أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

"دروس فوكوشيما":

كيفية إدارة المخاطر المحسوبة للتقنيات الكارثية في العالم؟

05 يونيو، 2024


عرض: بسنت عادل

تخيل قوة المفاعلات النووية، أو تعقيد منصات الحفر في أعماق البحار، أو البنى التحتية الحساسة للأمن القومي للدول، جميعها أمثلة على تقنيات معقدة ومؤثرة، لكنها تحمل في طياتها إمكانية وقوع كوارث؛ لأنه حتى أكثر عمليات التقييم صرامةً قد تفشل في اكتشاف أخطاء ومخاطر كامنة؛ بسبب طبيعة المعرفة البشرية المحدودة، فاختبارات الهندسة والنماذج الرياضية لا تستطيع توقع كل الاحتمالات.

مع ذلك، فهناك أمل في إدارة مخاطر التكنولوجيا والتعامل معها، كما يرى جون داونر في كتابه "الحوادث المنطقية: كيفية إدارة مخاطر التقنيات الكارثية المعقدة؟"، الصادر عام 2023، فبرغم تشابك أنظمة الطائرات النفاثة وحساسيتها، فقد استطاع الخبراء السيطرة عليها، وجعلها آمنة للغاية؛ بسبب الحجم الهائل لأساطيل الطائرات التي تمكنهم من دراسة إحصائيات الحوادث بدقة ومعالجة المشكلات.

ربما يمكن اتباع نفس الطريقة للتقنيات الأخرى عالية الخطورة، من خلال التضحية ببعض القوة مقابل الأمان ليكون الطريق إلى مستقبل أكثر استدامة، لكنه في النهاية ليس بالأمر السهل. في هذا الإطار، يأخذنا كتاب دوانر في رحلة عبر عالم المعرفة والتقنية، نستكشف خلالها كيف نجح الخبراء في تحقيق مستويات عالية من السلامة في بعض المجالات، مثل الطيران المدني، والطائرات النفاثة، وهل يمكن تطبيق ذلك على المفاعلات النووية؟

كارثة انهيار "فوكوشيما":

يستعرض الكتاب حادث انهيار محطة فوكوشيما النووية عام 2011، الذي طرح فكرة "التقنيات الكارثية"، التي هي أنظمة معقدة تقنياً، وتتطلب درجة عالية من الأمان والسلامة، ويناقش صعوبة إدارة المخاطر المرتبطة بمثل هذه التقنيات، ومنها: تزايد تقديرات التكاليف المالية لحادث فوكوشيما بشكل كبير مع مرور الوقت؛ إذ وصلت في عام 2017 إلى مئات المليارات من الدولارات، دون احتساب التكاليف غير المباشرة الأوسع نطاقاً، وكذلك صعوبة إدارة المعلومات حول المخاطر في مثل هذه الحوادث؛ إذ تميل الجهات المعنية إلى تأخير أو تعليق نشر المعلومات الضارة بافتراض تناقص اهتمام وسائل الإعلام بها مع الوقت، بالإضافة إلى استخدام مقاييس غير رسمية؛ مما قد يزيد الأمور غموضاً بدلاً من توضيحها؛ لأنها تتجاهل حقائق علمية مهمة.

من هنا، يستعرض الكتاب تطور مفهوم سلامة النظم المعقدة عبر الزمن، مع التركيز على الجذور التاريخية والتطورات المفاهيمية الرئيسية في هذا المجال. ففي البداية، تم إجراء دراسات حول عمر خدمة عناصر التحميل المتحركة في القرن التاسع عشر كالسكك الحديدية، ثم أنشأت شركة بيل لابوراتوريز، قسماً متخصصاً في "الجودة" في عشرينيات القرن الماضي لمعالجة تقلبات أداء الصمامات المفرغة؛ مما أدى إلى ابتكار معايير لقياس الأمان والسلامة.

ويلفت الكاتب إلى أن اللغة المستخدمة في التعهدات حول السلامة النووية قد تكون مضللة؛ إذ نادراً ما تؤكد الهيئات الكبرى استحالة وقوع أعطال كارثية، بل تميل إلى تأكيد أن احتمالها ضئيل للغاية، وعلى الرغم من مستويات الثقة والسلامة العالية التي تحققت في الطائرات النفاثة، فإن تطبيقها على أنظمة بأعداد أقل مثل المفاعلات النووية يوحي باحتمال ضئيل جداً لوقوع الكوارث.  

ويسلط الضوء على تعقيدات تحقيق السلامة المطلوبة في التقنيات الكارثية؛ إذ يتم تحليل عمليات التنبؤ بالفشل، والتأكد من استقلالية العناصر المختلفة، والتي يمكن أن تتأثر بسلوك الخبراء، بالإضافة إلى ذلك، يقترح الكاتب استخدام البيانات المتعلقة بالخدمة لفهم العوامل المؤثرة في السلامة والتحديات المرتبطة بتطبيق مفهوم "ceteris paribus" (ثبات باقي العوامل) في بيئات تشغيلية معقدة، كما تبرز أيضاً أهمية تطوير مفاهيم السلامة وتطبيقها في الهندسة، وكيف يمكن أن تسهم هذه الجهود في تحسين الأداء والاستدامة للتقنيات الحيوية في مجال الأمن والسلامة.

ويشير الكتاب إلى أن كارثة فوكوشيما؛ أسفرت عن دروس مريرة بشأن حدود التكنولوجيا النووية، وضرورة تغيير نهجنا تجاهها. فقد كشفت الكارثة عن ثقة مبالغ فيها بمعدلات الأمان المعلن عنها لمحطات الطاقة النووية، وعدم الاستعداد الكافي لمواجهة السيناريوهات الأسوأ، فلطالما اعتقدت الدول أن احتمالات وقوع كوارث نووية كبرى ضئيلة للغاية؛ لدرجة استبعادها عملياً من خططها الطارئة. غير أن فوكوشيما أثبتت أن المستحيل يمكن أن يحدث، وأن التقديرات المعتمدة على الخبراء قد تكون خاطئة؛ ومن ثم يجب أن تكون الدروس المستفادة واضحة؛ بأنه "لا توجد ضمانات مطلقة في عالم المخاطر"، ويتعين على الحكومات والشركات إعادة تقييم معاييرها وخططها الطارئة بشكل جذري، مع الأخذ بعين الاعتبار السيناريوهات الأكثر تطرفاً.

نموذج سلامة الطائرات: 

يتحدث الكاتب عن أن سلامة الطائرات النفاثة تُعد ظاهرة فريدة وجديرة بالاهتمام العلمي؛ إذ تتمتع بمستويات عالية من الأمان والسلامة الاستثنائية، وعلى الرغم من وجود بعض الحوادث غير المميتة، فإن معدلات تحطم الطائرات النفاثة تُعد منخفضة للغاية مقارنةً بوسائل النقل الأخرى؛ مما يجعلها وسيلة آمنة وفعالة لنقل الركاب لمسافات طويلة. على سبيل المثال، تستطيع طائرة "إيرباص A380" حمل كمية هائلة من الوقود تصل إلى 320 ألف لتر؛ مما يدل على قدرتها على السفر لمسافات طويلة دون الحاجة إلى التزود بالوقود بشكل متكرر، وقد ظلت بعض طائرات الركاب، مثل طائرة "بوينغ 737-200"، تعمل بانتظام لأكثر من 47 عاماً؛ مما يشير إلى متانتها وقدرتها على تحمل التشغيل لفترات طويلة.

وعلى الرغم من وجود بعض الحوادث غير المميتة، مثل رحلة الخطوط الجوية الفرنسية 66، فإن حوادث تحطم الطائرات النفاثة نادرة للغاية بالمقارنة مع وسائل النقل الأخرى، فعلى سبيل المثال، لم تشارك طائرة "بوينغ 747"، منذ طرحها عام 1970، إلا في 34 حادثاً؛ أدت إلى سقوط عدد محدود من الضحايا، وذلك بعد قيامها بأكثر من 17 مليون رحلة وقطع مسافة تراكمية تزيد عن 42 مليار ميل بحري، مع ذلك؛ يُلاحظ أن هذا السجل الاستثنائي من السلامة لا يعني أن الطائرات النفاثة خالية من المخاطر تماماً، فالحوادث، على الرغم من ندرتها، قد تسبب خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات.

إذ تواجه الطائرات النفاثة تحديات كبيرة في مجال السلامة، لذلك، يقدم الكتاب نظرة شاملة على جوانب السلامة في الطيران، من التصميم إلى التشغيل، مع تحليل للحوادث البارزة، والمفاهيم الرئيسية المستخدمة لضمان سلامة الرحلات الجوية، كما يبرز الفلسفة التي تتبناها إدارة الطيران الفدرالية بشأن "التصميم الآمن المتعدد المستويات"، ويسلط الضوء على أهمية معالجة الأخطاء البشرية وتأثيرها في أنظمة السلامة بالطائرات.

يستعرض الكتاب أيضاً نظرية الحوادث الطبيعية، ويقارنها بالحجة التي تربط بين عدم اليقين في الاختبارات والنماذج، مع توضيح كيف يمكن لهذه المفاهيم أن تسهم في فهم حوادث الطيران، وتحسين سلامة الطيران في المستقبل، كما يقدم تحليلات شاملة للحوادث الجوية البارزة، مثل، حادثة الخطوط الجوية البريطانية 009 وغيرها، لفهم الأسباب والعوامل التي تؤدي إلى تلك الحوادث ودروس السلامة المستفادة منها، وتبرز أيضاً أهمية إدارة المخاطر وتطبيق السياسات الأمنية الصارمة في صناعة الطيران لتقليل مخاطر الحوادث الجوية.

تحديات الطيران التجاري:

تتبع عملية إطلاق الطائرات التجارية الجديدة إشرافاً صارماً من قبل إدارة الطيران الفدرالية الأمريكية، وتُعد هذه الإدارة مسؤولة عن وضع مجموعة من القواعد واللوائح الصارمة التي يجب على شركات صناعة الطائرات الالتزام بها؛ لضمان سلامة وموثوقية الطائرات الجديدة، تشمل هذه العملية فحصاً دقيقاً للمستندات والرسومات الهندسية والتقارير الفنية بكميات هائلة، بالإضافة إلى إجراء اختبارات وحسابات معقدة لتقييم احتمالية فشل أو تعطل أنظمة الطائرة المختلفة، مثل: المحركات والأجنحة والكهرباء وغيرها.

مع ذلك، تواجه هذه العملية بعض التحديات، مثل: عدم وضوح التعريفات لبعض المصطلحات الفنية المستخدمة وصعوبة إجراء حسابات دقيقة لاحتمالية الفشل، ورغم ذلك، تعمل الإدارة على تطبيق إجراءات صارمة قدر المستطاع لضمان أقصى درجات السلامة للطائرات الجديدة. ويهدف هذا الجهد إلى السماح فقط بإطلاق الطائرات التي تستوفي جميع المعايير والاشتراطات اللازمة للحفاظ على سلامة وأمان المسافرين وأطقم الطائرات، وقد أظهرت إحصائيات السلامة الجوية انخفاضاً ملحوظاً في معدلات حوادث الطائرات التجارية خلال العقود الماضية، ويرجع هذا التحسن إلى التطورات التكنولوجية والتحسينات في معايير السلامة والصيانة والتدريب.

وبالرغم من وجود بعض التحديات الأخرى، مثل: العوامل البشرية والظروف الجوية والأعمال الإرهابية، فإن مستقبل الطيران التجاري يبدو واعداً مع استمرار التطورات التكنولوجية والتركيز على تحسين السلامة، ويشير الكاتب إلى أن الاصطدامات بالطيور تُعد أحد التحديات الرئيسية التي تواجه سلامة الطيران، خاصة فيما يتعلق بالطائرات التجارية؛ إذ يقوم الجيش الجوي الأمريكي، الذي يعمل بشكل منتظم على ارتفاعات أقل، بتحمل تكاليف أعلى نسبياً بسبب تكرار هذه الاصطدامات؛ مما يؤدي إلى خسائر بشرية ومادية جسيمة. 

وتُظهر الأبحاث أن الطيور غير قادرة على تجنب الأجسام ذات الحركة السريعة بشكل فعال؛ مما يؤدي في بعض الأحيان إلى حوادث خطرة، لذلك تم تشديد التشريعات فيما يتعلق بتقييم سلامة المحركات، بما في ذلك اختبارات جديدة تضم فئة إضافية من الطيور الكبيرة، بالإضافة إلى ذلك؛ يظهر البحث أن كثافة حركة الطيور تتناقص مع ارتفاع الطائرات؛ مما يؤدي إلى تقليل احتمالية وقوع حوادث الاصطدامات في الأعلى.

معايير السلامة والابتكار:

يُظهر الكتاب أن تطور القواعد والمعايير المتعلقة بسلامة الطيران يتطلب الاطلاع المستمر على التقنيات الجديدة والتحديثات الهندسية، ويشدد على أهمية التعلم والتحسين المستمرين في مجال الطيران؛ لضمان سلامة الرحلات وتقليل مخاطر الحوادث، ويرى المؤلف أن الابتكارات في تصميم الطائرات تأتي على حساب السلامة، فالتقنيات المبتكرة مثل: المواد المركبة والتصاميم الثورية للطائرات العسكرية وفائقة الصوت، رغم إثارتها للإعجاب، فإنها تزيد من احتمالية الأعطال والمخاطر.

كما يُسلط الضوء على بعض القضايا والتحديات التي تواجه المؤسسات والخبراء في مجالات مثل: الهندسة والتصميم، والتي قد تؤثر في سلامة المنتجات مثل الطائرات، فغالباً ما تسعى المؤسسات إلى إخفاء بعض المعلومات الحساسة عن الجمهور العام، كالمخاوف والخلافات بين الخبراء، من خلال تصنيفها كـ "مسودات" لتجنب الإفصاح عنها. كما لوحظ في بعض الحالات، غرور بعض المؤسسات وإيمانها المفرط بقدرة التكنولوجيا على التغلب على كل المشكلات، متجاهلة احتمال حدوث أخطاء رغم كل الجهود، وهذا يبرز التحديات التي تواجه نمذجة وتحليل الأشياء بدقة، وإخفائها أحياناً عن الجمهور. هذه النقاط تظهر أهمية الشفافية والتواضع في التعامل مع التحديات التقنية المعقدة، وضرورة الاعتراف بمحدودية المعرفة البشرية واحتمالية وقوع أخطاء؛ لضمان أقصى درجات السلامة في قطاعات حساسة مثل صناعة الطيران.

يختتم الكاتب، بأنه منذ بداية عصر الطيران، أصبحت الطائرات النفاثة رمزاً للتقدم التكنولوجي والموثوقية المتناهية، وغالباً ما يُشار إليها في نقاشات سلامة المفاعلات النووية كدليل على إمكانية السيطرة على التقنيات المعقدة؛ إذا تم تصميمها وتشغيلها بشكل صحيح. لكن هل هذه المقارنة صحيحة حقاً؟! فهناك بالفعل بعض أوجه التشابه بين الطائرات والمفاعلات، فكلاهما يمثل تحدياً هندسياً معقداً، ويتطلب مستويات عالية من سلامة التشغيل الآمن لعقود من الزمن، كما تخضع كلتا التقنيتين لرقابة وحوكمة صارمة من قبل هيئات تنظيمية متخصصة.

لكن عند النظر عن كثب، تظهر اختلافات جوهرية في موثوقيتهما، فالخبرة التشغيلية المتراكمة للطائرات النفاثة تفوق بكثير تلك المتعلقة بالمفاعلات النووية؛ إذ تحلق عشرات الآلاف من الطائرات يومياً، مقابل أقل من 500 مفاعل نووي عامل حالياً حول العالم، هذا الفارق الهائل في الأعداد يتيح جمع بيانات أكثر دقة وشمولية عن موثوقية الطائرات، ويمكّن المهندسين من اكتشاف نقاط الضعف وإجراء تحسينات منهجية على التصميمات بمرور الوقت.

أما بالنسبة للمفاعلات النووية، فإن محدودية البيانات والاختلافات الكبيرة في التصميمات؛ تجعل من الصعب استخلاص دروس موثوقة وتطبيقها على نطاق واسع؛ لذلك، على الرغم من الادعاءات المتكررة بموثوقية المفاعلات المتطورة، لا يزال هناك شك كبير حول مدى صحة هذه الادعاءات، خاصة إذا قورنت بسجل السلامة المثبت للطائرات النفاثة، ومن المؤسف تجاهل صناع القرار لهذا الشك الوجيه قبل كارثة فوكوشيما؛ مما أدى إلى نتائج مدمرة.

المصدر:

John Downer, Rational accidents: reckoning with catastrophic technologies, (MIT) Press, 2023.