مع بداية العام 2023 نسجل مضي ثلاثة عقود على ظهور أول دلائل تطوير البرنامج النووي الإيراني ليتجاوز التخصيب السلمي، حين سجلت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تعاوناً بين مفاعل طهران ومعهد البحوث التطبيقية الأرجنتيني لتزويده بالوقود المخصب بنسبة تقل قليلاً عن 20 في المئة، وتوفير 115 كيلوجراماً في العام 1993، لتبدأ سلسله من العقوبات الأمريكية تستهدف قطاع الطاقة الإيرانية.
سربت الجماعات الإيرانية المعارضة خبر إقامة منشآت نووية بالقرب من نطنز وأراك في أغسطس من العام 2002 لتدشن أول برنامج نووي يتبع في تشكيله المؤسسة العسكرية في إيران، بناء عليه أصدر مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية قراراً يدعو إيران إلى تعليق أنشطة التخصيب كافة وإعادة المعالجة ذات الصلة ببرنامج تخصيب اليورانيوم والسماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأخذ عينات من البيئة المحيطة بمواقع التخصيب، جاءت استجابة طهران في ذلك الوقت نتيجة ضغوط أوروبية لتمنع تحويل الملف لمجلس الأمن الدولي.
خرق الأطر الدولية
لم يدم امتثال إيران للقرارات الدولية لوقت طويل مما دفع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى إحالة ملف إيران إلى مجلس الأمن في العام 2006. وأعلنت إيران توقفها الطوعي عن تنفيذ البروتوكول لاتفاق الضمانات الإضافي، وهو متمم للاتفاق الذي يضمن أنشطة التفتيش والتحقيق في المنشآت النووية المعلنة، ويمنح البروتوكول الإضافي حقوقاً موسعة للحصول على المعلومات والدخول إلى المواقع في الدول، ويمكن الوكالة من الحصول على معلومات حول خطط الدول النووية، وأرصدتها من المواد النووية وتجارتها في المواد الداخلة في التصنيع النووي، كما يمنح الوكالة الحق في تركيب كاميرات المراقبة وأخذ عينات بيئية من المواقع المشتبه في وجود مواد نووية فيها.
مع إعلان إيران عن تخصيب أول كميه من اليورانيوم في محطة نطنز لحوالي 3.5 في المئة، تقدم المجتمع الدولي ممثلاً في الأعضاء الخمس دائمي العضوية بالإضافة إلى ألمانيا باقتراح اتفاقية إطارية لتقديم الحوافز من أجل وقف برنامج التخصيب النووي الذي بدأته، ويتبنى مجلس الأمن القرار 1696 الذي يدعو إيران لتعليق أنشطة التخصيب ومعالجة المواد النووية. رفضت إيران الامتثال للقرار الدولي مما قاد لحزمة من العقوبات الدولية بناء على القرار الأممي رقم 1737، تحظر نقل التكنولوجيا النووية والصاروخية إلى إيران وتجميد أصول عدد من المنظمات والأشخاص الإيرانيين لارتباطهم ببرنامجها النووي.
منذ بدء التدخل الدولي، استطاعت إيران تطوير قدراتها النووية، التي بدأت، بحسب ما ذكرت التقارير الاستخباراتية الأمريكية، بالتحويل التدريجي في "أعمال التصميم والتسليح"، وزيادة نسبة النقاء لتخصيب اليورانيوم مع بدء العام 2007 وبالرغم من توالي العروض التفاوضية من مجموعة 5+1 وحوافز التعاون الاقتصادية والتقنية، فإن البرنامج النووي الإيراني بما في ذلك القدرات الصاروخية وبرنامج الفضاء والاتصالات لايزال مستمراً حتى الآن.
وفي العام 2009 أعلنت إيران عن تنفيذ عملية إطلاق ناجحة لقمر صناعي أثارت مخاوف المجتمع النووي تجاه إمكانيات تطوير الصواريخ الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية الآخذة في الازدياد.
تغير الموقف الأمريكي مع إدارة باراك أوباما، ليطرح إمكانية التفاوض المباشر مع إيران بشكل منفصل عن مجموعة 5+1 وعرضت واشنطن استبدال اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المئة لدى إيران بيورانيوم نسبة نقائه 3.5 لأغراض البحث العلمي في مقابل تخفيف العقوبات الأممية، وبالرغم من الموافقة المبدئية، فإنه تم الكشف لاحقاً عن تطوير إيران منشآت نووية جديدة بالقرب من مدينة قم في فوردو، رفضت إيران الاعتراف بوجودها، مما دفع لقرارات حظر أممية أكبر، تبعتها قرارات مقاطعة أمريكية وأوروبية.
الحفاظ على الخيار العسكري
لطالما أبقى المفاوض الإيراني على خيار إمكانية تحويل منظومته النووية من الأغراض السلمية إلى العسكرية مفتوحاً حيث يصر على تحجيم الرقابة الدولية أو وقفها بشكل كامل، والاعتراض على إجراءات الشفافية والمطالبة بالاعتراف بحقها في تخصيب اليورانيوم ورفع العقوبات عن المؤسسات التابعة للبرنامج النووي.
إيران لم تقرر بعد ما إذا كانت تريد تطوير أسلحة نووية، ولكنها تبقي هذا الخيار مفتوحاً من خلال تطوير إمكانياتها الذاتية وقدراتها المادية، حيث أعلنت عن إكمال تركيب 2800 جهاز طرد مركزي في فوردو لاستكمال تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة في العام 2012.
على خلفية مشهد القدرات النووية الإيرانية المعلنة حول برنامجها النووي، بدأت سلسلة من المفاوضات الدولية جمعت بين الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا في مقابل المفاوض الإيراني، حول مستقبل برنامجها النووي، للتوصل لاتفاق يحقق قدراً من الشفافية والرقابة الدولية في مقابل التعاون مع إيران على تطوير قدراتها النووية السلمية ورفع العقوبات الاقتصادية. في اجتماع جمع كاترين آشتون المفاوضة عن دول 5+1 ووزير الخارجية الإيراني جواد ظريف في 2013 وضعت الخطوط الأساسية لاتفاق إطاري يسهل عملية التفاوض وشملت:
1. وقف تطوير البرنامج النووي الإيراني.
2. تخفيض مخزون اليورانيوم المخصب بنسبة 20 في المئة.
3. تمكين الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الوصول إلى المواقع النووية لأغراض الرقابة حسب الاتفاقات الدولية.
4. التزام المجتمع الدولي بعدم فرض عقوبات جديدة متعلقة بالجانب النووي على إيران خلال فترة الاتفاق.
وبناء على الاتفاق تم إنشاء لجنة مشتركة لمراقبة الاتفاقية للعمل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أقرت اللجنة بالتزام إيران بالاتفاق المبرم وأصدرت الولايات المتحدة وأوروبا حزمة من القرارات لتخفيف العقوبات. مع التزام إيران بالمحددات المتفق عليها في المفاوضات النووية. تم اعتماد خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني) في العام 2015 وقعت عليها مجموعة 5+1 بالإضافة إلى إيران.
وبينما التزمت إيران بتعهداتها الدولية خلال فترة المباحثات، تم تسريب تقرير للصحافة في 2016 حول خطة البحث والتطوير الإيرانية لأجهزة الطرد المركزي المتقدمة، كما استمرت إيران في تطوير الصواريخ الباليستية، في المقابل أعلنت الولايات المتحدة عن حزمة عقوبات جديدة تستهدف الصواريخ الإيرانية القادرة على حمل رؤوس نووية.
في حين قدم السيناتور، بوب كوركر، مشروع قانون عقوبات على إيران لمكافحة الأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار في مارس 2017 ويستهدف الصواريخ الباليستية الإيرانية ودعم الإرهاب، عارض نائب وزير الخارجية في ذلك الوقت أنتوني بلينكن وبعض المسؤولين في إدارة أوباما هذا القانون، ضمن حديث نشره مقال للفورين بوليسي، حيث اعتبروا أنه يعرقل اتفاق 2015. وقد تم تمرير قانون مكافحة الأنشطة المزعزعة للاستقرار في إيران من مجلس الشيوخ بأغلبية 98 صوتاً مقابل رفض 2.
عدم جدوى اتفاق 2015
حتى في أفضل الظروف، لم يكن التزام إيران بالاتفاق النووي أمرا كافياً، نظراً للتهديد الأمني الذي تمثله إيران ليس فقط على دول الجوار ولكن على المستوى الدولي، فبالرغم من امتثالها للكميات المحددة في الاتفاق النووي (حسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة النووية)، فإنها استمرت في تطوير قدراتها النووية التي تمكنها من التحول لبرنامج عسكري بسهولة في المستقبل، من خلال تطوير قاعدة البحث العلمي النووي والصواريخ الباليستية القادرة على حمل رؤوس نووية بالإضافة إلى برنامج الفضاء الذي تستخدمه لتطوير قدراتها الصاروخية والاتصالات والحصول على المعلومات المطلوبة لبرنامجها العسكري.
تناول المجتمع الدولي لأكثر من مرة خطورة برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، كما تثار مسألة دعم إيران للميليشيات العسكرية لتنفيذ أجندتها الخارجية وتأثيرها في دول الجوار، ولذلك تم طرح عدد من الإجراءات سواء في الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة للحد من هذه النشاطات المزعزعة للاستقرار، لا يتناسب ذلك بطبيعة الحال مع تطوير البرنامج النووي الإيراني التي استمرت بالتهديد للانسحاب من الاتفاق النووي.
جاء انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق ليؤكد عدم فاعلية شروط الاتفاق لوقف التهديد الأمني الذي يشكله النظام الإيراني، من دون النظر للمكونات الأخرى التابعة له. وفرضت الولايات المتحدة سلسلة من العقوبات الاقتصادية والتي قامت إيران على أساسها بتوجيه ردها من خلال تراجعها عن الاتفاق النووي، وإعادة نشاطها لدرجات غير مسبوقة.
بالرغم من ذلك ما زال الديمقراطيون وإدارة بايدن يرون أنه بالإمكان العودة لاتفاق 2015 بمصافحة يد بين الطرفين في حين أنه منذ العام 2018، ظهرت سلسله من المعلومات التي لم تكن متوفرة ضمن تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية والتي أشارت لعدم التزام إيران بالاتفاق، الأمر الذي طرحه نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، كاشفاً عن وجود مستودعات سرية نقلت لها المعدات ومخزون المواد المخصبة التي تتعارض مع الاتفاق النووي، وقد أكدت الوكالة الدولية ذلك مؤخراً، حيث قوبل طلبها بتفتيش ثلاثة مواقع إيرانية بالرفض من قبل طهران. كما أن إيران عادت لتطوير قدراتها النووية بشكل غير مسبوق تجاوز مرحلة ما قبل 2015 من تحديث أجهزة الطرد المركزي ورفع إنتاجها من اليورانيوم المخصب لحدود 60 في المئة من النقاء.
ختاماً، ما زال الوضع بين طرفي التفاوض متوقفاً حول بناء الثقة، ففي حين تطالب إيران بتعهدات تمنع الإدارات الأمريكية المتلاحقة من تغيير موقفها تجاه الاتفاق النووي والامتناع عن إثارة قضايا أخرى تتجاوزها، مثل برنامج الصواريخ الباليستية ونشاطها الداعم للميليشيات، تقف الإدارة الأمريكية (الديمقراطية) عاجزة عن إيجاد التوافق التشريعي الذي يقدم الضمانات التي تطلبها إيران، في ظل التجاوزات الإيرانية غير المقبولة حسب القوانين والأعراف الدولية.
تكمن خطورة اللحظة في عدم وجود حلول بديله لدى المفاوض الغربي تجاه التهديدات التي تمثلها إيران ليس فقط تجاه برنامجها النووي، ولكن أيضاً تهديدها للأمن والسلم الدوليين من خلال تعرضها لحركة الملاحة الدولية ودعم الميليشيات المسلحة والتدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار وتبعاته من حالة عدم استقرار.