أخبار المركز
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)
  • إيمان الشعراوي تكتب: (الفجوة الرقمية: حدود استفادة إفريقيا من قمة فرنسا للذكاء الاصطناعي 2025)

إرث فاغنر:

هل قاد "التضليل المعلوماتي" النيجر للقطيعة مع واشنطن؟

08 أبريل، 2024


أعلن المتحدث باسم المجلس العسكري في النيجر، أمادو عبدالرحمن، في السابع عشر من مارس 2024، عن الإلغاء بأثر فوري للاتفاق العسكري الموقع مع الولايات المتحدة عام 2012، الذي يقضي بوجود أعداد من العناصر العسكرية والمدنية التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية في مواقع متعددة من النيجر؛ إذ تُقدر أعداد العناصر العسكرية الأمريكية في النيجر بأكثر من ألف عنصر تنتشر في عدد من القواعد تقع أهمها في منطقة أغاديز شمال البلاد، والتي تُعد قاعدة الانطلاق الرئيسية لهجمات المُسيّرات الأمريكية على التنظيمات الإرهابية في الساحل الإفريقي وحوض بحيرة تشاد.

وكان قرار الإلغاء قد أعقب زيارة قام بها وفد أمريكي رفيع المستوى للنيجر ضم مولي في، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية، والجنرال مايكل لانغلي، قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا "أفريكوم"، وهي الزيارة التي اعتبرتها السلطات في النيجر لم تتبع البروتوكول المتفق عليه، وذلك بعد أن أسفرت المباحثات بين الوفد الأمريكي والسلطات في النيجر عن اتساع الفجوة في وجهات النظر؛ ما اعتبره المتحدث باسم المجلس العسكري مصادرة أمريكية لحق النيجر في اختيار شركائه في مكافحة الإرهاب، في إشارة ضمنية لروسيا.

وكشفت المواقف الرسمية الأمريكية التالية لقرار الإلغاء عن إدراك أمريكي عميق للعلاقة الوثيقة بين سلسلة الحملات المكثفة بنشر المعلومات المُضللة (Disinformation) التي استهدفت روسيا بها النيجر وبين القرار الأخير الذي اتخذه الحكم العسكري في نيامي بإلغاء الاتفاق العسكري مع واشنطن، وهو ما طرح سؤالاً ملحاً بشأن فاعلية أدوات النشاط العسكري الأمريكي والروسي في الساحل الإفريقي. 

ففي الوقت الذي لم تؤمن فيه روسيا بعد أي مظهر لحضور عسكري مستدام في دول الساحل، باستثناء انتشار متفرق لعناصر "فاغنر"، تمكنت موسكو من التسبب في إعادة صياغة المشهد العسكري عبر استخدام أداة شديدة الفاعلية وهي حملات المعلومات المُضللة. والأكثر من ذلك، فقد جاء النجاح الأبرز لهذه الحملات بالتسبب في خروج القوات الأمريكية من النيجر، على الرغم من إطلاق روسيا عملية لإعادة الهيكلة الشاملة لحضورها العسكري في إفريقيا بالتحول من الاعتماد على الشركات العسكرية الخاصة، وعلى رأسها "فاغنر" إلى تأسيس وحدات أكثر نظامية وتبعية لسلسلة القيادة بوزارة الدفاع عبر استحداث الفيلق الإفريقي. 

حملات روسية:

تشكل حملة المعلومات المُضللة التي شنتها روسيا في النيجر حالة نموذجية للكشف عن آليات النشاط الروسي في هذا المجال الذي تتمتع فيه بتفوق ملموس في الساحة الإفريقية. فقبل أن تبدأ موسكو في استهداف النيجر بحملات المعلومات المُضللة؛ شنت حملة أوسع استهدفت دول إقليم الساحل الإفريقي الناطقة بالفرنسية، وحققت تلك الحملة نجاحات سريعة في كل من مالي وبوركينا فاسو.

وبعد نجاح الانقلاب العسكري الثاني في بوركينا فاسو في سبتمبر 2022، بدأت مجموعة "فاغنر" في تصميم حملة مركزة لاستهداف النيجر، جاءت في صورة هجينة، جمعت بين الاستهداف المكثف للشبكات الأكثر تأثيراً في مواقع التواصل الاجتماعي -مستفيدة من تصدر النيجر المعدل العالمي لعدد الساعات التي يقضيها مستخدمو الإنترنت على هذه المواقع- بجانب استهداف عدد من كيانات المجتمع المدني على أرض الواقع، خاصةً المجموعات الأكثر تأثيراً مثل: "اتحاد الوطنيين الوحدويين الأفارقة"Union des Patriotes Panafricaniste (UNPP) وكذلك "جماعة الوحدويين الأفارقة للتجارة والاستثمار"Groupe Panafricain pour le Commerce et l’Investissement (GPCI)، فضلاً عن تكثيف وكالات الأنباء الروسية ضخ المحتوى الإعلامي بشأن الأوضاع في النيجر.

كذلك، كثفت عدد من قنوات تطبيق "تليغرام" المرتبطة بـ"فاغنر" من تعرضها للأوضاع الداخلية في النيجر عبر مضاعفة ما يتم ضخه من معلومات مُضللة؛ استهدفت في المقام الأول الرئيس محمد بازوم، المقرب من الولايات المتحدة وفرنسا. وفور وقوع الانقلاب في يوليو 2023، أرسل يفغيني بريغوجين، رئيس مجموعة "فاغنر"، قبيل مصرعه، رسالة ترحيبية بالانقلاب عبر تطبيق "تليغرام"، وهو ما أطلق حملة تأييد واسعة ركزت على تشويه كافة الأصوات المعارضة للانقلاب على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي من خلال الضخ الكثيف للمعلومات المُضللة خاصة في الأيام الأولى التالية على الانقلاب.

وعلى الرغم من الصدام الذي وقع بين القوات المسلحة الروسية وبين مجموعة "فاغنر"، والذي انتهى بمصرع بريغوجين، فإن روسيا لم تتجه لتغيير نمط توظيفها لأداة المعلومات المُضللة في النيجر؛ الأمر الذي يثبت الطابع الاستراتيجي لقرار موسكو بتكثيف الاعتماد على هذه الأداة في إفريقيا. ففي الشهور الخمس التالية على الانقلاب، تم رصد زيادة في حجم المواد المتعلقة بالنيجر التي يتم تداولها عبر قنوات "تليغرام" المرتبطة بأذرع السلطات الروسية، وكذلك عبر المجموعات المغلقة لتطبيق "واتساب"، فضلاً عن صفحات وسائل التواصل الاجتماعي وعلى رأسها تطبيقا "فيسبوك" و"أكس". وركزت هذه الحملات على التصدي للمحاولات الفرنسية لحشد موقف دولي وإقليمي مضاد، فضلاً عن شن هجمة مكثفة على جهود جماعة "إيكواس" بقيادة نيجيريا والسنغال؛ لحشد استجابة عسكرية لإعادة الرئيس بازوم للسلطة. 

وهذا النجاح الروسي في التأثير في الرأي العام في دول الساحل الإفريقي ومن بينها النيجر، شكل أحد العوامل التي يسرت على السلطات الجديدة في النيجر اتخاذ قرارات تدريجية بإعادة صياغة التحالفات الخارجية على نحو جذري؛ بدايةً من القطيعة مع فرنسا، ثم الانفتاح الكبير على روسيا عقب زيارة رئيس وزراء النيجر، علي محمد الأمين زين، لموسكو في يناير 2024؛ وصولاً إلى اتخاذ القرار الأخير بالقطيعة مع الولايات المتحدة، والذي لاقى بدوره تأييداً شعبياً سريعاً لأسباب عديدة؛ من بينها استمرار الحملات الروسية المكثفة بذات النمط المتكرر منذ بداية الانقلاب.

استجابة أمريكية:

شكلت النيجر مركزاً رئيسياً للحضور العسكري الأمريكي في إفريقيا، فبجانب استضافتها لقاعدتين مستدامتين في العاصمة نيامي وفي مدينة أغاديز، استفادت الولايات المتحدة من النفاذ لقواعد عسكرية أخرى في أرليت وديركو وديفا ووالام. وقبل إعلان القرار الأخير بمغادرة القوات الأمريكية، كانت النيجر تستضيف نحو 1100 عنصر عسكري أمريكي، كما بلغ إجمالي ما أنفقته إدارة الرئيس جو بايدن؛ لدعم القطاعين العسكري والأمني في النيجر ما يناهز 300 مليون دولار في أقل من أربع سنوات، في رقم بارز مقارنةً بغيرها من الدول الإفريقية.

ووفق تصريحات الجنرال مايكل لانغلي، قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا، التي أدلى بها في جلسة استماع أمام لجنة الشؤون العسكرية في مجلس النواب الأمريكي، في الحادي والعشرين من مارس 2024، بعد أيام من تفجر الأزمة مع حكومة النيجر، فإن العامل المؤثر وراء هذا التحول الجذري كان حملات المعلومات المُضللة التي شنتها روسيا بكثافة على النيجر، والتي أدت إلى خلق مواقف مُعادية للولايات المتحدة على المستويين الشعبي والرسمي في فترة وجيزة، والتي وصفها لانغلي، بأنها حملات شديدة السرعة والعدائية.

ويمكن اعتبار واقعة إلغاء النيجر اتفاقها العسكري مع الولايات المتحدة نقطة تحول بارزة في مسار الوجود العسكري الأمريكي في إفريقيا، خاصةً فيما يتعلق بآليات مجابهة الحضور الروسي المتنامي في أكثر من موضع في القارة. فخلال كلمته أمام مجلس النواب الأمريكي، طالب الجنرال لانغلي، بالحصول على مساعدة أكبر من "مركز الانخراط الدولي" (Global Engagement Center) التابع لوزارة الخارجية الأمريكية، وهو المركز الذي يقدم المساعدة المعلوماتية للأنشطة الأمريكية الخارجية، والذي يقر الكونغرس ميزانيته سنوياً.

ويشكل لجوء قائد "أفريكوم" لطلب المساعدة من وزارة الخارجية الأمريكية، مظهراً لافتاً في ظل التقدم الكبير للقوات الأمريكية في مجال حرب المعلومات (Information Warfare) التابعة لوحدة قوات العمليات الخاصة (U.S. Army Special Operation Forces)، وهو ما لم يأت إلا كرد فعل للاندفاع الروسي القوي في مجال حملات المعلومات المُضللة في إفريقيا بعد أن قدر الدعم المالي الذي تخصصه الحكومة الروسية لهذه الحملات بأكثر من 1,5 مليار دولار سنوياً. وعلى الرغم من أن التغير في الموقف الأمريكي باتجاه تكثيف استخدام الأدوات الإعلامية والمعلوماتية لتعزيز الحضور العسكري في إفريقيا لا يزال في أطواره المبكرة، فإنه من المتصور أن يكون الساحل الإفريقي مجالاً رئيسياً لظهور المؤشرات المبكرة للاستجابة الأمريكية المتوقعة.

مما سبق، يتضح أن إعادة هيكلة الحضور الروسي في إفريقيا التي أُطلقت في أعقاب الصدام بين وزارة الدفاع الروسية ومجموعة "فاغنر" لم تتسبب في تخلي موسكو عن تكتيكات "فاغنر" الناجحة بما أثبتته من فاعلية كبيرة في مسرح العمليات الإفريقي؛ إذ أعادت روسيا توظيف إرث مجموعة "فاغنر" في تكثيف حملات المعلومات المُضللة في النيجر على وجه التحديد؛ ليتضافر مع جملة من الأدوات الروسية المتكاملة؛ بما أفرز قراراً نوعياً اتخذه الحكم العسكري في نيامي بإنهاء مظاهر الحضور العسكري الأمريكي في البلاد؛ الأمر الذي قد يعيد صياغة المشهد العسكري في إقليم الساحل الإفريقي على نحو أكثر عمقاً.