أخبار المركز
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)
  • إيمان الشعراوي تكتب: (الفجوة الرقمية: حدود استفادة إفريقيا من قمة فرنسا للذكاء الاصطناعي 2025)

حليف جديد؟!

الدوافع الاستراتيجية والاقتصادية لزيارة الرئيس الأمريكي فيتنام

14 سبتمبر، 2023


 تُقدِّم جمهورية فيتنام الاشتراكية حالة نموذجية تُؤكد أن التوجُه الأمريكي صوْب القارة الآسيوية، في إطار سياسة محور ارتكاز آسيا (Asia Pivot)، وكذلك استراتيجية الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ "الإندوباسيفيك"، صار أبرز الأهداف الأمريكية في إدارة علاقاتها الدولية، ليس فقط بهدف احتواء وتطويق الصين في جوارها المباشر، ولكن لتحقيق مكاسب اقتصادية وأمنية مباشرة.

ظهر ذلك في نتائج زيارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، فيتنام، يومي 10 و11 سبتمبر الجاري، وذلك عقب مشاركته في قمة مجموعة العشرين التي انعقدت في نيودلهي أواخر الأسبوع الماضي؛ حيث انتقلت العلاقات الأمريكية الفيتنامية من مستوى "الشراكة الشاملة" إلى "الشراكة الاستراتيجية"، وهو ما يعود لوجود دوافع متبادلة من الجانبين، علاوة على مساعي واشنطن لحل أبرز القضايا التي كانت عالقة منذ الحرب، وهي معالجة إرث الحرب وأضرارها.

الدوافع المُتبادَلَة

1 – توثيق العلاقات السياسية: منذ أن بدأت العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة وفيتنام في عام 1995، أي بعد 20 سنة من انتهاء الحرب الأمريكية في فيتنام والانسحاب الكامل للقوات الأمريكية، تطورت علاقات الدولتين بشكل لافت، وتم توقيع اتفاق "الشراكة الشاملة" بينهما في يوليو 2013، وعقد حواراتٍ حول قضايا العمل والأمن والطاقة والعلوم والتكنولوجيا وحقوق الإنسان. وفي إطار مساعي واشنطن لبناء إجراءات للثقة مع فيتنام، فقد زار كافة الرؤساء الأمريكيين فيتنام، منذ عهد بيل كلينتون وحتى بايدن.

وخلال السنوات الأخيرة، ومع تصاعُد الاهتمام الأمريكي بمنطقة جنوب شرق آسيا، كثفت واشنطن تحركاتها الدبلوماسية تجاه هانوي، كما ظهر مثلاً في  زيارتي وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، ونائبة الرئيس الأمريكي، كامالا هاريس، في شهري إبريل 2023 وأغسطس 2022 على التوالي، واختيار فيتنام واحدة من الشركاء الإقليميين الرئيسيين للولايات المتحدة في الاستراتيجية الأمريكية الخاصة بمنطقة "الإندوباسيفيك"، الصادرة في 11 فبراير 2022، وتخصيص أكثر من 700 مليون دولار بدءاً من عام 2023 لمساعدة فيتنام في معالجة قضايا إرث الحرب وإصلاح الأضرار الناجمة عنها، فضلاً عن دعم واشنطن الدائم لمطالب فيتنام في النزاع مع الصين حول منطقة بحر الصين الجنوبي.

2 – مساعي واشنطن لتعزيز نفوذها في جنوب شرق آسيا: تُقدِّم زيارة الرئيس الأمريكي فيتنام رسالة واضحة مفادها التزام واشنطن بربط مصالحها بالمنطقة، والتزامها أيضاً بأمن حلفائها، والمضي قدماً في تعزيز التحالفات على حدود الصين. وقد يبدو هذا أمراً مهماً بالنظر إلى المخاوف التي تم التعبير عنها بشأن التزام الولايات المتحدة تجاه رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" بعد عدم حضور بايدن قمة "آسيان" الـ18، التي عُقِدَت الأسبوع الماضي، في العاصمة الإندونيسية جاكارتا.

ولا ينفصل ذلك عن المساعي الأمريكية لمواجهة النفوذ الصيني والروسي، فعلى الرغم من تصريح الرئيس بايدن أن زيارته لفيتنام "لا تهدف إلى احتواء الصين"، فإن فيتنام تُمثِّل دولة مهمة في سياق التطويق الأمريكي للصين نظراً لموقعها جغرافياً بجوار الصين من ناحية، ورغبة فيتنام في تأمين استقلالية أكبر عن الصين وزيادة اعتمادها على واشنطن لمواجهة التحركات الصينية في مياه بحر الصين الجنوبي من ناحية أخرى.

أما بالنسبة لروسيا، فقد كشفت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية عشية زيارة بايدن فيتنام عن وثيقة تشير إلى بدء الحكومة الفيتنامية مفاوضات سرية بشأن صفقة أسلحة جديدة مع روسيا، تبلغ قيمتها 8 مليارات دولار على مدى 20 عاماً على الرغم من العقوبات الدولية ضد روسيا، حيث وصفت الوثيقة فيتنام بأنها "شريك استراتيجي في مجالي الدفاع والأمن"، وأنه من المُرجَّح تمويل هذا الاتفاق من خلال مشروع نفطي مُشترَك بين روسيا وفيتنام يقع في سيبيريا؛ وبالتالي تهدف واشنطن إلى تقليص النفوذ العسكري الروسي هناك، ومساعدة فيتنام على تنويع شراكاتها الدفاعية بعيداً عن الاعتماد المُفرِط على الأسلحة الروسية.

3 - تحقيق مكاسب أمنية: تُولي واشنطن أهمية خاصة لفيتنام، نظراً لعدة اعتبارات أمنية، أبرزها موقعها الحيوي على بحر الصين الجنوبي؛ أحد أهم الطرق الملاحية التجارية حيويةً في العالم، وأحد الشرايين التجارية الرئيسية؛ في ظل أهمية الأمن البحري بالنسبة للولايات المتحدة ومساعيها لتأمين مصالحها الاقتصادية والتجارية التي تمر من خلاله، والوصول إلى الثروات المعدنية والنفطية التي تزخر بها تلك المنطقة.

وتتطلع واشنطن كذلك للحصول على موطئ قدم عسكري في هذه المنطقة الحيوية المتاخمة للصين، من خلال تأمين الوصول إلى الموانئ والقواعد الفيتنامية؛ ولاسيما قاعدة "كام رانه" البحرية لمساعدتها في التعامُل بشكل أفضل مع حالات الطوارئ في بحر الصين الجنوبي، ودعم جهودها لردع الصين عسكرياً، والحفاظ على الهيمنة الإقليمية الأمريكية.

4 - توسيع الشراكة الاقتصادية: تَستهدِف زيارة الرئيس بايدن تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي مع فيتنام التي تُعد دولة صناعية رئيسية بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية الرامية لتنويع وتحويل سلاسل التوريد العالمية بعيداً عن الصين، هذا فضلاً عن كونها ثالث أكبر سوق في جنوب شرق آسيا، وبالتالي فهي سوق استهلاكية مهمة للبضائع الأمريكية، وبوابة للعديد من الأسواق الرئيسية الأخرى في آسيا، وبديل جيد للاستثمارات الأمريكية خاصةً في التصنيع، حيث تنخفض تكلفة العمالة مقارنةً مع دول مثل الصين وإندونيسيا وماليزيا.

والأهم من ذلك أن فيتنام تأتي في المرتبة الثامنة بين الشركاء التجاريين مع الولايات المتحدة عالمياً، بل إنها حققت فائضاً تجارياً مع الولايات المتحدة بلغ 116 مليار دولار في عام 2022، من إجمالي حجم التبادل التجاري، الذي بلغ 138 مليار دولار بين الدولتين في العام نفسه. كما صارت فيتنام مركزاً جديداً للتصنيع، إذ تستقطب مئات الشركات العالمية التي تعمل داخلها، وهي من البلدان الأسرع نمواً في العالم، وتمتلك ثاني أكبر رواسبَ في العالم من المعادن النادرة، تُستخدَم في السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح؟

ويُمكِن للولايات المتحدة أن تمد فيتنام بالتكنولوجيا الحسَّاسة، وتدعم سعيها للتنويع الاقتصادي بعيداً عن شريكها التجاري التقليدي، الصين، من خلال تشجيع الشركات الأمريكية على الانتقال إلى أو دمج سلاسل التوريد الخاصة بها مع فيتنام التي تبحث عن شركاء وعن رؤوس أموال من أجل الارتقاء على الصعيد التقني.

وعلاوة على ذلك، ونظراً لتنامي العلاقات الشعبية بين الدولتين، هناك ما يزيد عن 30 ألف طالب فيتنامي يدرسون في الولايات المتحدة، ويُشكِّلون خامس أكبر مجموعة من الأجانب هناك، ويسهمون بأكثر من مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي.

نتائج الزيارة

أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، والأمين العام للحزب الشيوعي الفيتنامي نغوين فو ترونغ، رفع مستوى العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين إلى "شراكة استراتيجية شاملة"، وهو أعلى مستوى من الشراكة الدولية التي يُمكِن أن تجمع فيتنام بدولة أجنبية مثلما هو الحال مع الصين وروسيا والهند وكوريا الجنوبية؛ الأمر الذي يعني حقبة جديدة من التعاون، وتجاوز الإرث المؤلم لحرب فيتنام، وتنامي الثقة المُتبادَلَة بين الجانبين، وربما كسب واشنطن فيتنام كحليف آسيوي جديد.

وفي ختام الزيارة، أعلن البيت الأبيض عن عدد من الصفقات التجارية الكبرى مع فيتنام في قطاعات الطيران والرقائق الإلكترونية والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية، من أهمها صفقة لشركة "بوينغ" الأمريكية بقيمة 7.5 مليار دولار مع الخطوط الجوية الفيتنامية لشراء نحو 50 طائرة من طراز 737 ماكس، وخطط لشركة "أمكور تكنولوجي" لإنشاء مصنع بقيمة 1.6 مليار دولار في مقاطعة باك نينه الفيتنامية، سيقوم بتجميع وتعبئة واختبار الرقائق، حيث من المُقرَّر أن يبدأ العمل فيه في أكتوبر المقبل، علاوة على مشاريع للذكاء الاصطناعي مُصممة خصيصاً لفيتنام بقيادة شركتي "إنفيديا" و"مايكروسوفت".

كما تم الإعلان عن مبادرة تنمية القوى العاملة في مجال أشباه المُوصِّلات في فيتنام، بتمويل مبدئي قدره 2 مليون دولار من الحكومة الأمريكية، وبدعم مستقبلي من الحكومة الفيتنامية والقطاع الخاص؛ وعن تبرعات أمريكية ببرامج ومعدات جديدة بقيمة 8.9 مليون دولار لبناء القدرة الفيتنامية على مكافحة الجريمة العابرة للحدود الإقليمية والدولية، فضلاً عن تعاون مجموعة "هانيويل" الأمريكية مع شريك فيتنامي لإطلاق مشروع تجريبي لتطوير أول نظام لتخزين طاقة البطاريات في فيتنام، ومبادرات أخرى في قطاعات مختلفة مثل التعليم والزراعة والصحة والبيئة والطاقة وغيرها.

أيضاً أكدت الإدارة الأمريكية نيتها تقديم مزيد من الدعم لفيتنام في مجال التصنيع، وتطوير البنية التحتية الرقمية والمادية عالية الجودة، والمشاركة الأوسع والمستدامة في سلاسل التوريد الإقليمية والعالمية، مع التركيز بشكل خاص على منطقة "دلتا ميكونغ" في فيتنام. وقد اختتم الرئيس الأمريكي زيارته باستذكار حرب فيتنام (1955-1975)، وزيارة نصب أقيم تكريماً لصديقه السيناتور جون ماكين، الذي شارك في هذه الحرب، وتوفي في عام 2018. 

حدود التوقعات الأمريكية

مما لا شك فيه، فإن إرساء الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين واشنطن وهانوي، والمبادرات التي أعلنتها إدارة الرئيس بايدن في ختام الزيارة، تُمثِّل نقطة تحوُل في تطور العلاقات بين الخصمين السابقين. كما أن العلاقات الأوثق مع الولايات المتحدة قد تعني امتيازات تجارية عديدة لفيتنام، واعتماداً أقل على الصين، بحيث تكون فيتنام مركزاً للتصنيع من قِبَل الشركات الأمريكية، ولاسيما أن البلاد تمتاز بامتلاكها قوة عاملة شابة ومتعلمة تعليماً عالياً.

ومع ذلك، من المهم أيضاً تأكيد أنه لا يُوجَد ضمان لاستمرار هذه المبادرات أو تمويلها إذا تغيرت الإدارة في البيت الأبيض أو الأغلبية الحزبية في الكونغرس؛ وبالتالي فإن استعادة مصداقية الولايات المتحدة مع حلفائها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، بما في ذلك فيتنام، سوف ترتبط بتنفيذ هذه المبادرات على أرض الواقع، ومدى استمرارها في المستقبل.

استراتيجياً، وعلى الرغم من أن نتائج زيارة الرئيس بايدن تُعد بالنسبة للصين تهديداً متزايداً في محيطها المباشر، وخاصةً بعد نجاح واشنطن في الأشهر الأخيرة في توسيع التعاون مع أستراليا والهند والفلبين، وجَمْع قادة اليابان وكوريا الجنوبية معاً في كامب ديفيد في قمة غير مسبوقة لإبرام تحالف ثلاثي غير رسمي ضد الصين، فإنه لا يمكن القول إن فيتنام سوف تكون حليفاً أمنياً أو عسكرياً للولايات المتحدة، أو أنها على استعداد لخسارة الصين أو معاداتها.

ويرجع ذلك إلى أن فيتنام ترفض الانجرار إلى التنافس بين القوى الكبرى، وتتجنب استعداء الصين قَدْر الإمكان، وتعتمد بشكل أساسي حتى اليوم على الأسلحة الروسية، وتحاول مثل غالبية دول جنوب شرق آسيا الحفاظ على توازن استراتيجي في بيئة دولية معقدة وغامضة. كما أن فيتنام تُكرِّر دائماً التزامها بسياسة "اللاءات الأربع"، طويلة الأمد، التي شكلت عناصر سياستها الخارجية منذ انتهاء الحرب الأمريكية في فيتنام، وهي: (لا تحالفات عسكرية، لا ولاء لدولة ضد أخرى، لا قواعد عسكرية أجنبية، لا تهديدات بالقوة أو استخدامها).

لهذا سوف تواصل فيتنام سياستها المتوازنة والحذرة، والمُتمثلة في "تنويع وتعدُد الشراكات" بدلاً من الانحياز كلياً للصين أو للولايات المتحدة، مُفضِّلةً الظهور بصورة الدولة الصديقة للجميع والشريك الفعَّال في كل جهود دعم التعاون والاستقرار الإقليمي والعالمي، كما يُقِّر دستورها؛ وهو ما سيوفر لها هامشاً أوسع للحركة والمناورة السياسية ويُعزِّز استقلاليتها الاستراتيجية، وبالتالي توظيف التنافس المُحتدِم بين بكين وواشنطن في المنطقة لما يخدم مصالحها الوطنية.