في أعقاب دخول القوات الروسية لأوكرانيا، ألقى الرئيس الأمريكي، جو بايدن، خطاباً يوم الخميس 24 فبراير 2022، أعلن فيه عن موقف بلاده من تطور الأحداث في أوكرانيا. ووصف بايدن الهجوم الروسي على أوكرانيا، بأنه "حرب اختيار"؛ أي أن بوتين اختار اللجوء إلى الحرب، ومن ثم فإنه وبلاده سيتحملان العواقب، والتي سوف تكون اقتصادية بالأساس.
استبعاد الخيار العسكري:
استبعدت الولايات المتحدة الخيار العسكري في التعامل مع الأزمة الحالية، وذلك لأسباب واضحة تتعلق أولاً بأن أوكرانيا ليست عضواً في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، وبالتالي لا تتمتع بمظلة الحماية التي توفرها المادة الخامسة من ميثاق الحلف. والسبب الآخر هو أن واشنطن قد تخلت في السنوات الأخيرة عن سياسة التورط العسكري في النزاعات الخارجية، وتبنت سياسة سحب قواتها العسكرية من مناطق الأزمات التي خلقتها في العراق وأفغانستان، بالإضافة إلى حالة المزاج الانعزالي السائدة لدى الرأي العام الأمريكي والتي تضع قيوداً على التدخل العسكري الخارجي، وتعطى الأولوية للاهتمام بالداخل الأمريكي.
وأكد بايدن أن القوات الأمريكية لن تقاتل في أوكرانيا، لكنها ستنشر المزيد من القوات في إطار حلف "الناتو". وقد بدأت الولايات المتحدة في نشر ما يُقرب من 7 آلاف جندي، ستذهب أولاً إلى المانيا، ثم يمكن أن تنتقل بعد ذلك إلى أي من دول "الناتو".
فرض عقوبات اقتصادية:
تبنت إدارة بايدن مجموعة من العقوبات الاقتصادية ضد روسيا، تركزت بالأساس على قطاعي البنوك والتكنولوجيا وعلى الأفراد، حيث استهدفت العقوبات أكبر البنوك الروسية بهدف تجمد الأصول المحتفظ بها في المؤسسات المالية الأمريكية وإعاقة قدرتها على العمل داخل النظام المالي العالمي، وحظرت على الأشخاص الأمريكيين أو المقيمين في الولايات المتحدة التعامل مع أي منها. كما تم وضع قيود تمويل على شركات مهمة مملوكة للدولة الروسية بما في ذلك "غازبروم" و"روستيليكوم" Rostelecom.
وقد طالب الرئيس الأوكراني "زيلينسكي" بفصل روسيا عن نظام "سويفت" الخاص بالمعاملات البنكية الدولية، وفي بداية الأزمة استبعدت العقوبات الأمريكية هذا الأمر، ووعدت واشنطن بدراسته؛ لتخوفها من تأثيره السلبي على الحلفاء الغربيين الذين يتعاملون مع موسكو واعتماد دول الاتحاد الأوروبي على هذا النظام لدفع ثمن الطاقة الروسية. لكن مع استمرار التصعيد العسكري ورغبة الغرب في تشديد العقوبات الاقتصادية على موسكو وفرض تكاليف عليها من شأنها أن تزيد عزلتها عن النظام المالي الدولي واقتصادات الدول الغربية؛ اتخذت الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا وكندا وباقي الحلفاء في الغرب، يوم 26 فبراير 2022، خطوات لاستبعاد روسيا من نظام "سويفت". وأكدت هذه الدول، في بيان مشترك، أن الإجراءات التي ستشمل قيوداً على الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي الروسي ستُنفذ في الأيام المقبلة.
كما تضمنت العقوبات الأمريكية أيضاً تجميداً للأرصدة وقيوداً على السفر لعدد من الشخصيات الروسية، منها الرئيس بوتين، ووزير خارجيته "سيرغي لافروف"، وزير الدفاع "سيرغي شويغو"، والنائب الأول لوزير الدفاع ورئيس الأركان العامة للقوات المسلحة للاتحاد الروسي "فاليري غيراسيموف"، بالإضافة إلى عدد من رجال الأعمال وشخصيات من النخبة السياسية الروسية.
فيما استهدفت العقوبات التقنية تقييد الوصول إلى التكنولوجيا المطلوبة لدعم قطاعات الدفاع والفضاء والبحرية في روسيا، وشمل ذلك قيوداً على أشباه الموصلات والاتصالات وأمن التشفير والليزر وأجهزة الاستشعار والملاحة وإلكترونيات الطيران والتقنيات البحرية وغيرها. علاوة على حظر صادرات جميع المنتجات الأمريكية ذات الاستخدام العسكري أو تلك المُنتجة في دول أجنبية باستخدام برامج أو تقنيات أو معدات أمريكية، وتستهدف هذه القيود وزارة الدفاع الروسية والقوات المسلحة الروسية.
ولم تستهدف العقوبات الأمريكية قطاع الطاقة الروسي، لتخوفها من أن يدفع ذلك أسواق الطاقة العالمية إلى الارتفاع، وتأثير ذلك على أسعار الطاقة والغاز في الولايات المتحدة، والتي يمكن أن تسبب مشكلة داخلية للرئيس بايدن، خاصة مع قرب الاستعداد لانتخابات التجديد النصفي للكونجرس في نوفمبر القادم. علاوة على تأثير عقوبات الطاقة على حرمان الحلفاء الغربيين من إمدادات الغاز الروسية التي يعتمدون عليها بشكل كبير، مما يلحق بهم ضرراً كبيراً، والخوف من أن يؤثر ذلك على وحدة الصف الغربي في مواجهة الرئيس بوتين.
الكونجرس والرأي العام:
يمكن القول إن الساحة السياسية الأمريكية تشهد توافقاً كبيراً بشأن إدانة التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، حيث أشاد رئيس العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ "روبرت مينينديز" بالعقوبات الأمريكية، لكنه دعا إلى مزيد من الإجراءات، وأشار إلى أنه "يجب ألا يخجل الكونجرس وإدارة بايدن من أي خيارات، بما في ذلك معاقبة البنك المركزي الروسي، وإزالة البنوك الروسية من نظام الدفع سويفت، وشل الصناعات الرئيسية في روسيا، ومعاقبة بوتين شخصياً، واتخاذ جميع الخطوات لحرمان بوتين ودائرته الداخلية من أصولهم". وطالب أعضاء الحزب الجمهوري بفرض عقوبات أكثر صرامة، بحجة أن الخطوات التي اتخذها الرئيس بايدن لم تكن كافية.
وبالنسبة للرأي العام الأمريكي، وفي استطلاع أجرته صحيفة "واشنطن بوست" ومحطة "إي بي سي" التليفزيونية يوم الخميس 24 فبراير 2022، أيد ثلثا الأمريكيين (67%) فرض الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين عقوبات اقتصادية على روسيا بسبب أعمالها العسكرية في أوكرانيا، بينما يعارض 20% العقوبات، و13% ليس لديهم رأي. وذكر حوالي نصف المستطلعين أنهم سيظلون يؤيدون العقوبات إذا أدت إلى ارتفاع أسعار الطاقة في الولايات المتحدة. ووصلت صورة روسيا إلى أدنى مستوى لها منذ ثلاثة عقود، حيث يرى 80% من الأمريكيين روسيا بشكل سلبي، بما في ذلك 41% يقولون إنها "عدو" للولايات المتحدة. وبالرغم من أن الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، أشاد مؤخراً بتحركات بوتين ضد أوكرانيا، فإن استطلاع الرأي يوضح أن المشاعر السلبية تجاه روسيا تكاد تكون متطابقة بين الديمقراطيين والجمهوريين. الخلاصة هنا أن الرئيس الأمريكي بايدن يحظى حتى الآن بدعم داخلي كبير في تعامله مع الأزمة الأوكرانية.
حدود تأثير العقوبات:
على الرغم من أن نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي، داليب سينغ، وصف العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على روسيا بأنها "الأكثر أهمية على الإطلاق التي تُفرض على روسيا ويمكن القول إنها الأكثر أهمية في التاريخ"؛ بيد أن الرئيس بايدن أشار إلى أنه "لا يتوقع أحد أن تمنع العقوبات أي شيء من الحدوث، وأن تأثير العقوبات سيستغرق وقتاً، وعلينا أن نظهر العزم حتى يعرف ما سيحدث وبالتالي يعرف شعب روسيا ما الذي جلبه عليهم".
ومع أن الإدارة الامريكية أعلنت أنها لديها حزمة كبيرة من العقوبات سوف تطبقها بشكل مرحلي ومع تزايد التصعيد الروسي في أوكرانيا، إلا أنه من الواضح أن جعبة العقوبات الأمريكية على وشك النفاذ بعد أن تم فرض عقوبات على الرئيس بوتين، وفصل روسيا عن نظام "سويفت" للمدفوعات العالمية بين البنوك.
وفي الوقت نفسه، من الواضح أن روسيا توقعت تلك العقوبات، وكانت على درجة من الاستعداد للتعامل معها. ويعتقد بوتين أن المكاسب الاستراتيجية التي سوف يحققها هي أكبر في قيمتها من الخسائر التي سوف تتكبدها روسيا من العقوبات الغربية. ويدخل في حساب هذه المكاسب، ضمان عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف "الناتو"، وطرح قضية الترتيبات الأمنية في أوروبا والحساسيات الروسية بشأنها في ساحة النقاش مرة أخرى، بالإضافة إلى قيام بوتين باختبار حدود القوة الأمريكية خلال هذه الأزمة، والتي أظهرت الضعف الأمريكي في مساندة حلفائها، وهو أمر ستكون له نتائج طويلة المدى فيما يتعلق بموازين القوى في النظام الدولي.