أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

فتح الجبهات:

رهانات لحرب أردوغان ضد داعش والأكراد

01 أغسطس، 2015


أسئلة كثيرة تطرح عن أبعاد الحرب التي أعلنتها تركيا على حزب العمال الكردستاني وداعش.. فما الذي تغير حتى تقوم أنقرة بهذه الحرب؟ وما هي الأهداف والدوافع التركية الحقيقية منها؟ وهل الكردستاني وداعش بنفس المستوى في هذه الحرب؟ وما دور العوامل الإقليمية والدولية في التصعيد التركي؟ والأهم، ماذا عن التداعيات والنتائج المتوقعة؟

الدوافع والأهداف

بداية، لابد من القول إن الحجج التي ساقتها الحكومة التركية لشن هذه الحرب لا تبدو مقنعة للكثيرين حتى لمن هم في الداخل التركي، فالحديث عن تهديد أمن تركيا من قبل حزب العمال الكردستاني لا يتناسب وانخراط الحزب في عملية السلام مع الحكومة التركية، ومشاركة الكرد في الانتخابات، وتراجعهم عن شعارات الانفصال لصالح الاندماج في الحياة العامة التركية.

كما أن تنظيم داعش الذي قتل وضرب ودمر في معظم دول المنطقة لم يقترب من تركيا طوال الفترة الماضية، بل إن الرهائن الأتراك الدبلوماسيين الذين اعتقلهم التنظيم هم الوحيدون الذين عادوا بكامل أناقتهم الرسمية، وضريح سليمان شاه الذي كان تحت سيطرة التنظيم هو الوحيد الذي نجا من التدمير بعد أن هدم التنظيم عشرات الأضرحة والمقامات الدينية والمدن الأثرية في كل من سوريا والعراق.

وعليه فإن السؤال هنا يتعلق بالدوافع والأهداف أكثر من الأسباب، ولعل من أهم هذه الأهداف:

1 ـ شكلت نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت في السابع من يونيو الماضي صفعة لحكم حزب العدالة والتنمية ونهاية لتفرده بالحكم منذ 13 عاماً، والأهم أنها وضعت ما يشبه نهاية غير متوقعة لأحلام الرئيس رجب طيب أردوغان وتطلعاته الجامحة. ولعل أردوغان يرى أن السبب الرئيسي لهذه الهزيمة السياسية المدوية هو حزب الشعوب الديمقراطية الكردي الذي نال قرابة 13% من الأصوات، وعليه خطط منذ البداية لتجاوز هذه النكبة السياسية ليس بالتخطيط للانتخابات المبكرة فحسب، وانما بمحاولة إعادة ترتيب البيت الداخلي التركي وخلط أوراقه من أجل استعادة ما فقده من الأصوات، وهذا هو الهدف الأساسي للحرب التي قررها أردوغان.

2 ـ الهدف الثاني لهذه الحرب، هو محاولة التقدم خطوة عملية على الأرض تجاه الأزمة السورية، فقضية إسقاط النظام السوري تظل جوهر السياسة الإقليمية لأردوغان، وعليه جاء الاتفاق الأمريكي ـ التركي على وضع قاعدة أنجرليك في خدمة حرب التحالف الدولي ضد داعش مقابل تفهم أمريكي ضمني لإقامة منطقة آمنة على الحدود السورية بين مارع وجرابلس، بطول نحو 100 كم وعمق 40 كم، لتحقيق جملة من الأهداف الحيوية، وهي: قطع الطريق أمام التواصل الجغرافي بين المناطق الكردية في سوريا منعاً لتشكيل إقليم كردي جديد على حدودها الجنوبية، وإيجاد منطقة آمنة للاجئين السوريين تخفيفاً من الأعباء المالية والاجتماعية، وإيجاد منطقة جغرافية آمنة تشكل منطلقاً للمعارضة السورية المسلحة لاسيما جيش الفتح وجبهة النصرة والجيش الحر للانطلاق في عملية نوعية لإسقاط الشمال السوري بالكامل بعد سيطرة هذه القوى على كامل محافظة أدلب، والأهم محاولة جلب واشنطن والحلف الأطلسي للتورط في الأزمة السورية عسكرياً، وإن لم يكن ذلك بالإمكان، فعلى الأقل ضمان دعم هذه الأطراف لهذا المسعى التركي.

3 ـ الهدف الثالث لهذه الحرب، هو محاولة استعادة الدفء إلى العلاقة مع الولايات المتحدة والحد من تداعيات الاتفاق النووي الإيراني ـ الغربي على السياسة الإقليمية لتركيا ودورها في المنطقة. ولعل أنقرة ترى أن المدخل لإعادة هذا الدفء هو الانخراط في الحرب ضد داعش وفتح القواعد التركية أمام قوات التحالف الدولي بعد أن امتنعت عن ذلك طوال الفترة الماضية، إذ يبدو أن مشهد التقارب الأمريكي  ـ الإيراني أثار تركيا بشكل كبير.. فكيف لتركيا الدولة العضو في الحلف الأطلسي منذ عام 1952  والحليف التاريخي لواشنطن أن تجد نفسها خارج المنظومة الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأـوسط، في حين أن ايران الخميني، والتي تصف أمريكا بالشيطان الأكبر، باتت تقترب منها خطوة خطوة، وفي كل خطوة اعتراف بدورها في القضايا المتفجرة في المنطقة، من العراق إلى اليمن، مروراً بسوريا ولبنان والبحرين، فيما تتعرض تركيا للمزيد من التهميش على شكل تناقض في الأجندة والسياسات الإقليمية.

الوسائل والرهانات

تعتقد تركيا، وبشكل أدق أردوغان، أن حربه ضد العمال الكردستاني وداعش ستحقق له جملة من الظروف السياسية الجديدة التي توصله إلى تحقيق أهدافه، وبغية الوصول إلى هذه الظروف لابد من خطوات عسكرية وأمنية وقضائية وسياسية متزامنة للقضاء على الخصوم أو على الأقل إضعافهم وإخراجهم من المعادلة السياسية، ولعل من أهم هذه الخطوات:

1 ـ بموازاة الحرب ضد حزب العمال الكردستاني، تحرك القضاء التركي ضد حزب الشعوب الديمقراطي الكردي عبر اتهام قادته، لاسيما زعيمه صلاح الدين ديمرتاش بالتورط في العنف وتقويض سيادة الدولة التركية، وهي تهم كافية لسجن الرجل لأكثر من 24 سنة.

والهدف الأساسي للحملة القضائية هذه هو حظر حزب الشعوب الديمقراطي قبل التوجه للانتخابات البرلمانية المبكرة، وإن لم يكن ذلك فحظر النشاط السياسي لكبار قادته، بما يجعل الحزب ضعيفاً ومشلولاً، على أمل أن تؤدي هذه الخطوة - إلى جانب الحرب ضد الكردستاني - إلى إرجاع المارد الكردي إلى قمقمه، والتفكير بالتصويت لحزب العدالة والتنمية من جديد حفاظاً على حياتهم، وهذا جل ما يطمح إليه أردوغان للحفاظ على أجندته وطموحاته.

2 ـ يدرك أردوغان أن الحرب ضد الكردستاني وداعش سيزيد من منسوب التوتر الأمني في الداخل التركي على شكل استهداف لمقار الأمن والشرطة وعناصر الجيش والمراكز والمؤسسات الحكومية، وبالتالي الوضع الاقتصادي والسياحي في البلاد؛ وهو عندما يفعل ذلك يدرك أن مثل هذا التوتر سيشد من عصب المواطن التركي نحو حزب العدالة والتنمية بوصفه الأقوى لتحقيق الأمن وإعادة الاستقرار، وهو هنا يريد القول إن الوضع الجديد هذا سببه نتائج الانتخابات، ولا مخرج منه إلا بالتصويت لحزب العدالة والتنمية من جديد، فضلا عن أن الحرب ضد الكردستاني قد يعيد له أصوات الأوساط القومية التي خسرها لصالح حزب الحركة القومية المتطرفة بزعامة دولت باهجلي.

3 ـ إن انخراط تركيا في الحرب ضد داعش يأخذ طابع موازنة الحسابات السياسية، فهي من جهة تشكل مدخلا للحرب ضد الكردستاني بوصف الاثنين يمثلان نفس الإرهاب، مع الإشارة إلى أن الحرب ضد داعش سياسية أكثر مما هي حقيقية، في حين أن الحرب ضد الكردستاني تشكل استراتيجية تركية قديمة ـ جديدة، هدفها منع إقامة دولة كردية في المنطقة.

وهنا ينبغي الإشارة إلى أن الرهان التركي من الحرب ضد داعش يقوم أولا على نفي صحة الأنباء التي تقول إن تركيا تدعم داعش بعد أن نُشرِت مئات التقارير التي تؤكد بالصور والتواريخ والأرقام والأماكن هذا الدعم، وهدف أردوغان هنا هو الداخل التركي أكثر من الخارج، بمعنى إسكات المعارضة التي استغلت هذا الموضوع للنيل منه سياسياً وانتخابياً، وبالتالي سحب هذه الورقة منها في الانتخابات المبكرة. وثانياً إيجاد نوع من التوافق - وبشكل أدق قواعد لإدارة اللعبة - مع واشنطن في كيفية الدفع العملي باتجاه الأزمة السورية بعد أن صمد نظام الأسد كل هذه السنوات.

لتداعيات والتوقعات

ربما لن يحتاج المراقب إلى الكثير من الوقت ليرى أن الانعطافة التركية الجديدة تحمل معها تداعيات خطرة على تركيا، خاصة أن هذه الحرب تبدو خطة سياسية مكشوفة لتحقيق أهداف سياسية تتعلق بالداخل التركي، وتحديداً بحسابات أردوغان السلطوية تلك المتعلقة بالتفرد بالحكم والانتقال إلى النظام الرئاسي. ولعل من شأن هذه الحرب، خاصة وإن طالت أن تؤدي إلى جملة من التداعيات التي ترشح تركيا إلى الدخول في دائرة من العنف وربما تراجع درجة الاستقرار الداخلي، حيث:

1 ـ دون شك، تركيا في حربها المزدوجة على الكردستاني وداعش تضعهما عدوين لدودين في جبهة واحدة ضدها رغم اختلاف أيديولوجية وأهداف وأساليب كل طرف، فداعش الذي التزم الصمت رغم اتهام أنقرة له بالتورط في تفجير بلدة سوروج الذي أودى بحياة 32 ناشطاً متضامناً مع كوباني (عين العرب)، بدأ يحس بانقلاب تركيا عليه واستخدامه كأداة لسياستها الإقليمية، ولعل قادة داعش يتذكرون ما قاله أحمد داود أوغلو في وقت سابق عندما أكد أن التنظيم "مجرد ردة فعل طبيعية من أهل السنة على استبداد النظام في دمشق وفي بغداد"، فيما أصبح داعش اليوم بنظر أوغلو وأردوغان يمثل الإرهاب الأسود، وعليه ينبغي مراقبة رد فعل داعش تجاه تركيا في المرحلة المقبلة.

وعلى مستوى الصراع التركي ـ الكردي، فإن الحرب التركية الجديدة ليست سوى تجدد للفصل الدموي القديم الذي أودى بحياة أكثر من 45 ألف شخص من الجانبين، مع فارق أن الكرد في يومنا هذا تحولوا إلى لاعب إقليمي مهم في الشرق الاوسط، وشريك للولايات المتحدة في محاربة داعش، وقوة سياسية لهم وزن في الداخل التركي وتلقى قضيتهم قبولاً في العديد من الأوساط التركية، بما يعني أن خطوة الحرب قد تأتي بنتائج عكس ما يشتهيه أردوغان، فعلى الأقل، لن يصوت الكرد بعد اليوم لأردوغان مهما حاول التقرب منهم ومهما ضغط على حزب الشعوب الديمقراطية، كما أن استعادة أصوات القوميين التي خسرها ليست مضمونة في ظل لعبته المكشوفة.

2 ـ إن أول ضحايا هذه الحرب هو المواطن التركي وأمنه واقتصاده ومعيشته، فتركيا التي عاشت في ظل هدوء نسبي طوال السنوات الماضية بفضل عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني بدأت تفيق كل يوم على وقع أخبار المواجهات مع مقاتلي الكردستاني والتفجيرات الدموية وقتل جنود جدد ومراسم دفن جثث الجنود الأتراك ودموع الأمهات. وفي كل هذا هناك تحميل للمسؤولية لأردوغان، فيما الأمر على جبهة الاقتصاد لا يقل خطورة وفداحة، لا لأن تركيا بلد سياحي فحسب، بل لأن حركة نشاط الاقتصادي التركي تقوم على الاستثمارات الخارجية والداخلية، وهي استثمارات لن تصمد مع إطالة هذه الحرب، بما يعني تراجعاً للاقتصاد وللعملة ولمعيشة المواطن التركي... وكل ما سبق سيؤثر على رصيد حزب العدالة والتنمية في الشارع، وربما داخل الحزب خاصة بعد ظهور الخلاف بين أردوغان والرئيس السابق عبدالله غل إلى العلن وقرب انعقاد المؤتمر العام للحزب.

3 ـ إن الرهان التركي على استعادة دفء العلاقة مع واشنطن من خلال الانخراط في الحرب ضد داعش، لا يبدو متطابقاً بالكلية مع حسابات السياسة الأمريكية، فالحديث التركي عن اتفاق مع الإدارة الأمريكية لإقامة منطقة أمنية عازلة لا يقابله تأكيد أمريكي، والاختلاف والتناقض بين الجانبين بخصوص الأزمة السورية يبقى قائماً بل ومتجذراً؛ فأنقرة تريد إسقاط النظام السوري، فيما تؤكد واشنطن أن الحل ينبغي أن يكون سياسياً وعبر تفاهم مع الروس، بل إنها باتت تقول لأنقرة إن عليها التمييز بين الحرب على داعش والحرب على الكرد، في إشارة إلى أن واشنطن قد لا تسكت طويلا على حرب تركيا ضد الكرد الذين أثبتوا أنهم حلفاء موثوقين في الحرب ضد داعش.

وفي الواقع، من الواضح أن الحرب التركية ضد الكرد وداعش تبدو أقرب إلى خطة سياسية مكشوفة خاصة لجهة الأهداف، وهي حرب تقوم على رهانات تبدو في نظر الكثيرين ليست خاطئة فقط، وانما قد تجلب تداعيات كارثية لتركيا، إذ إنها تضعها للمرة الأولى في دائرة النار دون أن يعرف أحد كيف ستنتهي، وكيف ستكون تداعياتها على الترك والكرد معاً بعد أن رهن أردوغان الجميع لمصالحه السلطوية.