أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

بين الانتقاد والمؤامرة:

اتجاهات الخطاب المناهض لفرنسا في إفريقيا الفرنكوفونية

05 ديسمبر، 2023


عرض: دينا محمود

تصاعدت الخطابات المناهضة للسياسة الفرنسية خلال السنوات الأخيرة في الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية (الفرنكوفونية)، ورافق ذلك أحياناً مظاهرات عنيفة ضد الشركات والمنظمات الدبلوماسية والثقافية الفرنسية، بل وصل الأمر إلى حد تهديدات المقيمين الفرنسيين، إذ بات هناك اتجاه متزايد في هذه الدول يَعتبر السياسة الفرنسية استعماراً جديداً، وهو ما يظهر على الشبكات الاجتماعية وفي تصريحات أنصار حركة الوحدة الإفريقية الجديدة.

في هذا الإطار، تستهدف دراسة صادرة عن "المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية" في العام 2023 لـتييري فيركولون وآخرين، تحليل الخطاب المناهض لفرنسا على شبكات التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام الإفريقية، وكيف أصبحت مقولة "المؤامرة الفرنسية ضد إفريقيا" محل قبول واسع في الداخل الإفريقي، إذ تعمد بعض القيادات الإفريقية إلى توظيفها كأداة سياسية تعزز موقفها الداخلي، كما ركزت الدراسة على الدور الأساسي لحركة "الوحدة الإفريقية الجديدة"، وعلاقتها ببعض القوى الدولية، ولاسيما روسيا.

انتقادات حادة:

ثمة ثلاثة انتقادات أساسية للسياسة الفرنسية في الدول الإفريقية الفرنكوفونية، أولها، أنه يُنظر إلى الفرنك الإفريقي كأداة للهيمنة الفرنسية، ثانيها، يعتبر الكثيرون أن مساعدات التنمية تستهدف تعزيز نفوذ باريس في القارة من خلال دعم الأنظمة الموالية لها وليس سكان هذه الدول، ثالثها، يُنظر إلى وجود القواعد العسكرية الفرنسية كأداة استعمارية جديدة. ويمكن تفصيل هذه الانتقادات على النحو التالي:

1- التدخل العسكري: يشكل التدخل العسكري سمة رئيسية من سمات سياسة فرنسا في إفريقيا، وهي تثير القدر الأكبر من الاستهجان. فمنذ الاستقلال، كانت إفريقيا المنطقة المفضلة للتدخلات العسكرية الفرنسية، من خلال اتفاقيات التعاون العسكري والدفاعي مع الدول الإفريقية والوجود العسكري الدائم في القارة. فما بين عامي 1960 و1963، وقَّعت فرنسا عشرات الاتفاقيات الدفاعية مع الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية المستقلة حديثاً، ومع مرور الوقت، انخفضت القواعد العسكرية الفرنسية بشكل كبير، إذ لا يوجد الآن سوى أربع قواعد دائمة (داكار، أبيدجان، ليبرفيل، جيبوتي).

وعلى الرغم من الاتجاه التنازلي التاريخي للوجود العسكري الفرنسي في إفريقيا، فإن نزعة التدخل لم تتضاءل، إذ كشفت وزارة الدفاع الفرنسية عن حوالي 52 تدخلاً عسكرياً في إفريقيا في الفترة من 1964 إلى 2014. وكانت أكثر الحملات العسكرية تعرضاً للانتقاد هي حملة تركواز (رواندا، 1994)، وليكورن (ساحل العاج، 2002-2015)، وهرماتان (ليبيا، 2011). فقد شوهت الأولى صورة فرنسا الدولية من خلال ربطها بآخر إبادة جماعية في القرن العشرين، فيما أفضت الحملتان الثانية والثالثة إلى طرد الرؤساء الأفارقة، مما أعطى مصداقية لفكرة أن باريس أنشأت الأنظمة وهزمتها بالقوة، وتمخض عنها شكل جديد من أشكال التحرر ومطالبات باستقلال جديد.

2- الفرنك الإفريقي: في عام 1960، حل فرنك الجماعة المالية الإفريقية (FCFA) محل فرنك الجماعة المالية الفرنسية في إفريقيا (1958-1960)، ويعتمد ذلك على اتفاقيات التعاون النقدي التي أبرمتها باريس مع عدد من دول القارة، والتي تنص على التعادل الثابت للفرنك الإفريقي مع الفرنك الفرنسي ومن ثم اليورو، وإيداع جزء من العملات التي تحتفظ بها الدول الأعضاء في منطقة الفرنك في حساب الخزانة الفرنسية، وتمثيل فرنسا في هيئات البنك المركزي لدول غرب إفريقيا وبنك دول وسط إفريقيا.

وإذا كان قانون (FCFA) موضوعاً لانتقادات فنية من قِبَل خبراء الاقتصاد، فإن الانتقادات السياسية هي الأكثر حِدة، إذ يُنظر للفرنك الإفريقي كأداة استعمارية جديدة، وعلى الرغم من مشروع إعادة تسمية (FCFA) بـ(Eco)، الذي أعلنه الرئيسان الفرنسي والإيفواري في أبيدجان في ديسمبر 2019، فإنه يظل فعلياً مجرد تغيير شكلي. لذا فالإصلاحات المحدودة التي انبثقت عن هذا التغير لم تكن مقنعة، وفي نهاية المطاف، لم يضع إصلاح 2019 حداً للانتقادات الموجهة ضد "الاستعمار النقدي".

3- مساعدات التنمية: تفتقر سياسة مساعدات التنمية التي تقدمها فرنسا للمصداقية في الداخل الإفريقي، فخلال القمة الإفريقية الفرنسية في أكتوبر 2021، ندد ممثلو الشباب الإفريقي بهذه السياسة باعتبارها تسعى إلى تحقيق عائد خفي على الاستثمار، سواءً أكان اقتصادياً، أم سياسياً، أم عسكرياً. كما عززت هذه المساعدات مصداقية فكرة التواطؤ بين المانحين ومن هم في السلطة. كما تم انتقادها باعتبارها سياسة مصلحة، في حين أنها بالنسبة لغالبية الرأي العام في البلدان المتلقية، واجب لا يمكن أن يخضع لأي هدف من أهداف الجهة المانحة، وذلك لإصلاح الماضي والتخفيف من وطأة الأزمات. 

توظيفات المؤامرة: 

شكلت الانتقادات الموجهة للسياسة الفرنسية في إفريقيا المكون الرئيسي لفكرة "مؤامرة فرنسا ضد إفريقيا"، والتي تم توظيفها من قبل من هم في السلطة أو المعارضة في المجال السياسي الإفريقي، وذلك كما يلي:

1- التنصل من مسؤولية الفشل: لعدة عقود من الزمن، كان انتقاد السياسة الفرنسية بمثابة الفكرة المهيمنة على القادة والمعارضين الأفارقة. فقد تكون البلدان الإفريقية مفلسة، وإداراتها فاشلة، واقتصادها في حالة خراب، وتواجه استياءً قوياً بين سكانها، بينما تختار حكوماتها إلقاء اللوم في وضعها العام على فرنسا وجعلها "كبش فداء" منهجي لمصائبها الماضية والحاضرة وحتى المستقبلية. ومن خلال إدانتها لـ"المؤامرة الفرنسية"، تقدم تلك الحكومات تفسيراً جاهزاً للسخط الشعبي، ومن ثم التنصل من المسؤولية.

وتم استغلال الاستياء من السياسات الفرنسية كمصدر سياسي من قبل القادة الأفارقة للتهرب من مسؤولياتهم في مناسبات متعددة خاصةً في السنوات الأخيرة، فعندما ظهر تنظيم "بوكو حرام" في شمال الكاميرون عام 2014، أوضحت بعض الجهات السياسية والإعلامية في هذا البلد أن تلك كانت مؤامرة ضد النظام دبرتها فرنسا والنخب الكاميرونية في هذه المنطقة. ولا تستخدم "المؤامرة الفرنسية" في تفسير الصراعات فحسب، بل إنها تُستخدم أيضاً في تبرير التجاوزات المناهضة للديمقراطية من جانب بعض الرؤساء. ففي عام 2017، أعلن الرئيس التشادي السابق إدريس ديبي، أن التغيير في الدستور الذي يسمح له بالبقاء في السلطة تم إعداده دون علمه من قبل السلطات الفرنسية، وأنه تنازل عن السلطة بسبب ضغوط من الحكومة الفرنسية. وعلى جانب المعارضة الإفريقية، غالباً ما يسود الخطاب نفسه بشأن "المؤامرة الفرنسية"، واتهام من هم في السلطة بالتواطؤ مع السياسة الفرنسية.

2- اتهام فرنسا وقت الأزمات: تشكل إفريقيا الوسطى على وجه الخصوص بيئة خصبة ونموذجاً مثالياً لنضج الاستياء القوي ضد السياسة الفرنسية واستغلال ذلك سياسياً. ففي هذا البلد، استمر هذا الاستياء لعدة عقود من قبل السلطات الحكومية وأصبح الآن محدداً ضرورياً في الخطاب العام. وكثيراً ما أدان العديد من الرؤساء السابقين لإفريقيا الوسطى المؤامرة الفرنسية بمجرد شعورهم بالتهديد من قبل التمردات المسلحة. على المنوال ذاته، عادت الخطابات المناهضة لفرنسا لدى القادة إلى الظهور في بانغي خلال رئاسة تواديرا، وأدت إلى ظهور مواقف، خاصة على شبكات التواصل الاجتماعي، تفاقمت بسبب تحالف السلطات الحكومية مع روسيا، ومجموعة فاغنر.

وفي جمهورية إفريقيا الوسطى ودول إفريقية أخرى، تزامن تفاقم الخطاب المناهض لفرنسا مع تقارب هذه الدول مع روسيا، وشهد عام 2018 ولادة عالم إعلامي معادٍ للفرنكوفونية ومؤيد لروسيا في وسط إفريقيا، وهو ما يُعزى للدور الكبير الذي أدته مجموعة فاغنر في التغطية الإعلامية المفرطة للمشاعر المعادية لفرنسا. ولوحظ هذا التزامن بين التضخيم الإعلامي للخطاب المناهض لفرنسا والتقارب مع روسيا في دول أخرى مثل، مالي وبوركينا فاسو وجمهورية الكونغو الديمقراطية.

3- شبكات التواصل الاجتماعي: قامت شركة (Bloom Social Analytics) بجمع كل الإشارات إلى بوركينا فاسو ومالي والمصطلحات المرتبطة بهذه البلدان (أسماء العواصم والشخصيات المحلية وما إلى ذلك) على شبكات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، يوتيوب، تيك توك، إنستغرام) بين يونيو 2022 ويناير 2023، وكذلك جميع التفاعلات المرتبطة بها، إذ تم جمع أكثر من 3 ملايين منشور نتج عنها أكثر من 57 مليون مشاركة (إعجابات، مشاركات، وما إلى ذلك). ففي بوركينا فاسو، مثلاً، يشكل الجمهور المؤيد لروسيا على موقع يوتيوب مركز التفاعلات المناهضة لفرنسا ويغذي المحادثات من خلال تعليقات الفيديو. وتوضح التحليلات أن هذا الجمهور يعمد إلى مهاجمة وسائل الإعلام الفرنسية (عبر التعليقات تحت المنشورات) أو تضخيم محتوى أنصار الوحدة الإفريقية المؤيدين لروسيا، أو دعم وتشجيع المجلس العسكري في بوركينا فاسو.

حركات مناهضة 

تُعد حركة "الوحدة الإفريقية" -حركة فكرية وسياسية إفريقية وأمريكية شمالية- تدعو إلى الاستقلال الحقيقي لإفريقيا والتضامن بين الشعوب الإفريقية والمنحدرين من أصول إفريقية، وتشهد هذه الحركة انتعاشاً، وغالباً ما يشار إليها باسم الوحدة الإفريقية الجديدة. ويتم تضخيم الخطابات المناهضة لفرنسا من قبل أنصار هذه الحركة، الذين يقدمون مزيجاً من الأفكار التي تجمع بين المؤامرة والشعبوية والتضليل وكراهية الأجانب. وبُثَّت هذه الأفكار عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وسرعان ما تحولت من إدانة السياسة الفرنسية إلى كراهيتها. ويلاحظ أن هناك تقارباً كبيراً للمصالح بين أعضاء الحركة الإفريقية الجديدة وروسيا، إذ يتهمهم البعض بالعمالة لموسكو.

في هذا الإطار، يُعد كيمي سيبا، من بين القوميين الأفارقة الجدد الأكثر شهرة، فقد أصبح معروفاً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وكانت مشاركته النشطة الأولى، قبل بضع سنوات، في الفرع الفرنسي لأحد المنظمات الأمريكية التي تدافع عن القومية السوداء، ثم ترك الحركة ليعتنق الفكر الكيميتي، واتخذ اسم كيمي سيبا "النجم الأسود" في عام 2002. وتعتمد "الكيميتية"، التي ولدت في الولايات المتحدة، على إعادة كتابة تاريخ مصر القديمة بزعم أن الفراعنة الأوائل كانوا من السود، ولتأكيد أسبقية الحضارة السوداء على الحضارات الأخرى، ويعتمد الكيميتيون بشكل خاص على الأعمال ذات التوجه الإفريقي الوسطي للمثقف السنغالي الشيخ أنتا ديوب.

وواجه كيمي سيبا ملاحقات قانونية في فرنسا، ما دفعه للاستقرار في غرب إفريقيا في عام 2011، وعمل في العديد من وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية وأسس منظمة (Urgences Panafricanistes) في عام 2015. ومنذ ذلك الحين، نما جمهوره إلى درجة أنه أصبح أشهر مناصر للقومية الإفريقية الجديدة في العالم الناطق بالفرنسية، ومن أبرز الأفكار الأيديولوجية التي يدافع عنها هي: ضرورة أن يعيش السود والبيض منفصلين، وإعادة توطين الشتات الأسود في إفريقيا، وأنه كي تتطور إفريقيا يجب عليها أن تحرر نفسها بشكل نهائي من كل أشكال الإشراف الغربي، وبالتالي تحصل على استقلال حقيقي.

كذلك، تُعد ناتالي يامب، الملقبة بـ"سيدة سوتشي"، شخصية أخرى من القومية الإفريقية الجديدة التي تدعو للقضاء على النفوذ الفرنسي في إفريقيا. وتستخدم هذه السويسرية الكاميرونية سجلاً خطابياً محدوداً للغاية مقارنة بكيمي سيبا. وهي نشطة على تويتر وفيسبوك، كما تنشر مقاطع فيديو بانتظام، وما تزال محصورة في النشاط الشعبي المناهض لفرنسا، دون أن تشرح ما الذي تتألف منه وحدتها الإفريقية.

أيضاً، هناك عدة منظمات أخرى مناهضة لفرنسا في عدد من الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية، ففي مالي أصبحت جمعية (Yerewolo-Debout sur les Remparts)، حركة نشطة في عام 2020، وعمدت إلى تنظيم مظاهرات مناهضة لفرنسا، عندما أصبحت التوترات بين باريس والمجلس العسكري المالي علنية. وفي بوركينا فاسو، هناك عدة حركات مناهضة لفرنسا بدأت تتجمع حول المجلس العسكري الحاكم خلال السنوات الأخيرة، على غرار "تجمع قادة عموم إفريقيا" و"اتحاد حركات عموم بوركينا فاسو" بقيادة نيستور بوداسيه، والمعروف باسم مانديلا الأول. 

ختاماً، تجدر الإشارة إلى أن الخطابات المناهضة لهيمنة فرنسا على إفريقيا أصبحت من أسس الخطاب السياسي الإفريقي، مع ذلك فإن نظرية "مؤامرة فرنسا ضد إفريقيا" باتت ورقة تحملها بعض الحكومات الإفريقية لإدانة السياسة الفرنسية والتنصل من المسؤولية، وأسهمت بعض الجهات الفاعلة، مثل أنصار حركة الوحدة الإفريقية الجديدة، في نشر هذا الاحتجاج الخطابي على نطاق واسع.

المصدر: 

Thierry Vircoulon, Alain Antil et François Giovalucchi, « Thématiques, acteurs et fonctions du discours anti-français en Afrique francophone », Ifri, juin 2023.