قضيت عشرات السنين من عمري الأكاديمي أتابع ظاهرة الخلافات والصراعات العربية البينية، وأُحلل مصادرها والأدوات المستخدمة فيها، وأرصد تحولاتها وتداعياتها على النظام العربي.. وأشهد أن ما حدث في منتصف هذا الشهر من أزمة في العلاقات اللبنانية الليبية ينتمي إلى عالم اللامعقول في السياسة العربية. فقد هاجمت مجموعة من الشباب المنتمين لحركة «أمل» في لبنان سارية العلم الليبي أمام مقر القمة الاقتصادية العربية في بيروت، وقامت بإنزاله وتمزيقه ووطئته بالأقدام، ناهيك عن نعتهم الليبيين بأوصاف مسيئة، وكل ذلك رفضاً لدعوة ليبيا لحضور القمة.
وقد تمنيت في البداية أن يكون ما حدث سلوكاً طائشاً من أفراد المجموعة التي ارتكبت هذا الحدث المجافي لأبسط القواعد في العلاقات الدبلوماسية بين الدول، لكني اكتشفت للأسف أن له طابعاً «مؤسسياً»، إذ ذكرت التقارير أن رئيس مجلس النواب اللبناني ورئيس حركة «أمل»، نبيه بري، كان قد هدد باللجوء إلى «الشارع» في حال مشاركة ليبيا في القمة الاقتصادية التنموية ببيروت، كما أعلن رئيس «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» احتجاجه على توجيه الدعوة أصلاً إلى ليبيا للمشاركة في القمة، ودعا إلى اجتماع طارئ لبحث ما قال إنها تداعيات تلك الدعوة، واكتملت الصورة بمنع سلطات الأمن في مطار بيروت رجال الأعمال الليبيين المشاركين في المنتدى الاقتصادي في سياق التحضير للقمة من الدخول.
وكان واضحاً من الوهلة الأولى أن للأمر علاقة بقضية اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقية أثناء زيارتهم ليبيا عام 1978، وأفهم أهمية هذه القضية عند شيعة لبنان، لكن البديهي أن المتهم فيها هو نظام معمر القذافي الذي سقط في انتفاضة شعبية قُتِل خلالها القذافي نفسه، وتعرضت ليبيا من بعدها للاضطرابات التي نعرفها جميعاً والتي مزقت الدولة الليبية شر ممزق ولم تستقر الأوضاع فيها حتى الآن. ولم أفهم كيف يُحاسب النظام الليبي الحالي على جرم لم يرتكبه، فهذا النظام موجود في السلطة لإطاحته بالنظام المتهم بارتكاب الجريمة. وفي رسالة الاعتذار التي وجهها وزير الخارجية اللبناني لنظيره في حكومة الوفاق الليبية عن إهانة العلم الليبي، لم ينس أن يذكر في سياق تأكيد حرصه على العلاقات بين البلدين وضرورة وضعها على السكة الصحيحة، أن هذا لا يعني تخلي لبنان إطلاقاً «عن واجبه الوطني في معرفة مصير سماحة الإمام المغيب ورفيقيه وحل هذه المسألة التي عكرت العلاقات بين البلدين لأكثر من أربعة عقود». وطلب وزير الخارجية اللبناني من نظيره الليبي تقديم كل ما يلزم لمعرفة مصير الإمام، وهو في تقديري طلب لا يقل إثارة للعجب مما سبق من تطورات، ذلك أن الأمر المفروغ منه في اتهام نظام القذافي بالمسؤولية عن اختفاء الصدر، أن ذلك قد تم بمؤامرة مُحكمة دبرها ذلك النظام، فكيف تستطيع السلطات الحالية معرفة خبايا تلك المؤامرة؟ وقد تأثرتُ كثيراً بصحفية ليبية شابة استضافتها «بي بي سي» كان فحوى حديثها: اتركوا ليبيا لحال سبيلها، فهي مثخنة بالجراح.
ويمثل منع ليبيا من المشاركة في القمة انتهاكاً للقواعد القانونية والبروتوكولية المرعية للعلاقات الدولية، فالدولة التي تستضيف مؤتمر قمة على أرضها لا تملك الحق في استبعاد دولة داخلة في نطاق الجماعة المشمولة بالمؤتمر حتى ولو كانت على خلاف معها.
لقد مثلت ظاهرة الخلافات والصراعات العربية البينية، منذ نشأة النظام الإقليمي العربي، ظاهرة سلبية لا تتسق والانتماء العربي الواحد لأعضاء هذا النظام، لكن مصادرها كانت مفهومة كمطالب إقليمية أو خلافات حدودية قد تتضمن نزاعاً على ثروات اقتصادية أو خلافات أيديولوجية وسياسية، وفي بعض الأحيان نشبت الخلافات لأسباب تافهة عكست هشاشة البعد التعاوني في العلاقات العربية العربية، كأزمة تنشب نتيجة مباراة رياضية، لكنها المرة الأولى في عمر هذا النظام أن ينشب خلاف بين دولة عربية وأخرى لا علاقة البتة لحكومتها القائمة بموضوع الخلاف، فإلى أين تسير بنا هذه الظاهرة؟
*نقلا عن صحيفة الاتحاد