أخبار المركز
  • سعيد عكاشة يكتب: (كوابح التصعيد: هل يصمد اتفاق وقف النار بين إسرائيل ولبنان بعد رحيل الأسد؟)
  • نشوى عبد النبي تكتب: (السفن التجارية "النووية": الجهود الصينية والكورية الجنوبية لتطوير سفن حاويات صديقة للبيئة)
  • د. أيمن سمير يكتب: (بين التوحد والتفكك: المسارات المُحتملة للانتقال السوري في مرحلة ما بعد الأسد)
  • د. رشا مصطفى عوض تكتب: (صعود قياسي: التأثيرات الاقتصادية لأجندة ترامب للعملات المشفرة في آسيا)
  • إيمان الشعراوي تكتب: (الفجوة الرقمية: حدود استفادة إفريقيا من قمة فرنسا للذكاء الاصطناعي 2025)

فاتورة التقشف:

الأبعاد الاقتصادية لاحتجاجات السودان

10 يناير، 2019


قبل نحو عام، اندلعت احتجاجات صغيرة في عدة مدن بالسودان تندد بالارتفاع الجامح للأسعار. واستعادت الشوارع تلك الشرارة في نهاية ديسمبر لتكون أكثر قوة واتساعًا وحدة، وتشمل عدة أقاليم حتى تصل إلى العاصمة. وما بين الواقعتين كان الاقتصاد هو الفاعل والمحرك الأبرز للشارع. لم يكن الوضع المتردي للاقتصاد السوداني وللأزمات المعيشية التي يحياها السودانيون مفاجئة؛ بل إن عام 2018 شهد مؤشرات وأحداثًا وقرارات اقتصادية أشارت بوضوح إلى أن هذا الوضع آخذ في التفاقم، ومنذر بالغضب، ولا يحظى بأي رضى عام، غير أن الحكومة السودانية لم تضع خطة استجابة فاعلة إزاء هذا الغضب.

الدوافع الاقتصادية للاحتجاجات:

اندلعت الاحتجاجات منددة بالانخفاض في مستوى المعيشة، وبالأزمات المعيشية اليومية التي يُعاني منها المواطنون، والتي يمكن الإشارة إليها فيما يلي: 

1- ارتفاع نسبة التضخم: أظهرت بيانات جهاز الإحصاء في السودان مضاعفة معدل التضخم من 25% في ديسمبر 2017 إلى 50% في يناير عام 2018، وذلك كنتيجة مباشرة لرفع الدعم عن السلة والخدمات الأساسية، حيث ارتفعت أسعار السلع الأساسية والاستراتيجية بحوالي 300% في بداية 2018. 

وقد فشلت الحكومة طوال عام في السيطرة على جماح التضخم الذي استمر في الارتفاع حتى وصل إلى أكثر من 68% في سبتمبر الماضي، وهو من أعلى معدلات التضخم في العالم.

وأكثر ما دفع المواطنين للاحتجاج كان ارتفاع التضخم فيما يخص السلع الغذائية الرئيسية، فوفقًا لما نقلته "رويترز" فقد أظهرت الشيكات الفورية مع التجار وبائعي السوق أن تكلفة كيلو من الدقيق قد ارتفعت خلال شهر أكتوبر بنسبة 20%، ولحوم البقر 30%، والبطاطا 50%. 

2- نقص السلع الأساسية: شهدت الأسواق السودانية، بدايةً من الصيف الماضي، نقصًا في توافر السلع الأساسية نتيجة لاتساع عمليات التهريب، وجاء على رأس هذه السلع الدقيق المستخدم في إنتاج الخبز، والذي لا يتوافر في الأسواق التقليدية بالرغم من الارتفاع الحاد في سعره، فقد رفع أحد المتظاهرين لافتة مكتوبًا عليها "أنا لا أجد الخبز منذ 4 أيام". 

ويضاف إلى قائمة السلع الشحيحة الجازولين الذي اختفى تقريبًا من محطات الوقود بالرغم من أنه الوقود اللازم لتشغيل مولدات المصانع وغيرها من الورش والمنشآت المنتجة.

3- شح السيولة النقدية: تفاقمت أزمة شح السيولة النقدية في الربع الأخير من عام 2018، حيث ظهرت الطوابير على ماكينات الصرف الآلي وقد خابت آمالها في الحصول على النقد اللازم لمعاملاتها اليومية، وقد وضعت البنوك حدًّا أقصى للسحب لا يتعدى 2000 جنيه.

وفي هذا السياق، صرح أحد العاملين في أحد البنوك بأن "بنك السودان المركزي يصرف للبنك نحو مائة ألف جنيه في اليوم، لا تفي بالكاد تصريف 50 عميلًا، فيما يدخل البنك يوميًّا نحو 120 شخصًا" .

وأدت تلك الأزمة -بطبيعة الحال- إلى فقدان الأفراد الثقة في الجهاز المصرفي وفي البنك المركزي السوداني، واندلعت أزمة السيولة لعدة أسباب؛ أولها الارتفاع الحاد للتضخم وبالتالي ارتفاع الطلب على النقود، وثانيها تحول الأفراد من الادخار بالعملة المحلية إلى الادخار بالعملات الأجنبية والذهب، وثالثها ضعف الجهاز المصرفي في الاستجابة للأزمة وإدارة النقد داخل الاقتصاد.

4- انخفاض قيمة العملة: يعاني السودان من فقده عددًا من مصادر النقد الأجنبي، فمع انفصال الجنوب في عام 2011 فَقَدَ السودان أكثر من 70% من ثروته النفطية، بالإضافة إلى ضعف سيطرة الدولة على إنتاج الذهب، واتساع عمليات تهريبه.

ولا يُمكن إغفال ما عاناه الاقتصاد السوداني جراء العقوبات الأمريكية المفروضة عليه خلال العقدين المنصرمين، فتم تجميد الأصول المالية للسودان في الولايات المتحدة الأمريكية، وفرض الحظر على أملاك سودانيين تورطوا في الحرب الأهلية بدارفور، ووقف شركات سودانية كانت عاملة في الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد أدى ما سبق إلى أزمة في سيولة النقد الأجنبي بلغت ذروتها في العامين الأخيرين، وقد نتج عنها اتساع وتوحش للسوق السوداء، حيث بلغ سعر الصرف في السوق السوداء أضعاف سعره في السوق الرسمية، وهو ما دفع البنك المركزي إلى تخفيض الجنيه السوداني رسميًّا ثلاث مرات خلال عام واحد، ليصل حاليًّا إلى 47.5 مقابل الدولار .

5- الإجراءات التقشفية: اتجه السودان منذ نهاية عام 2016 إلى إجراءات تقشفية كانت قاسية الوقع على الشارع بالرغم من تدرجها، وقد تركزت هذه الإجراءات حول تخفيض الإنفاق العام، وزيادة الإيرادات الضريبية، والإيرادات الجمركية.

وقد بدأت الإجراءات بتضييق الدعم الموجه للسلع والخدمات الأساسية، حيث أعلنت الدولة أن رفع الدعم سيتم تدريجيًّا إلى أن يتم رفعه بالكامل بحلول عام 2019. ومنذ نوفمبر 2016، أصدرت الدولة قرارات متتالية برفع الدعم عن الخبز والمحروقات والأدوية، ورفع أسعار الكهرباء.

أما بخصوص توسيع إيرادات الدولة، فقد ألغت الدولة كافة الإعفاءات الضريبية عدا تلك الممنوحة لمدخلات الإنتاج، كما ضمت وزارة المالية 20 ألف ملف جديد للمظلة الضريبية خلال عام 2018، ويضاف إلى ما سبق رفع سعر الدولار الجمركي بنسبة 300% في موازنة عام 2018. 

6- تصاعد الفساد: أصبح السودان من أكبر الدول فسادًا داخل إقليم الشرق الأوسط وداخل القارة الإفريقية، وهو ما ندد به المحتجون، متهمين المسئولين الحكوميين به، وطبقًا لمنظمة الشفافية الدولية فإن مؤشر مدركات الفساد يبلغ 0.16 في السودان، وبذلك احتل السودان المرتبة 175 من بين 180 دولة مدرجة في هذ المؤشر في عام 2017. 

7- اتساع اللا مساواة: يعاني السودان، شأنه شأن جيرانه من دول الشرق الأوسط، من اتساع معدلات اللا مساواة التي تذهب بمجهود التنمية إلى غير هدفها المطلوب، وتتسبب في تراجع السلم الاجتماعي واتساع الاحتقان الشعبي.

وطبقًا للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، فإن مؤشر اللا مساواة في الدخول يصل إلى 33% في السودان، كما أن الخسارة الإجمالية في مؤشر التنمية البشرية والعائدة إلى اللا مساواة تساوي 34.5%. 

استجابة مهتزة:

 لم تقدم الحكومة السودانية أي استجابة للاحتجاجات الشعبية الأخيرة المندلعة منذ أسبوعين، إلا مجرد وعود بالحل، وتحذير من الانسياق وراء ما أسمته تدخلًا خارجيًّا، أو استغلالًا للموقف.

غير أن ما يهم في هذا الموقف هو إلقاء نظرة أكثر شمولًا على استجابة الحكومة السودانية- على صعيد وضع السياسات- للأزمات وللاختلالات التي ضربت اقتصاد السودان على مدار عام 2018. فكما سبقت الإشارة فإن الدوافع الاقتصادية للاحتجاج الشعبي كانت كامنة منذ بداية العام، والتي اتصفت بالاهتزاز، وهو ما نبينه على النحو التالي:

1- تخبط قرارات البنك المركزي: اتصفت قرارات البنك المركزي للسودان خلال عام 2018 بالاهتزاز والتردد وقصر النظر. فعلى سبيل المثال، لجأ البنك المركزي السوداني إلى طبع فئات جديدة من العملة لمواجهة أزمة نقص السيولة النقدية، وهو ما زاد بدوره من ارتفاع التضخم الجامح أصلًا، وذلك عوضًا عن بحث آليات أخرى لسحب السيولة من خارج الجهاز المصرفي، وعوضًا عن بحث آليات لتوسيع غطاء النقد من ذهب وعملات أجنبية.

وفي السياق نفسه، اتخذ البنك المركزي قرارات بشأن وضع حدٍّ أقصى للسحب اليومي تارة، وإلغائه تارة، ثم تطبيقه بحدود مختلفة باختلاف البنوك، وهو ما رفع من عدم ثقة الأفراد بالقطاع المصرفي كله، وزاد من إقبال المودعين على سحب أموالهم من البنوك.

2- غياب توازن المصالح: يبدو أن الحكومة قد انحازت في سياستها المالية التقشفية إلى تغليب مصلحتها المباشرة المتمثلة في تخفيض عجز الموازنة العامة، على حساب مصلحة المواطنين المتمثلة في توفير السلع الأساسية والخدمات العامة ورفع مستوى المعيشة، ما أفضى إلى غياب توازن المصالح اللازم لحدوث الاستقرار.

وأصدرت الدولة إجراءات تقشفية قاسية دون أن تضمن رضاء عامًّا، ودون أن تجري حوارًا مجتمعيًّا فاعلًا لمناقشتها وجدولتها وبالتالي القبول بها، وهو ما أسفر في المحصلة عن احتجاجات مستمرة وتصاعد للغضب الشعبي. 

وثمة آليات كانت متاحة أمام الدولة، فكان يمكن للدولة أن تمد أمد رفع الدعم، ليكون بكميات أقل على وقت أطول، كما أنه غاب عن الدولة أن تطبق مرحلة تمهيدية لتعد الاقتصاد لمرحلة التقشف.

3- غياب التغطية التمويلية: نعني هنا غياب الموارد المالية اللازمة لتغطية التغييرات التي استتبعها التقشف الاقتصادي، ويمكننا أن نشير إلى نوعين؛ النوع الأول هو فشل الدولة في توفير موارد من النقد الأجنبي تكفي لتمويل استجابتها للاختلالات الاقتصادية، ولتغطية النتائج القاسية للتقشف الاقتصادي على الأفراد.

أما النوع الثاني، وهو غياب التغطية التمويلية للمواطن، فيقع تحت مسئولية الدولة، ونعني هنا تحديدًا رفع مستويات الأجور لتواكب الموجات الجامحة للتضخم، وتواجه آثار رفع الدعم الحكومي.

4- تصاعد نشاط التهريب:  لم تنجح الدولة في إحكام قبضتها على تجار السوق السوداء، ومهربي السلع الأساسية والمواد التموينية، كما لم تنجح في المحافظة على ذهب البلاد من التهريب. وفي السياق ذاته، فشلت آليات البنك المركزي والأجهزة الرقابية للدولة في التصدي للمضاربين في العملات والأسواق الأجنبية.

ونهاية، فإن الغضب الشعبي الذي وصل إلى حد المطالبة بإسقاط النظام لم يكن خافيًا عن النظام ورأسه، بل بدأت شرارته منذ نحو عام، وربما لو كانت الدولة قد اتخذت استجابة أعمق رؤية وأكثر تهدئة لتباطأت وتيرة الاحتجاجات وتراجعت رقعتها، ولربما لم تندلع أصلًا.