أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

رؤية أمريكية:

كيف تحقق الحكومات "الكرامة الاقتصادية" للمجتمعات؟

02 فبراير، 2022


عرض : محمود إبراهيم

تطمح العديد من الحكومات حول العالم إلى تحقيق مؤشرات اقتصادية مرتفعة على صعيد رفع معدلات النمو الاقتصادي والوظائف والدخول وغيرها، مع ذلك يظل دوما السؤال الأهم هو مدى تأثير ذلك على حياة الناس وكرامتهم؟ تلك الفكرة يناقشها الكاتب جين سبيرلينج، كبير المستشارين الاقتصاديين في إدارة الرئيسين السابقين بيل كلينتون وباراك أوباما في كتابه "الكرامة الاقتصادية Economic Dignity"، إذ يرى أن أغلبية السياسيين في الولايات المتحدة مقتنعون بأهمية التركيز على الاقتصاد، بينما لا يحظى تأثير السياسات الاقتصادية في النهاية على السعادة والشعور بالإنجاز في حياة الناس بالأهمية نفسها.

يؤكد الكاتب أن القناعات والفلسفات الاقتصادية يجب أن تتمحور حول الهدف النهائي المتمثل في رفع مستوى معيشة جميع المواطنين، أي ضمان مستوى شامل من الكرامة الاقتصادية مشيراً إلى أن مراقبة هذا الهدف النهائي بوضوح أمر بالغ الأهمية أيضاً لمعرفة ما يجب إعطاؤه الأولوية عند وضع السياسة الاقتصادية.

مفهوم "الكرامة":

أكد الكاتب أنه من الخطأ النظر للمقاييس الاقتصادية مثل الناتج المحلي الإجمالي (GDP) على أنها الهدف النهائي الرئيسي للسياسة الاقتصادية، فعلى الرغم من أنه مؤشر مهم، فإن التركيز على الناتج المحلي الإجمالي يُعبِّر بشكلٍ كبير عن الخلط الاقتصادي الكلاسيكي بين الوسائل والغايات، فأي مقياس اقتصادي يعجز عن تحديد ما إذا كانت الغالبية العظمى من الناس يشهدون حدوث تحسن في حياتهم لا يمكن أن يكون هدفاً نهائياً عقلانياً أو إنسانياً للسياسة الاقتصادية. 

لا يعني هذا أنه يجب التخلي عن المقاييس الاقتصادية التقليدية، بل يجب أن يبذل علم الاقتصاد كل ما في وسعه لتصميم مؤشرات اقتصادية ترسم صورة أكثر دقة عما إذا كانت جودة حياة معظم الناس تتحسن أم لا، لذلك قد يكون من المفيد إنشاء "مؤشر الكرامة الاقتصادية" الذي يسعى إلى رسم صورة شاملة عن مدى شعور المواطنين بالكرامة الاقتصادية في حياتهم.

يرى الكاتب أنه نادراً ما يتم تعريف مفهوم الكرامة الاقتصادية بأي طريقة محددة، حيث يشير هذا المفهوم في الغالب إلى أمور أساسية في حياتنا الاقتصادية ولكن لا يمكن قياسها، مثل الإحساس بالإنجاز والقيمة كأشخاص يعملون ويسعون لتحقيق أهدافهم، إذ إن هناك نوعين من الكرامة الاقتصادية. النوع الأول هو الكرامة الاقتصادية السلبية، والتي تتطلب الحماية من انتهاكات الحكومة مثل، العبودية والتمييز العنصري وفرض الضرائب من دون حق التمثيل، وقوانين التمييز الجنسي، والسياسات التي تضع الأعباء على الفقراء.

أما النوع الثاني فهو الكرامة الاقتصادية الإيجابية، وهي تتطلب الاستخدام الإيجابي للموارد العامة لضمان العناصر الأساسية للأمن الاقتصادي والفرص الاقتصادية التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من الكرامة، ويعد أفضل مثال على ذلك هو الضمان الاجتماعي الذي يعتمد بشكل أساسي على فكرة أنه من المهين لكرامة أي شخص أن يعمل بجد طوال حياته فقط ليشعر بالعجز الاقتصادي في سن الشيخوخة.

ركائز الكرامة:

أكد الكاتب أن الوصول للهدف النهائي من السياسات الاقتصادية، وهو تحقيق الكرامة الاقتصادية يجب أن يستند إلى ثلاث ركائز أساسية، وهي:

1) القدرة على رعاية الأسرة من دون الخوف من الحرمان الذي يمنع الإنسان من التمتع بالحياة الأسرية: إذ أوضح الكاتب أنه لا ينبغي النظر إلى القدرة على رعاية الأسرة ببساطة من منظور الدخل المادي، بغض النظر عن مدى ضرورته. فإذا كان الحرمان الاقتصادي أو جوانب من الحياة العملية تتطلب مجهوداً كبيراً أو تضحيات بحيث يُحرم الناس من القدرة على تجربة أكثر اللحظات ذات المغزى والبهجة في الحياة الأسرية والشخصية، فلا يمكننا أن نقول إن ركيزة رعاية الأسرة قد تم تحقيقها. 

2) الحرية في السعي للوصول إلى تطلعات الإنسان وأهدافه: هناك بالطبع تداخلات مهمة بين الحاجة إلى رعاية الأسرة والرغبة في السعي وراء الأهداف والتطلعات في جميع جوانب الحياة، ولا يتمثل التحدي الذي يواجه صانعي السياسات في إملاء التوازن الصحيح بين العمل والحياة على كل شخص، ولكن في إنشاء اقتصاد يسمح للناس بالعناية بالأسرة والسعي لتحقيق أهدافهم، وتبني الخيارات التي تتناسب بشكلٍ أفضل مع سعادتهم وإحساسهم بأنفسهم ووجود معنى لحياتهم.

3) القدرة على المشاركة الاقتصادية في مناخ من الاحترام وعدم الإذلال: فمن الضروري التأكيد على أنه من دون هذه الركيزة الثالثة تفشل بنية الكرامة الاقتصادية بأكملها، حيث إن السعي الشديد لتحقيق الركيزتين الأوليين يمكن في كثير من الأحيان أن يجبر الملايين على العمل في ظل ظروف سوء المعاملة والاستغلال والإذلال التي تتعارض مع الكرامة.

مسؤولية الحكومات:

أشار الكاتب إلى أنه بينما يمكن أن يكون هناك مزيج من آليات الحكومة والسوق لتحقيق أهداف اقتصادية مختلفة، إلا أن من مسؤولية الحكومة ضمان أن هذه السياسات تهدف في الواقع لتعزيز الكرامة الاقتصادية للجميع، مؤكداً أن وجود دور أكبر للحكومة في النشاط الاقتصادي سيساعد المزيد من الأشخاص على العمل والحصول على قيمة مضافة، مع اكتساب الكرامة نتيجة إدراك قدرتهم على إحداث فرق وإيجاد هدف في الحياة الاقتصادية، كما يمكن أن يضيف مزيداً من الرغبة في المخاطرة، والمزيد من دعم ريادة الأعمال، والمزيد من الابتكار في السوق، فعلى سبيل المثال يمكن أن تساهم الحكومة في تخفيف الأعباء على الشركات حتى تتمكن الأخيرة من التركيز على الابتكار والنمو، بدلاً من الانشغال بأمور مثل التأمين الصحي للعمال وما يتعلق بالتقاعد، كما يمكن للحكومة أيضاً تحفيز الابتكار بشكلٍ مباشر من خلال تمويل البحث والتطوير عندما لا يفعل القطاع الخاص ذلك.

من ناحية أخرى، يمكن للحكومة أن تدعم بشكل أكثر فاعلية المزيد من الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة من خلال تمويل أكبر لوسائل النقل التي تراعي احتياجاتهم، وتوفير الإسكان ميسور التكلفة، والمعدات اللازمة للعمل، وإعادة التأهيل المهني بالتعاون مع المنظمات غير الربحية ذات الخبرة في تأهيل العمال ذوي الاحتياجات الخاصة.

وأكد الكاتب أنه لا أحد يدعم اقتصاد يحظر المنافسة في السوق، ويتوقف عن السماح بتحديد أسعار السلع والخدمات من خلال العرض والطلب، أو حظر الشركات الناشئة أو سوق الأوراق المالية أو الربح، ولكن يجب أن تثار تساؤلات حول ما إذا كانت المنافسة في السوق منظمة لرفع رفاهية الكثيرين أم القلائل؟ وهل الأسواق منظمة لتقديم مكافآت مالية لمن يتنافسون بطرق تعزز الكرامة الاقتصادية أو تنتقص منها؟

فيما يتعلق بالتغييرات المتعلقة بسوق العمل، أوضح الكاتب أن الذكاء الاصطناعي والروبوتات وتكنولوجيا المركبات ذاتية القيادة تعد من بين التطورات التكنولوجية الجديدة التي تهدد باضطراب اقتصادي كبير، حيث يخشى العديد من الناس أن يقل عدد الوظائف المتاحة بسبب التقدم التكنولوجي، وهو ما يستلزم وضع سياسات تساعد في تشكيل هذه التغييرات لتعزيز الكرامة الاقتصادية وحمايتها؛ وهذا يعني الحاجة إلى سياسات إيجابية لتشجيع مسار خلق فرص العمل، وترسيخ شبكة حقيقية للكرامة تضمن للناس القدرة على رعاية أسرهم وإيجاد فرص جديدة لتحقيق أهدافهم وتحسين قدراتهم عندما تحدث اضطرابات اقتصادية.

مواجهة الحرمان:

أشار الكاتب إلى ضرورة وجود سياسات تضمن أن جميع العمال يمكنهم في الواقع أداء عملهم، ورعاية أسرهم، والسعي وراء تطلعاتهم بكرامة، مما يتطلب دعم العمال فيما يتعلق بالأمن الاقتصادي والفرص، لمساعدتهم على أداء دورهم في النشاط الاقتصادي. 

وتحول الكاتب إلى قضية الأجور، حيث أكد أن أصحاب العمل يجب أن يدفعوا ما يكفي للسماح لجميع العمال برعاية أسرهم من دون حرمان اقتصادي، ومن دون العمل لساعات إضافية تمنعهم من الوجود والاستمتاع باللحظات الأسرية الثمينة، وهو ما يستلزم زيادة حقيقية للحد الأدنى للأجور، وإصلاح السياسات الضريبية، بحيث يتم وضع حد لفرض ضرائب على العمال الواقعين في براثن الفقر.

في هذا السياق، اقترح الكاتب توسيع برنامج ائتمان ضريبة الدخل المكتسب (EITC)، وهو ائتمان ضريبي قابل للاسترداد يقلل من مبلغ الضريبة المستحقة لبعض دافعي الضرائب ذوي الدخل المنخفض في الولايات المتحدة، بحيث إذا تجاوز الائتمان الضريبي لدافعي الضرائب مسؤوليتهم الضريبية عن العام، فقد يكونون مؤهلين لاسترداد الأموال، داعياً إلى أن يشمل هذا البرنامج جميع العمال، وتناول الكاتب أيضاً ضرورة الاهتمام بمخصصات رعاية الأطفال وجعلها ميسورة التكلفة لضمان قدرة أولياء الأمور على تحمل مسؤولياتهم، مؤكداً أن ذلك يعد مكسباً للكرامة الاقتصادية.

كما يجب أن تكون ضريبة الثروة والسياسات الأخرى للحد من التركيز الفاحش للثروة في أيدي فئة قليلة من المواطنين أولوية اقتصادية حاسمة، لكن خطة تقليل عدم المساواة في الثروة وتعزيز الكرامة الاقتصادية يجب أن تركز أيضاً على كيفية إتاحة الفرصة لمن لديهم مدخرات أو ثروة قليلة أو معدومة ليقوموا ببناء ثروتهم، وضمان قدرتهم على الادخار وإعالة أسرهم على المدى الطويل.

طرح الكاتب مفهوم "وظائف الكرامة الاقتصادية المزدوجة"، وهي الوظائف التي يتاح لشاغليها خدمة كرامة الآخرين، وتقديم المسارات الوظيفية والمهارات وفرص التقدم الوظيفي التي يمكن أن تسمح لمن يشغلون تلك الوظائف بتحقيق ذواتهم وتطوير إمكانياتهم، موضحاً أن التوسع في الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي قد يسبب حدوث خلل في الوظائف، وطلباً أقل على العمال.

لكن من منظور الكرامة الاقتصادية، يرى الكاتب أن هناك أعداداً هائلة من الوظائف الشاغرة التي لن يتم ملؤها أبداً بالتشغيل الآلي أو الذكاء الاصطناعي، وتشمل هذه الوظائف مساعدة المصابين بالتوحد، ومساعدة المسجونين الذين تم الإفراج عنهم أو ذوي الاحتياجات الخاصة على الحصول على عمل، وكذلك وظائف التدريس والتدريب، والمعالجين النفسيين، وأكد الكاتب ضرورة ألا تكون هذه الوظائف ذات الكرامة المزدوجة وظائف منخفضة الأجر من دون مسارات وظيفية أو فرصة لتطوير المهارات أو الشعور بالاستقلالية.

تطوير العمال:

أكد الكاتب أن أعداداً كبيرة من العمال في الولايات المتحدة يفتقرون إلى القدرة على الاعتراض على اعتداءات أصحاب العمل على الكرامة الاقتصادية، إذ لا يزال التمييز العنصري في العمل شائعاً للغاية، وكذلك العوائق التي تواجه الأشخاص ذوي الإعاقة، مشدداً على أن أجندة الكرامة الاقتصادية يجب أن تنظم أسواق العمل لتعزيز قوة العمال وقدرتهم على المطالبة بحقوقهم، وبالتالي التغلب على العلاقة غير المتوازنة بين الشركات والعاملين.

 يقتضي تحقيق هذا التوازن التركيز على ثلاثة أهداف: (1) التوسع في إتاحة قدرة العمال على الترابط معاً من خلال الاتحادات والنقابات وتعزيز قوانين العمل، (2) عدم التسامح مطلقاً مع العمل بالإكراه، (3) وجود خيارات أخرى تتيح للعمال القدرة على ترك الوظيفة في حالة تعرضهم لظروف عمل غير ملائمة وتعزيز ثقتهم في أنهم يستطيعون العثور على وظيفة أخرى.

فيما يتعلق بإمكانات العمال، فلطالما كان يُنظر إلى فرصة تحقيق تعليم عالي الجودة، والحصول على فرص للتعلم واكتساب المهارات مدى الحياة، على أنها عنصر حاسم في قدرة الناس على تحسين قدراتهم والارتقاء بمستواهم الاقتصادي، بغض النظر عن ظروف نشأتهم، وبالتالي، فمن الضروري إزالة كل العوائق التي تواجه من يرغبون في إكمال تعليمهم الجامعي الذي يمكن أن يكون له تأثيرات إيجابية أوسع على رفاهيتهم وتحقيقهم الرضا الوظيفي والسعي لتحسين قدراتهم.

يدعو الكاتب أيضاً إلى زيادة الاستثمار في التدريب من قبل أرباب العمل من القطاع الخاص، ولكن في سوق العمل غالباً ما تقلل الشركات من الاستثمار في التدريب الذي يحتاجه العمال خوفاً من مغادرتهم والعمل لدى المنافسين بعد تلقي التدريب، ولذلك يمكن أن يساعد التوسع في الاعتماد على النقابات في تقليل فجوات الثقة المتعلقة بتدريب القوى العاملة، والمساعدة في تطوير العمال ذوي المهارات العالية، وبالتالي يتم تقليل مخاوف العمال من أنهم يربطون مستقبلهم بصاحب عمل واحد، ومخاوف الشركات من أنهم سيستثمرون في التدريب الذي سيغتنمه المنافسون من خلال توظيف عمالهم.

المصدر:

- Gene Sperling, Economic Dignity, Penguin Press, New York, 2020.