أخبار المركز
  • يشارك مركز "المستقبل" في الدورة الـ33 لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب في الفترة (29 إبريل - 5 مايو 2024)، وجناحه رقم C39 في القاعة 9
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد 36 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • صدور العدد السادس من "التقرير الاستراتيجي" بعنوان "حالة الإقليم: التفاعلات الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط 2024"
  • محمد خلفان الصوافي يكتب: (منتدى الخليج وأوروبا.. دبلوماسية جماعية للتهدئة الإقليمية)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (تأملات حول فشل جهود السلام الفلسطينية الإسرائيلية)

حروب تجارية:

خصائص "الحمائية الجديدة" وتأثيراتها في الاقتصاد العالمي

17 أغسطس، 2023


لجأت عدة دول في العالم إلى اتخاذ إجراءات احترازية للحفاظ على مخزون السلع الأساسية في ظل أزمة غذاء عالمية، بسبب تأثر سلاسل الإمدادات على إثر اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية منذ فبراير 2022، ولعل أبرزها أخيراً قيام الهند في 20 يوليو 2023 بحظر تصدير الأرز الأبيض "غير البسمتي" في مسعى منها للحد من ارتفاع الأسعار المحلية. وقد أعادت مثل هذه الإجراءات الحديث مرة أخرى عن الحمائية وتأثيرها في النظام الاقتصادي العالمي.

وتُمثل الحمائية أحد أهم موجهات السياسة التجارية التي تطبقها مختلف دول العالم النامي منها والمتقدم. وتطورت أدوات السياسات الحمائية وأهدافها بشكل كبير عبر الزمن وفقاً لتطور الحياة الاقتصادية وتعقدها وتغير قواعدها. وقد كانت التعريفات الجمركية تُمثل أهم أداة في السياسات التجارية حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي عندما انتهت جولة أوروغواي للمفاوضات التجارية في إبريل 1994 بإقرار إنشاء منظمة التجارة العالمية World Trade Organization (WTO)، التي قامت على أساس أن تكون هي الراعي الرئيسي لمبدأ تحرير التجارة من خلال مراقبتها تخفيض التعريفات الجمركية والتخلص من التحديد الكمي للتجارة وإلغاء نظام الحصص، وإجراء مراجعة دورية للسياسة التجارية لدول العالم بهدف تقييم درجة الالتزام بأحكام الاتفاقية. 

وبالفعل، فقد أسهمت عقود من الزمن سادت فيها سياسات تحرير التجارة الخارجية في فتح الأسواق لتصريف المنتجات، وفتحت الباب أمام دول العالم للتخصص في إنتاج وتصدير ما تتميز به نسبياً وفقاً لمبدأ الميزة النسبية في التجارة الدولية، وصار هناك اعتماد متبادل بين دول العالم في تصدير واستيراد السلع، وتكامل الأسواق وخلق فرص عمل جديدة، واتسع نطاق شبكات الإنتاج والتوزيع عبر مختلف دول العالم وصارت أكثر تعقيداً. وقد أسهمت هذه التطورات في انتعاش التجارة الخارجية واعتبارها محركاً للنمو الاقتصادي العالمي، إلا أن طبيعة النظم الاقتصادية الرأسمالية تجعلها تمر بأزمات اقتصادية من وقت لآخر. ومع تواتر حدوث الأزمات الاقتصادية بأشكالها المختلفة وسعي الدول لإيجاد طرق مبتكرة لحماية اقتصاداتها من الصدمات الخارجية، انتشرت نزعة جديدة تقوم على أساس تطبيق سياسات اقتصادية تقييدية بشكل صار يُعرف باسم "الحمائية الجديدة" "New Protectionism".

وفيما يلي نستعرض مفهوم الحمائية الجديدة، وأهم أشكالها، والسياق الاقتصادي الدولي الذي ساعد على انتشارها، مع الإشارة إلى حالات مختارة للحمائية الجديدة ظهرت عند التعامل مع جائحة "كورونا"، والتدابير الأوروبية الأمريكية بشأن أشباه الموصلات، ثم قانون مكافحة التضخم الأمريكي، وننتهي بعد ذلك بعرض للتداعيات المحتملة لهذه السياسات على النظام التجاري الدولي متعدد الأطراف.

تطور الحمائية التجارية:

نشأت فكرة تشديد الرقابة على التجارة الخارجية قديماً بهدف زيادة قوة الدولة عن طريق تقييد الواردات وتشجيع الصادرات من أجل جلب المعدن النفيس (الذهب والفضة)، ثم تطور استخدام أدوات السياسة التجارية من أجل حماية الإنتاج الوطني من المنافسة الأجنبية، حيث أدت فرضية حماية الصناعات الناشئة Infant Industry argument دوراً كبيراً في السياسة التجارية الأمريكية. وفي نهاية القرن العشرين وخصوصاً في الثمانينيات، ظهرت الحمائية وانتشرت في دول أوروبا بشكل كبير وتواكب ذلك مع مفاوضات جولة طوكيو التجارية متعددة الأطراف عام 1979 للاتفاق على التعريفات الجمركية والتجارية "GATT".

ثم تصاعدت بشكل كبير في الولايات المتحدة الأمريكية وباقي دول العالم، وكان الهدف من الحمائية في ذلك الوقت الحد من الصادرات المتزايدة للدول الصناعية الجديدة في آسيا كاليابان، حيث مثلت صادراتها تحديات متزايدة وخطرة للقطاعات الصناعية التقليدية في الدول الصناعية. وفي السنوات اللاحقة، ظهرت أشكال جديدة من الحمائية في النظام الاقتصادي العالمي، سنورد تعريفها وخصائصها على النحو التالي:

1- خصائص الحمائية الجديدة: إن مفهوم الحمائية الجديدة "new protectionism" ليس مفهوماً حديثاً كما قد يتصور البعض، وإنما هو مفهوم قديم يرجع إلى ثمانينيات القرن العشرين، وقد ظهر في كتابات Baldwin عام 1986، حيث أطلق هذا المسمى على السياسات الحمائية المتشددة للولايات المتحدة والتي جاءت كرد فعل تجاه التحول الهيكلي المتمثل في ضعف سيطرتها على النظام الاقتصادي العالمي وانتقال القوة الاقتصادية نحو دول الجماعة الاقتصادية الأوروبية "EC" واليابان في ذلك الوقت.

وقد أوضح Fischer و Ethierأهم جوانب التفرقة بين الحمائية التقليدية والحمائية الجديدة في أن الحمائية التقليدية التي سادت حتى الحرب العالمية الثانية كانت تتم صياغتها ضمن قانون التعرفة الجمركية الذي يوضع لمرة واحدة ويُطبق على الجميع "once-and-for-all"، إلا أن الوضع اختلف في ظل حالة الهيمنة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية التي جعلت الولايات المتحدة في وضع احتكاري مهيمن مكّنها من تطبيق سياسات حمائية انتقائية تستهدف أطرافاً تجارية بعينها وليست متكافئة الأثر على جميع الأطراف كما كان الحال في الحمائية التقليدية. ولعل أهم مثال على ذلك هو قوانين مكافحة الإغراق والرسوم التعويضية، والوقاية، وقوانين الممارسات التجارية غير العادلة والتقييد الطوعي للصادرات، حيث لا يمكن للشركاء التجاريين التيقن مسبقاً من خضوع صادراتهم لهذه الإجراءات من عدمه. ويُعد عدم اليقين تجاه تطبيق السياسة الحمائية أحد أهم سمات الحمائية الجديدة، بالإضافة إلى أن تطبيق هذه التدابير عادةً ما يكون بصفة مؤقتة وليست دائمة. 

2- أهم أشكال الحمائية الجديدة: ظهرت الحمائية الجديدة من خلال تبني عدد كبير من السياسات يمكن توضيح أهمها فيما يلي:

 تقوم الدول بحماية صناعاتها من خلال توجيه المشتريات الحكومية نحو السلع المُنتجة محلياً، وكان ذلك سبباً في وضع اتفاقية للمشتريات الحكومية Government Procurement Agreement (GPA) في منظمة التجارة العالمية لضمان ألا تكون سياسة المشتريات الحكومية أداة حمائية.

ب- دعم الصناعات المحلية: تقدم الدول دعماً لصناعاتها المحلية، إما بهدف تخفيض سعر منتجاتها في مواجهة المنتجات المستوردة للتأثير في المنافسة في السوق المحلي، أو دعم الصادرات للتأثير في تنافسيتها في السوق الخارجية خلافاً لواقع القدرة التنافسية للصناعات المحلية.

ج - معايير الصحة والسلامة: قد تفرض الدول معايير متشددة للصحة والسلامة كشرط لدخول الواردات من بعض السلع، في الوقت الذي قد لا تستوفي فيه السلع المثيلة المصنعة محلياً نفس هذه الشروط، وبالتالي فإن المعايير تُستخدم كحماية مستترة للصناعات المحلية أمام منافستها الأجنبية.

د- معايير الجودة والمواصفات والمقاييس: تُستخدم هذه المعايير أيضاً كحماية مستترة أمام الواردات، خاصة عندما تكون السلع المحلية لا تستوفي نفس المواصفات.

هـ - تطبيق إجراءات بيروقراطية متعمدة لتعطيل الإفراج عن سلع بعينها.

و- تطبيق سياسات نقدية تؤدي إلى تخفيض متعمد لسعر صرف العملة بهدف التأثير في القدرة التنافسية لمنتجاتها في الأسواق العالمية أو الحد من وارداتها. 

وقد تصاعدت حدة المطالبة بوجود نظام حمائي جديد، خصوصاً من الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وبررت هذه الدول الحاجة إلى النظم الحمائية بالأزمات وضعف الانتعاش وتفاوت أسعار الصرف والجمود الهيكلي. فعلى سبيل المثال، في عام 1987 واجهت منظمة التعاون والتنمية "OECD" عجزاً في ميزانيتها يصل إلى 30 مليار دولار مقابل 16 مليار دولار عام 1986، وبلغ عجز الميزان التجاري الأمريكي نحو 132 مليار دولار عام 1986 مقارنة بنحو 117 مليار دولار عام 1985. في حين استطاعت اليابان تحقيق فائض بنحو 77 مليار دولار عام 1986 مقارنة بنحو 36.8 مليار دولار عام 1984.

لذا لجأت الدول الصناعية إلى الاحتماء بنصوص الوقاية لكي تبرر وضع قيود على واردات الدول النامية إليها. وهو ما نصت عليه المادة 19 من اتفاقية "الجات" بحماية الدول المستوردة لاقتصاداتها إذا كان الاستيراد يتسبب في الإضرار بها. هذا إلى جانب ما قامت به الولايات المتحدة عام 1989، وعُرفت هذه الإجراءات بالإجراءات الرمادية "grey area measures" ومن أشهرها ما أُطلق عليه "التقييد الاختياري للصادرات". 

في هذا الإطار، سجلت سكرتارية "الجات" في عام 1989 نحو 236 حالة من الحالات التي تم الاتفاق على قيامها بهذا النوع من التقييد، منها 127 حالة رتبتها المجموعة الأوروبية، و97 حالة للولايات المتحدة، و12 حالة لليابان ومثلها لكندا، و6 حالات للسويد. ووفقاً لذلك، فإن الدول الصناعية الكبرى هي التي تستخدم هذه القيود بشكل أساسي، وحتى الآن تستخدم الدول في أوقات الأزمات الاقتصادية الكبرى بعض القيود على الواردات، ومنها ما حدث في الأزمة الآسيوية عام 1997، وما حدث خلال الأزمة الاقتصادية عام 2007. وتشير التقارير، على سبيل المثال، إلى زيادة القيود الحمائية بنسبة 23% في الفترة من 2008 وحتى 2014، وفي عام 2018 تأثر النمو الاقتصادي العالمي بالحرب التجارية وفرض القيود على التجارة بين الولايات المتحدة والصين، وأخيراً ما نتج عن جائحة "كورونا" والحرب الأوكرانية الروسية التي أثرت بشكل كبير في التدفقات التجارية البينية. 

حالات مختارة: 

تشهد الحياة التجارية الحديثة العديد من السياسات الحمائية التي يمكن تصنيفها كشكل من أشكال الحمائية الجديدة. ونتناول هنا ثلاث حالات مختارة؛ وهي: السياسات التجارية أثناء جائحة "كورونا"، والترتيبات الأوروبية الأمريكية بشأن أشباه الموصلات، وقانون الحد من التضخم الأمريكي.

1- السياسات التجارية أثناء جائحة "كورونا": أحدثت جائحة "كورونا" صدمة للاقتصاد العالمي في جانبي العرض والطلب، ومعها حدث اضطراب في سلاسل الإمداد وتعطل النشاط الاقتصادي، ودفع ذلك الدول المُصدرة، وخاصة الصادرات الغذائية والصحية، لتقييد صادراتها؛ خوفاً من شح السلع في السوق المحلية أو لمواجهة النقص المُحتمل في الواردات، وهو ما يُعد تغيراً جوهرياً في حركة التجارة الخارجية وتقييداً لها، حيث أغلقت عدد من الدول حدودها وبدأت المصالح القُطرية تسيطر على صياغة السياسات التجارية للدول تحت مسمى السيادة وتحقيق الأمن القومي.

وقد أحدثت جائحة "كورونا" أزمة مزدوجة على جانبي العرض والطلب؛ فمن جهة تأثر قطاع الأعمال وانخفض الإنتاج العالمي نتيجة للتوقف الكلي أو الجزئي للنشاط الاقتصادي، ومن جهة أخرى انخفض الطلب الكلي نتيجة إحجام المستهلكين ومؤسسات الأعمال عن الإنفاق. 

فعلى جانب العرض، حدث انخفاض مباشر في عرض العمالة بسبب تزايد عدد المصابين والوفيات، وتفاقم الأثر على النشاط الاقتصادي بسبب عمليات الإغلاق والحجر الصحي التي تمت من أجل احتواء المرض، والتي أدت إلى تراجع الإنتاجية. وإضافة إلى ذلك، توقف سلاسل إمداد السلع الوسيطة التي عطّلت الإنتاج. على سبيل المثال، تُعد الصين أحد الموردين الرئيسيين للسلع الوسيطة لدول العالم، وبصفة خاصة في مجال الإلكترونيات والسيارات والآلات والمعدات والأدوية، وأدى توقف سلاسل الإمداد في الصين إلى توقف الكثير من الشركات والمصانع حول العالم التي تعتمد على بكين، ورفع تكاليف ممارسة الأعمال، مما أدى إلى انخفاض المعروض العالمي من السلع. 


وعلى جانب الطلب، تراجع مستوى الإنفاق نتيجة للخسائر المالية وحالة اللايقين. ودفعت تلك الخسائر بعض الشركات إلى تسريح العمالة، كما تأثرت خطوط الطيران العالمية وتعرضت لخسائر كبيرة نتيجة إغلاق الحدود. وتسببت الأوضاع السيئة للأسواق والشركات إلى توقع انخفاض الطلب، مما أدى إلى زيادة حالات إغلاق الشركات وفقدان الوظائف. 

كما تأثرت التجارة الدولية بشكل كبير بسبب ذلك الإغلاق، مما أدى إلى ضعف التجارة الدولية، وزيادة الضغوط الاقتصادية على الدول الناشئة، حيث ضربت جائحة "كورونا" سلاسل الإمداد العالمية التي تعتمد عليها عملية الإنتاج الصناعي، وتأثرت قطاعات النقل والشحن واللوجستيات، مما زاد من العقبات أمام حرية وسهولة تدفق التجارة. فبسبب الإغلاق والإجراءات الاحترازية، تأثرت وسائل النقل بشتى أنواعها، ومن هنا ظهرت القيود على التجارة الخارجية وحدت من حرية تدفق السلع ومستلزمات الإنتاج عبر الحدود.

على جانب آخر، كشفت أزمة "كورونا" عن نقاط الضعف في سلاسل الإمداد العالمية، وينطبق هذا بشكل خاص على قطاع الصحة الذي تأثر بشكل كبير نتيجة الجائحة، وسعي الدول إلى امتلاك اللقاحات المُضادة للفيروس. وعندما أُغلقت المصانع الصينية نتيجة "كورونا"، عانت دول العالم في التحول لبدائل؛ بسبب ضعف المرونة في قاعدة الموردين الخاصة بها، وبذلك فقد أوضحت تلك الأزمة ضرورة تنويع سلاسل الإمداد.

وخلال السنوات الأخيرة، صارت الصين من أقوى الدول بالنسبة للاقتصاد العالمي. ولا تتعلق الأهمية المتزايدة لبكين في الاقتصاد العالمي بوضعها كمصنع ومُصدر للمنتجات الاستهلاكية فقط، بل صارت الصين المورد الرئيسي للمدخلات الوسيطة لشركات التصنيع في الخارج، حيث تنشأ حوالي 20% من التجارة العالمية في تصنيع المنتجات الوسيطة من بكين، ارتفاعاً من 4% عام 2002. 

بصفة عامة، تعددت أشكال استجابة الحكومات لوباء "كورونا"، وشملت الإجراءات؛ فرض رسوم جمركية، واتباع سياسات تميزية وصلت أولاً إلى القطاع الصحي الذي كان يمر بأزمة حرجة في تلبية الطلب على اللقاحات فظهرت سياسة "قومية اللقاحات"، حيث وضعت الحكومات تدابير تجارية مؤقتة تهدف إلى تقييد صادرات الإمدادات الطبية الحيوية وتم تطبيق تقييد فوري على المكونات الأساسية والمكونات الطبية ومعدات الحماية الشخصية وأجهزة التنفس الصناعي.

2- التدابير الأوروبية الأمريكية بشأن أشباه الموصلات: ظهرت أفكار جديدة للحماية من مخاطر تقلبات سلاسل الإمداد، فكان الإعلان المشترك للاتحاد الأوروبي بشأن المعالجات وتكنولوجيا أشباه الموصلات (Industrial Alliance on Processors and Semiconductors) والذي تم إصداره في يونيو 2021، والذي يهدف إلى خلق تعاون بين مبادرات البحث والاستثمار لأعضاء الاتحاد الأوروبي. كما أعلن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عن الالتزام "ببناء شراكة لإعادة التوازن إلى سلاسل الإمدادات العالمية لأشباه الموصلات". وتجدر الإشارة إلى أن دولاً آسيوية تحتكر إنتاج الرقائق الإلكترونية، وتعوق ندرتها الحالية في الأسواق انتعاش قطاعات إنتاج السيارات والأجهزة الإلكترونية في أوروبا والولايات المتحدة. 


3- قانون التضخم الأمريكي: أقر الكونغرس الأمريكي قانون خفض التضخم في أغسطس من العام الماضي، بحوافز إجمالية تتجاوز 430 مليار دولار، ويهدف القانون إلى الاستثمار في إنتاج الطاقة محلياً ودعم التصنيع، والحد من الانبعاثات الكربونية بنسبة 40% تقريباً بحلول عام 2030. ووفقاً للقانون الأمريكي، سيتم ضخ 370 مليار دولار في برامج أمن الطاقة وتغير المناخ، عبر تقديم إعفاءات ضريبية للشركات التي تستثمر في الطاقة النظيفة، ودعم كبير للسيارات الكهربائية والبطاريات ومشروعات الطاقة المتجددة، طالما كانت المكونات المستخدمة في هذه المشروعات مصنوعة داخل الولايات المتحدة.

ويمنح إقرار هذا القانون مزايا ضريبية ضخمة وإعانات أخرى لتوطين سلاسل توريد البطاريات، ومن ثم تعزيز استخدام المركبات الكهربائية، إذ يهدف القانون إلى كبح التضخم بتقليل العجز التجاري، وخفض أسعار الأدوية، إلى جانب الاستثمار في إنتاج الطاقة محلياً وخاصة الطاقة النظيفة.

وتهدف واشنطن من خلال الحوافز الكبيرة التي طرحها ذلك القانون، إلى خفض اعتمادها على الواردات الصينية عن طريق تقليل ربط سلاسل الإمداد بالصين، وإن كان هذا الهدف يُعد صعباً حيث تسيطر الشركات الصينية على ما يُقدر بـ80% من سلسلة التوريد العالمية لتصنيع الطاقة الشمسية، وتُنتج ما يقرب من نصف المعدات اللازمة لتصنيع الألواح الشمسية ومكوناتها، وذلك وفقاً لتقديرات وكالة الطاقة الدولية، وتأتي نسبة 97% من السبائك في العالم من الصين. وكنتيجة لتلك المزايا التحفيزية الضخمة لتقوية الصناعات المحلية وزيادة النفوذ الأمريكي على سلاسل الإمداد، فإنها تثير مخاطر زيادة السياسات الحمائية والحروب التجارية بين الدول وظهور نتائج عكسية على النظام التجاري العالمي.

ويُمثل قانون خفض التضخم الخطوة الأحدث ضمن الاتجاه المتزايد الذي سلكته بعض الدول لاتخاذ إجراءات حمائية على صعيد السياسات الصناعية لجني جميع المنافع الاقتصادية المتحققة من سلاسل الإمداد. فبعد الانقطاعات التي شهدتها سلاسل الإمداد على مستوى العالم بسبب الإغلاقات الاقتصادية جراء "كوفيد19"، تعكف الشركات والحكومات في الوقت الحالي على إعادة تقييم أمن الإمدادات، سواءً على مستوى الطاقة أو السلع الأخرى. وتُشكل الحاجة إلى خلق الوظائف وضمان أمن الإمدادات على المستوى المحلي، أداة قوية لتسريع وتيرة الاتجاه المتنامي بالفعل نحو الحد من التجارة والتعاون العالميين.

تأثيرات عالمية:

تؤدي حرية التجارة والتكامل الاقتصادي بين دول العالم إلى زيادة المنافع على مستوى دول العالم نتيجة تدفق السلع والخدمات والتمويل، بينما يؤدي تزايد القيود المفروضة على التجارة الدولية والتمويل إلى انكماش حجم التجارة ومن ثمّ الناتج الإجمالي المتولد عنها وبالتالي تراجع رفاهية المجتمعات. ويوضح الشكل التالي في جزئه الأيمن، تطور تدفقات السلع والخدمات والتمويل، بينما يوضح الجزء الأيسر تزايد القيود المفروضة على التجارة نتيجة الاضطرابات التي نجمت عن التجارة والتغير التكنولوجي والتي أضرت ببعض المجتمعات. وقد تراجع التأييد العام للانفتاح الاقتصادي في العديد من دول العالم، كما أن التوترات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم أخذت تتزايد وسط طفرة عالمية من القيود التجارية الجديدة. علاوة على أن الحرب الروسية الأوكرانية لم تتسبب في معاناة إنسانية وحسب، وإنما أفضت كذلك إلى اضطرابات هائلة في التدفقات المالية والمتعلقة بالغذاء والطاقة في أنحاء العالم.


وفي أكتوبر 2022، حذّر صندوق النقد الدولي من خفض توقعات النمو لعام 2023، حيث توقع نمواً في العام الجاري يبلغ نحو 2.7%، بعد توقعه نمواً يصل إلى 2.9%، ويرجع ذلك بالأساس إلى التطورات التي شهدتها السياسات التجارية في الآونة الأخيرة، حيث شهدت عدداً من التحولات التي أدت إلى تلاشي التكامل الاقتصادي والدفع نحو النمو البطيء للتجارة. وتشير بيانات "Global Trade Alert" إلى ارتفاع عدد الإجراءات التمييزية الجديدة التي أعلنتها اقتصادات مجموعة العشرين بشكل متزايد منذ عام 2012، كما تشير البيانات إلى أن التعريفات الجمركية على الواردات هي الأداة الأكثر استخداماً، حيث تُمثل نحو 30% من جميع الإجراءات المفروضة. أيضاً، زاد استخدام التدابير غير المباشرة بشكل تدريجي؛ مثل القروض الحكومية للشركات المُصدرة. إلى جانب هذه التدابير الحمائية، انخفض الدعم العام للانفتاح التجاري، بينما زادت الحمائية على مستوى العالم، حيث يعتقد البعض أن التجارة الحرة جعلت دول العالم أكثر عُرضة للأزمات الدولية والآثار غير المباشرة من الخارج. 

ختاماً، يمكن القول إن الحمائية التقليدية باستخدام تعريفات جمركية مرتفعة على سلع بعينها، يكون لها آثار متساوية وحيادية على جميع دول العالم ويمكن التنبؤ بآثارها مستقبلاً. أما الحمائية الجديدة التي ظهرت أواخر القرن الماضي وترتبط بنزعة الدول الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، للحفاظ على هيمنتها على أسواق سلع أو مناطق محددة، فلها آثار أشد ضراوة على النظام التجاري الدولي؛ إذ تستخدم أدوات تؤثر بشكل غير متماثل في دول العالم ولا يمكن التيقن مسبقاً من نوع الأداة المُستخدمة للحمائية أو فترة تطبيقها أو آثارها. كما أن استخدامها تجاه دول تسيطر على حصة ضخمة من الإنتاج والتجارة، مثل الصين، يدفع إلى حروب تجارية بين الطرفين، تؤدي إلى تقلص حجم التجارة العالمية، وتؤثر في النمو والتنمية في مختلف دول العالم، وتكون الدول النامية هي الخاسر الأكبر.