الفصائل الداخلية في حالات الصراع المسلح الثلاث التي تمت الإشارة إليها، وضمان استمرار تأثير هذه الفصائل كونها أدوات لتحقيق أهداف تلك القوى التي يملك كل منها مشروعه الخاص لتحقيق مصالحه في الإقليم. فإيران هي الداعم الأساسي، إن لم يكن الوحيد، للحوثيين، وبدون هذا الدعم تتقلص قدرتهم كثيراً على الصمود بوجه معسكر الشرعية، بل تنتهي تماماً فيما يتعلق بقدرتهم على الهجمات المضادة بالصواريخ والطائرات المُسيّرة.
أما تركيا، فهي فاعل رئيسي في الصراعين الآخرين في ليبيا وسوريا، حيث تدعم الغرب الليبي بالمشورة العسكرية بالغة الأهمية والسلاح والتدخل العسكري غير المباشر. وفي هذا الإطار، لعب الدعم التركي بكل صوره وأشكاله دوراً حاسماً في منع قوات المشير خليفة حفتر من دخول العاصمة طرابلس، بل ودفعها إلى الخلف، لدرجة دفعت الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، في يونيو 2020، إلى الحديث صراحةً عن تدخل مباشر للقوات المصرية في القتال إذا تخطت القوات الموالية للغرب الليبي "الخط الأحمر" الذي حدده بخط سرت – الجفرة. وهي صورة أخرى من صور تأثير القوى الإقليمية في الصراع الليبي، خاصةً أن تصريحات الرئيس السيسي كانت بالفعل رادعة لقوات الغرب الليبي وداعميها.
وفي سوريا، فإن الدور التركي أكثر وضوحاً، حيث إنه لا يكتفي بالدعم غير المباشر للفصائل المسلحة، بل يمارس تدخلاً عسكرياً مباشراً بعمليات عسكرية للقضاء على ما تعتبره أنقرة تهديداً لأمنها وبالذات من منظور تخوفها من طموحات أكراد سوريا إلى حكم ذاتي واحتمال تطور هذه الطموحات إلى المطالبة بالانفصال، وهو ما تتخوف تركيا من تداعياته على وضع أكرادها الذين يمثلون أكبر تجمع كردي في العالم في دولة واحدة. وقد ترتب على هذه العمليات سيطرة تركيا على أجزاء من الإقليم السوري، علاوة على التهديد بعمليات عسكرية جديدة في الأراضي السورية كلما قدّرت القيادة التركية أن ثمة تهديداً لأمنها القومي ينبع من طموحات أكراد سوريا ومطالبهم.
تأثيرات عالمية:
تنبع أهمية المتغيرات العالمية من الوزن القيادي للقوى الكبرى صاحبة المصلحة في التأثير على مسارات الصراعات في الشرق الأوسط، بما يحقق مصالحها أو على الأقل لا يشكل تهديداً لها. ولذا فإن بصمتها على الصراعات الإقليمية الثلاثة موضوع التحليل واضحة، وإن تفاوتت الأهمية النسبية لأدوارها وتدخلها من صراع لآخر، حيث بلغت ذروتها في الصراع السوري الذي لعبت فيه روسيا دوراً حاسماً في وأد احتمالات سقوط نظام الأسد وإدارة اللعبة الدبلوماسية بمهارة. وبدت الحالة الليبية ساحة رحبة لتنافس دولي واسع ليس بين القوى الغربية وروسيا فحسب، وإنما كان التنافس ظَاهِراً بين القوى الأوروبية ذاتها كما يتضح من التنافس الفرنسي- الإيطالي، على سبيل المثال.
فيما مثّل الصراع في اليمن الحالة التي شهدت الدرجة الأقل لتدخل القوى العالمية في مجرياته، حيث لعب تحالف دعم الشرعية من جانب، وإيران من جانب آخر، الدور الأكبر في إدارة الصراع، من خلال تأييد كل من الجانبين لأحد طرفي الصراع. ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن تأثير القوى الكبرى غائب عن الصراع اليمني، ولكنه ربما ثانوي إذا قورن بالصراعين السوري والليبي مثلاً.
تداعيات متفاوتة:
تُظْهِر النظرة المتأنية لحركة المتغيرات السابقة، الداخلية والإقليمية والدولية، على صراعات اليمن وليبيا وسوريا، ثلاث ملاحظات رئيسية، وهي كالتالي:
1- تشير الملاحظة الأولى إلى جمود المتغيرات الداخلية في الصراعات الثلاثة في اليمن وليبيا وسوريا؛ بمعنى غياب أي تغيير جذري في تفاعلاتها يمكن أن يشير إلى نقلة نوعية في موازين القوى بينها تؤدي إلى حسم أي من تلك الصراعات أو التوصل لتسوية فيها بفعل حركة المتغيرات المتعلقة بأطرافها المحلية والداخلية.
2- تتعلق الملاحظة الثانية بالمتغيرات العالمية وتشير بوضوح إلى تراجع أولوية هذه الصراعات الإقليمية بالنظر إلى التطورات الخطيرة على الساحة الدولية، والتي تتعلق بالنسبة للقوى الكبرى بمصالح وقيم أهم بكثير من الصراعات التي تجري على الأراضي اليمنية والليبية والسورية. إذ إن نتائج الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا سوف تؤثر على بنية النظام العالمي برمته وتوازنات القوى فيه، ولذا فإن هذه الحرب انتزعت أولوية اهتمامات القوى الكبرى، كما أنها أثرت بالسلب دون شك على الموارد التي يمكن أن تخصصها تلك القوى للصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط.
ومن المعروف أن الحديث دائر في الولايات المتحدة منذ ولاية الرئيس الأسبق، باراك أوباما، أصلاً عن الانسحاب التدريجي من الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن هذا الانسحاب لم يحدث حتى الآن ولن يحدث أبداً لضخامة المصالح الأمريكية في المنطقة، فإن ذلك الحديث قد قلل من دون شك من الحضور والتأثير الأمريكيين في قضايا الإقليم، فما بالنا بوقت تواجه فيه الولايات المتحدة تحدياً صريحاً ومباشراً لقيادتها العالمية في منطقة شديدة الحساسية لمصالحها في أوروبا. كذلك فلنتخيل أن الأوضاع في سوريا قد تطلبت تكثيف الدعم الروسي لنظام الأسد، ففي هذه الحالة التي تواجه فيها موسكو حلف شمال الأطلسي على الأراضي الأوكرانية، لا شك أنه سيكون من الصعوبة بمكان عليها أن تُصَعد تدخلها العسكري المباشر في سوريا.
وهكذا فإن قراءة خريطة المتغيرات العالمية في اللحظة الراهنة، التي لا توجد مؤشرات على انتهائها سريعاً، تشير إلى تراجع مُرجح لتأثير القوى العالمية في صراعات الشرق الأوسط، وهي ملاحظة مهمة بصفة خاصة لاحتمالات تسويتها وليس حسمها عسكرياً؛ لأن القوى الكبرى حاولت الحسم العسكري من دون جدوى حتى الآن، غير أن دورها سيكون مؤثراً بلا شك في تقديم الضمانات الأمنية والاقتصادية لأي تسوية يمكن التوصل إليها، وهو دور قد يصعب تصور تخصيص الموارد له ومن ثم ضمان فاعليته في الظروف الدولية الراهنة.
3- تبقى الملاحظة الثالثة المتعلقة بالمتغيرات الإقليمية التي تبدو الوحيدة التي تشهد حراكاً واضحاً؛ لأنه يمكن الافتراض بأن القوى الإقليمية قد اتجهت بصفة عامة إلى تخفيف الاحتقان ومحاولة تطبيع العلاقات فيما بينها في أعقاب تفاعلات صراعية دارت بينها، وإن لم تتخذ الشكل العسكري المباشر، كما حدث بين التحالف العربي وإيران في اليمن، وبين مصر وتركيا في ليبيا، وبين تركيا وسوريا في الصراع الدائر على الأراضي السورية، وبين تركيا أيضاً وعدد من الدول العربية بخصوص الموقف من الحركات التي تنسب نفسها للإسلام. وبدا وكأن هذه القوى الإقليمية جميعها، وإن بدرجات متفاوتة، قد توصلت إلى أن استمرار الاحتقان بينها لن يفضي إلى انتصارات حاسمة، وإنما إلى استنزاف يُعتد به للموارد. وهكذا شهدنا مثلاً انفتاحاً سعودياً وإماراتياً على تركيا، وحواراً سعودياً مع إيران.
وفي قمة جده للأمن والتنمية التي عُقدت في منتصف يوليو 2022، كان واضحاً من مواقف الدول العربية التي حضرت القمة أن فكرة إقامة حلف عربي ضد إيران برعاية أمريكية قد وُضِعَت في خزائن التاريخ، ولا يعني هذا أن التناقضات العربية - الإيرانية قد حُلت وإنما المقصود أن الباب الدبلوماسي لحل الخلافات قد تم فتحه. وينطبق الأمر نفسه على تركيا، فثمة انفتاح إماراتي وسعودي على تركيا، يُضاف إلى علاقتها الوطيدة أصلاً بقطر. وهناك حوار مصري - تركي وإن كان بطيئاً، يشبه في وتيرته الحوار السعودي – الإيراني. كذلك فإن هناك انفتاحاً تركياً على النظام السوري، وإن كان ما زال في بداياته، بيد أن توثق العلاقات الروسية - التركية عل خلفية الحرب في أوكرانيا يمكن أن يزيد من فرص نجاحه.
آمال قائمة:
هكذا يمكن أن ننتهي إلى أن المصدر الوحيد لأي أمل في تغيير يطرأ على الصراعات الدائرة في اليمن وليبيا وسوريا، هو استمرار التحولات في العلاقات بين القوى العربية ونظيرتها الإقليمية، واكتمال هذه التحولات، لأن تلك القوى تلعب أدواراً مهمة كما رأينا في تلك الصراعات. فلا شك أن أي تقارب عربي - إيراني سوف ينعكس بالإيجاب على جهود تسوية الصراع في اليمن، ونجاح الحوار المصري - التركي سوف يعني إمكانية الحديث عن تقدم في تسوية الصراع الليبي، ونجاح الحوار بين تركيا وسوريا سوف تكون له بالتأكيد انعكاسات إيجابية على تسوية الصراع في سوريا، خصوصاً مع وجود مصلحة مشتركة بين نظامي البلدين فيما يتعلق بالمشكلة الكردية، فكلاهما تتحقق مصلحته بعودة الأكراد إلى مظلة الدولة السورية مع الاعتراف بحقوقهم المشروعة كمواطنين سوريين، وسوف تساعد العلاقات الروسية - التركية المتنامية دون شك في هذا الاتجاه.
غير أن هذا التحليل لا يعني أن عام 2023 سيشهد تسوية الصراعات في اليمن وليبيا وسوريا؛ لأن غالبية شهور العام قد تُستغرق في استكمال حوارات التهدئة والتقارب، فضلاً عن أن احتمالات انتكاسات هذه الحوارات ما زالت قائمة، كما أن نجاحها لا يعني تلقائياً التوصل إلى تسوية، فهي عملية أكثر تعقيداً بكثير سوف تظهر فيها مصالح الأطراف المحلية وتؤثر على مسار الأحداث كما تُظهر بوضوح خبرات سابقة لتسوية الصراعات. كذلك فإن هذه التسويات لابد وألا تتناقض تناقضاً صارخاً مع مصالح القوى الكبرى وإلا حاولت تخريبها. فعلى سبيل المثال، فإنه لا يمكن تصور تسوية للصراع في سوريا تقوض المصالح الروسية وهكذا. وأخيراً، يجب أن يكون واضحاً أن هذه التسويات إن تمت على هذا النحو - أي بفضل تهدئة إقليمية - سوف تكون تسوية توازن بين مصالح جميع الأطراف وليست انتصاراً واضحاً لأحدها على الآخر، والله أعلم.