أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

تصدعات العولمة:

المحتوى الإعلامي العالمي.. هل تتراجع الهيمنة الرأسمالية؟

06 مايو، 2024


عرض: عبدالمنعم علي

بينما تواجه العولمة اتجاهاً متراجعاً في السياق الدولي الراهن بفعل التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية في العالم، يتصاعد النقاش حالياً حول مدى استمرارية أو تغير الهيمنة الثقافية الغربية على إنتاج المحتوى الإعلامي العالمي؛ إذ أخذت تلك الهيمنة طابعاً إمبريالياً خلال العقود الثلاثة الماضية، عبر بناء تحالفات متماسكة بين سياسات الحكومات الغربية، ووسائل الإعلام والرأسمالية العابرة للحدود، والتي لا يمكن فصلها عن توغلاتها أيضاً للسيطرة على مجالات أخرى عسكرية وبيئية واجتماعية ورقمية وغيرها.

 في هذا السياق، تأتي أهمية كتاب: حوارات وسائل الإعلام العالمية.. الصناعة والسياسة والثقافة، والذي حرره وقدَّم له الباحث ولي آرتز، وتضمن دراسات لخبراء آخرين، تناقش أثر حالة الهيمنة الرأسمالية الغربية على الإنتاج الإعلامي العالمي الذي يتجاوز الثقافات والهويات الوطنية، في ظل بروز حركات اجتماعية عالمية تطالب بالمساواة والديمقراطية. كما يتساءل عن مدى إمكانية تراجع تلك الهيمنة الغربية في ظل تصدعات العولمة والدعوات إلى التعددية العالمية، وعدم سيطرة فئة قليلة على محتوى الإعلام العالمي.

عولمة تحت سيطرة الأقلية:

أخذ مفهوم العولمة الأسبقية على العديد من المفاهيم القديمة لوصف طبيعة العلاقات الدولية، بما في ذلك تصورات العلاقة بين المركز والأطراف، التي أكدت اختلافات القوة، ضمن الولاء الشامل لأفكار الأمة والسيادة الوطنية. وتميل نظريات العولمة إلى تقليل أهمية الدول والأمم، إلا أن ثمة نقاطاً كاشفة لمدى تصدع العولمة وغياب تطبيق مبادئها ومرتكزاتها، بل واستحواذ مجموعة صغيرة عليها، وذلك كالتالي:

- عودة النزعة الوطنية في الصراع الغربي مع روسيا والصين: هناك غياب لتطبيق مبادئ العولمة، التي تستند إلى "الليبرالية الجديدة"، وهي التخفيض الاستباقي للقيود السياسية المفروضة على النشاط الاقتصادي العالمي في مجالات التمويل والأعمال والتجارة. يدلل على ذلك مؤشرات الصراع بين القوى الغربية (الولايات المتحدة، وأوروبا) وروسيا بشأن أوكرانيا؛ إذ تمت صياغة الدفاع الغربي عن أوكرانيا من خلال منطق حماية السيادة الوطنية للأخيرة، في حين بررّت روسيا غزوها لأوكرانيا عام 2022 على أنه حماية لمصالح أمنها القومي. 

من قبل ذلك، أدى وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية في عام 2016، وما تبعه من تبني سياسات تجارية حمائية متبادلة بين الولايات المتحدة والصين، إلى حدوث اضطراب كبير بسبب التعريفات الجمركية التي بشرت بتراجع العولمة الاقتصادية. وعزز ذلك محاولة القوى الغربية فرض الرقابة على الصين وحليفتها روسيا في كل النواحي؛ مما أسفر عن تجدد الانقسام في العلاقات الدولية بين "الغرب" و"الشرق".

- سيطرة مجموعات صغيرة على الاقتصاد العالمي: قد يبدو حجم النشاط الاقتصادي العالمي، وكأنه يدعم الافتراض القائل إن الدول القومية ليست ذات أهمية؛ إذ يتركز هذا النشاط في يد مجموعة صغيرة من الدول، كما تسيطر عليه داخل تلك الدول أقلية من الشركات الرأسمالية العابرة للحدود. وتقف وراء تلك الشركات أيضاً مجموعة صغيرة نسبياً من الأفراد الأثرياء الذين يمتلكون حصة غير متناسبة إلى حدٍ كبير من الثروة العالمية. ففي عام 2017، كانت نحو 2000 شركة متعددة الجنسيات في العالم تسيطر على 65% من القيمة السوقية العالمية، وكانت أمريكا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا) تمثل 44% من القيمة السوقية لسوق الأوراق المالية، و22% لأوروبا. وظلت الشركات المتعددة الجنسيات العاملة في قطاعات الطاقة/ المواد الخام والسيارات، هي الأكثر عدداً، لكن من حيث الأرباح، احتلت شركات التمويل والإلكترونيات المراتب الأولى.

وفي عام 2011، حلل المعهد الفدرالي السويسري للتكنولوجيا، الشركات عبر الوطنية في العالم البالغ عددها 43060 شركة وملكية الأسهم المرتبطة بها؛ ليكشف عن وجود نواة مهيمنة مكونة من 147 شركة، معظمها بنوك مقرها في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية والصين واليابان، تمثل 20% من إجمالي إيرادات التشغيل العالمية، وتمتلك كل منها حصصاً متشابكة مع بعضها بعضاً، وتسيطر معاً على 40% من الثروة، وهو ما يبرز أن هناك تنامياً لدور المستثمرين على أهمية الملكية.   

الهيمنة الإعلامية: 

تباينت ملكية وإدارة وسائل الإعلام في العالم بين رأس المال الخاص الذي استهدف الربح منها، والحكومات التي سعت إلى الخدمة الإعلامية العامة غير الربحية. وخدمت تلك الوسائل مصالح أصحابها في تراكم رأس المال أو سياسات ومصالح حكومات معينة، من خلال توفير المعلومات، والتعليم، والخدمات الترفيهية أو بيع المطبوعات، أو البث الإذاعي. وأدت وسائل الإعلام الوطنية دوراً أساسياً في تكوين هوية الدولة القومية الحديثة. 

مع انتشار العولمة، ترابطت صناعات الإعلام والمعلومات والاتصالات، خاصة مع توفر البنية التحتية المادية للاتصالات العالمية مثل: الكابلات البرية وتحت سطح البحر، الأقمار الاصطناعية وأنظمة التوصيل عبر الأقمار الاصطناعية، والشبكات اللاسلكية، محطات الاتصالات السلكية واللاسلكية، بما في ذلك الإنترنت والهاتف. تضافر هذا السياق مع هيمنة الشركات العابرة للجنسيات على الاقتصاد العالمي؛ لتصبح وسائل الإعلام أحد مجالات تراكم رأس المال العالمي، وتكتسب شكل تكتلات الوسائط المتعددة الكبيرة والعابرة للوطنية، ومن خلال تمثيلات أنماط الحياة في محتواها، فإنها تؤدي إلى تأثير "عرضي" يحفز الطلب المستمر على السلع والخدمات؛ ومن ثم يؤثر في تنامي النزعة الاستهلاكية الداعمة للرأسمالية العالمية. 

من جانب آخر، تقوم وسائل الإعلام بتعزيز الأسس الأيديولوجية عبر الترويج للمحتوى الذي يخدم بشكلٍ متزايد مصالح الرأسمالية العالمية؛ عبر دعم الإلغاء التدريجي للقيود الوطنية المفروضة على التجارة في السلع والخدمات وتعزيز التسويق والفردية والاستهلاكية، مع تهميش أو استبعاد المحتوى الذي لا يفعل ذلك، وهي أيضاً توفِّر دعماً مهماً نحو تطوير "مجتمع المراقبة" أو بعبارة أخرى، للمجموعة المركزية من المعلومات الاستخبارية الأكثر تفصيلاً، والتي يمكن الوصول إليها على الفور. من هذا المنظور تعمل وسائل الإعلام كوكلاء للإمبريالية أو الفئات الاقتصادية الرأسمالية المهيمنة على الصعيدين المحلي والدولي.

أدت وسائل الإعلام العالمية أيضاً أدواراً في دعم السياسات الليبرالية الغربية وعولمتها مثل: الحرب على الإرهاب، والحرب بالوكالة بين القوى الغربية (الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي)، وروسيا والصين. هنا يشير الكتاب إلى أن وسائل الإعلام دعمت التحالف الأمريكي الأوروبي في النظام الدولي خلال القرن العشرين، فمثلاً تم تبرير التدخلات العسكرية للولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة على أنها إنقاذ لـ "العالم الحر" من الأشكال الشيوعية الصينية والسوفيتية حينها. 

الرأسمالية المتكاملة: 

مع تضافر السياسات النيوليبرالية الغربية والمحتوى الإعلامي العالمي، أصبحت الرأسمالية العالمية نظاماً عالمياً متكاملاً ومتماسكاً بشكلٍ وثيق، وتبعها تدفق الأموال والأفكار والصور والثقافة عبر الحدود في جميع أنحاء العالم عبر المسارات الإلكترونية لوسائل الإعلام وتكنولوجيا المعلومات. حدثت هذه التغييرات تحت سيطرة وتوجيه الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود، بناءً على ملكيتها لوسائل الإنتاج الرئيسية والتمويل والتكنولوجيا والإعلام.

في هذا الإطار، بدت هناك حالة تقارب بين الحاجة السياسية للرأسمالية العالمية للسيطرة الاجتماعية، وحاجتها الاقتصادية لاستمرارية السيطرة على الموارد لتراكم الثروات في مواجهة الركود؛ بما يجعل لديها القدرة على خلق الاستقرار السياسي والاجتماعي للرأسمالية العالمية. وفي سبيل تكريس نفوذ الرأسمالية، تم إنشاء منظمة عالمية هي الاتحاد الديمقراطي الدولي، الذي يضم في عضويته 72 حزباً يمينياً من مختلف أنحاء العالم، 20 منهم في السلطة. في الوقت ذاته، تمددت الرأسمالية العالمية إلى العديد من القطاعات المختلفة في العالم لتحقيق هدف التكامل والسيطرة، من أبرزها:

- الرأسمالية العسكرية: يشكل التراكم العسكري وسيلة لتكريس الهيمنة العالمية، ويمتزج التاريخ العسكري بالبُعد الأيديولوجي والثقافي والرأسمالي، وفي هذا الإطار استثمرت كل المؤسسات المالية الكبرى في العالم، المليارات في الشركات العسكرية الأمريكية الثلاث الكبرى (بوينغ، ولوكهيد مارتن، ونورثروب غرومان) بنحو 120 مليار دولار، كما يتم ضخ مبلغ إضافي قدره 700 مليار دولار من الإنفاق السنوي للحكومة الأمريكية إلى المجمع الصناعي العسكري.

- الرأسمالية المناخية: تم تأسيس الشركات الكبرى في مجال الطاقة المتجددة والنظيفة في الولايات المتحدة الأمريكية؛ بهدف إنشاء قواعد جديدة للتراكم الرأسمالي العالمي ضمن نظام نيوليبرالي واسع النطاق، ويتمثل الهدف المعلن لرأسمالية المناخ على المدى الطويل في تحويل التدفقات المالية من قطاعي النفط والفحم وإعادة توجيهها لدعم التحديث البيئي لعملية الإنتاج الرأسمالي.  

- الرأسمالية الرقمية: تمدد نهج الهيمنة الإعلامية المدعومة من الرأسمالية العالمية إلى مجال وسائل الاتصال والتكنولوجيا والاقتصاد الرقمي؛ إذ سعت الولايات المتحدة إلى السيطرة على هذا المجال لدعم قوتها العالمية. من هنا، برز ما أسماه الكتاب "إمبريالية المنصة"؛ أي الإمبريالية الجديدة المستندة إلى ظهور المنصات الرقمية وسلطتها على إنشاء المحتوى الإعلامي والتحكم فيه وتداوله في جميع أنحاء العالم، وهو ما عبر عنه صعود عمالقة تكنولوجيا الإنترنت مثل: (ميتا، أمازون، أكس، آبل) ليصنع شكلاً جديداً من أشكال الهيمنة أو الديناميكية الجديدة للرأسمالية العالمية. وأصبحت المنصات الرقمية الأمريكية فاعلة مهيمنة في هذا المجال؛ خاصةً أن هذه المنصات لا تعمل كموزعين فحسب، بل كمنتجين أيضاً، بما يؤثر بطبيعة الحال في تحول مفهوم الإمبريالية الثقافية إلى إمبريالية المنصة.

ختاماً، يشير الكتاب إلى أنه يتم توظيف المحتوى الإعلامي العالمي بصورة رئيسية في سبيل تحقيق مصالح النظام الرأسمالي والنيوليبرالية الغربية في المجالات المختلفة السياسية والاقتصادية والعسكرية والبيئية والمناخية؛ إذ باتت هناك صور للهيمنة الإعلامية التي تُستخدم لخدمة الطبقة الرأسمالية، ناتجة عن تحكم فئة قليلة جداً في أدوات ووسائل الإعلام العالمية، وهذا الأمر يتطلب العمل أكثر من جانب المفكرين والمنظرين من أجل وضع نظام أكثر ديمقراطية لوسائل الإعلام الإخبارية والترفيهية مع إمكانية الوصول إلى الإنتاج والتوزيع للجميع، ولاسيما مع التغيرات الراهنة في النظام الدولي، وسعي قوى دولية خاصة غير غربية إلى التعددية الثقافية والسياسية والإعلامية في العالم.

المصدر:

Lee Artz, Global Media Dialogues: Industry, Politics, and Culture, 1st Edition, Routledge, 2024.