ليست ظاهرة الإفلات من العقاب بجديدة في العلاقات الدولية، التي تفتقر عكس التفاعلات السياسية الداخلية، إلى سلطة آمرة تحتكر القوة، لذلك فإن الفيصل في العلاقات الدولية ليس الالتزام بالقانون، وإنما التصرف وفقاً لموازين القوى والمصالح، فالأقوى يتصرف وفقاً لمصالحه آمناً من العقاب، وأحدث حالات الإفلات من العقاب هي العربدة التركية في العالم العربي، بزعم إعادة أوهام الأمجاد العثمانية، بكل ما يعنيه هذا من دعم لحركات تخريب وإرهاب تتستر باسم الدين وانتهاك لسيادة الدول العربية، غير أن العربدة التركية لم تقتصر على العالم العربي، وإنما امتدت لأوروبا بانتهاك سيادة اليونان وقبرص، سواء من خلال السلوك التركي المعتاد تجاههما أو الأطماع الجديدة في ثروات شرق المتوسط، وادعاء الحق في التنقيب عن النفط والغاز أمام سواحل ما يُسمى جمهورية قبرص التركية، أو الانتهاك الأخير للحدود البحرية بين تركيا واليونان، بموجب المذكرة الباطلة بين حكومة السراج.
أما أحدث الانتهاكات، فهو ما تم بخصوص الصراع الدائر في ليبيا، بتوقيع مذكرتين باطلتين كانتا أساساً لانتهاك لقرارات مجلس الأمن منذ 2011، بخصوص حظر توريد السلاح لأطراف الصراع، ولم يقتصر الأمر على ذلك، وإنما امتد إلى الحديث عن إرسال قوات، وإن كان أردوغان قد تراجع إزاء المعارضة العربية والأوربية، واستبدل بذلك إرسال مستشارين أتراك ومرتزقة سوريين وأجانب من جبهة القتال في سوريا، تم رصدهم أولاً من الجيش الوطني الليبي وأسر بعضهم، وفي البداية تحدث غسان سلامة، المبعوث الأممي المستقيل، عن المسألة بعمومية، وتجاهل في إحاطته لمجلس الأمن في مايو 2019، دعم تركيا للميليشيات بالسلاح، ورفض اتهام السراج بالاستعانة بإرهابيين، غير أنه اعترف في يناير 2020 خلال جلسة لمجلس الأمن، بتدفق آلاف المقاتلين لدعم حكومة الوفاق، وأخيراً تحدثت تقارير صحفية أوروبية عديدة، عن رصد مهمة المراقبة الأوربية التي دُشنت في مارس الماضي (إيريني) لانتهاكات تركية صارخة لحظر السلاح، من خلال سفن تركية في حماية قطع تابعة للأسطول التركي، ومع ذلك لم يُتخذ أي إجراء مؤسسي أوروبي في هذا الخصوص، ولماذا نشق على أنفسنا أصلاً في البحث عن أدلة إدانة للانتهاكات التركية لقرارات حظر السلاح، والمسؤولون الأتراك، وعلى رأسهم أردوغان، يقرون بالتدخل التركي، ويتباهون بما أحدثه من تغيير لميزان القوى.
حدث كل هذا دون أدنى مساءلة، بل إن إدانة هذا السلوك خارج العالم العربي اقتصرت على دول محدودة على رأسها فرنسا وشملت اليونان وقبرص بطبيعة الحال، ومع أن الاتحاد الأوروبي اتخذ قرارات بفرض عقوبات على تركيا، إلا أنها غير مؤثرة حتى الآن، كما أن مهمة «إيريني» تبدو بلا أنياب، فهي لم تمارس حتى حقها في تفتيش السفن المشتبه بها، ويُفَسر هذا التخاذل الدولي، كما سبقت الإشارة، بموازين القوة والمصالح، وتنقسم الدول المؤثرة في مواقفها من السلوك التركي إلى دول لا توافق على هذا السلوك، وربما تدينه، لكن بينها وبين تركيا مصالح تخشى المساس بها، وبالتالي لا تتخذ ما ينبغي من مواقف لكبح السلوك التركي، وأخرى قد لا توافق على السلوك التركي لكنها تراه مفيداً لكبح النفوذ الروسي في ليبيا، وثالثة داعمة للإرهاب ومن ثم لتركيا وسلوكها، ويدعي البعض أن نتائج التدخل التركي مفيدة لأغراض التسوية السياسية، بما أحدثته من توازن في القوى، وهو ادعاء زائف أولاً، لأن نشوة الانتصارات الأخيرة لميليشيات الإرهاب دفعت السراج لرفض الانخراط في التفاوض مع الجيش الوطني، وللتلويح بأن القتال مستمر حتى تحرير شرق ليبيا، وثانياً لأن أي تسوية لا تستبعد الميليشيات الإرهابية مرفوضة مهما كانت الصعاب.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد