منذ بداية التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا يوم 24 فبراير 2022، تتكبد الأخيرة خسائر بشرية واقتصادية تتزايد يوماً بعد آخر، وجمدت العديد من الشركات المحلية والأجنبية عملياتها في البلاد، كما تأثرت حركة التجارة الخارجية مع إغلاق موانئ شرق أوكرانيا. علاوة على ذلك، أصبح الحصول على أساسيات الحياة مثل الغذاء ومياه الشرب، أكثر صعوبة في كثير من مناطق الحرب داخل أوكرانيا. وستكون لتطورات الصراع العسكري في أوكرانيا، آثار اقتصادية واجتماعية طويلة المدى. ويعكف المجتمع الدولي في الوقت الراهن على تقييم التكاليف الاقتصادية والاجتماعية التي تتكبدها أوكرانيا جراء الحرب، وبحث سُبل تقديم الدعم اللازم لها لاحتواء الأضرار البشرية والمادية.
تضرر البنية التحتية:
مع استمرار الحرب الروسية في الأراضي الأوكرانية، تتراكم خسائر الاقتصاد الأوكراني، حيث توقفت معظم الأنشطة الاقتصادية في البلاد، كما لحقت بالبنية التحتية الأساسية من الطرق والكباري والموانئ أضرار كبيرة. وتذهب التقديرات الغربية إلى أن الحرب الروسية لم تستهدف تدمير المواقع العسكرية الأوكرانية فقط، بل أيضاً الأهداف المدنية، وفقاً لوزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، كما جرى استهداف البنية التحتية للاتصالات في أوكرانيا، وفق وزارة الدفاع البريطانية. وتم إغلاق معظم الموانئ والمطارات الأوكرانية نتيجة الأضرار التي لحقت بها، كما أن كثيراً من الطرق والكباري إما تضررت أو دُمِّرَت، وفقاً لتقييم أولي لصندوق النقد الدولي.
وتسبب إغلاق الموانئ الأوكرانية المُطلة على البحر الأسود، في عرقلة حركة النقل البحري، وحاولت الحكومة الأوكرانية استبدال نقل البضائع الزراعية عبر السكك الحديدية إلى دول الجوار الأوروبي، قبل أن تحظر تصدير العديد من السلع الزراعية مؤخراً.
وعلى الرغم من صعوبة حصر الأضرار المادية في أوكرانيا بشكل نهائي حالياً، فإن التقديرات الأولية تشير إلى أن ما لا يقل عن 100 مليار دولار من البنية التحتية والمباني والأصول المادية الأخرى تم تدميرها، وفق كبير المستشارين الاقتصاديين للحكومة الأوكرانية، أوليج أوستينكو، وهو رقم مرشح للزيادة كلما طال أمد الحرب.
ويبدو أن موسكو كانت حريصة على تأمين خطوط الأنابيب ومنشآت الغاز الأوكرانية وعدم التعرض لها، لضمان تدفقات الغاز الروسي إلى أوروبا من دون انقطاع. ومع ذلك، اضطرت شركة تشغيل نظام نقل الغاز في أوكرانيا، التي تدير خطوط الأنابيب، في نهاية فبراير الماضي، إلى إلغاء مزادات ضخ الغاز الإضافية، التي كانت ستُضاف إلى التزاماتها التعاقدية العادية.
خسائر اقتصادية:
قبل الحرب الروسية، كان الاقتصاد الأوكراني بدأ لتوه استعادة عافيته من جائحة كورونا، مُحققاً معدل نمو بنسبة 3.4% في عام 2021، بعد انكماش بنسبة 4% في عام 2020، ومُحاولاً استعادة استقرار الأسعار ومستويات التشغيل قبل الجائحة. وبلغت الاحتياطيات النقدية لأوكرانيا مستوى قياسياً قدره 31 مليار دولار في العام الماضي. لكن سرعان ما تلاشت هذه المكاسب، حيث أُصيب الاقتصاد الأوكراني بشلل شبه تام مع التدخل العسكري الروسي.
ويرى صندوق النقد الدولي أن الصراع الدائر سيتسبب في دمار واسع النطاق للقدرة الإنتاجية لأوكرانيا، وتدهور تجارتها الخارجية، وتضاؤل قدرة الحكومة على تحصيل الضرائب، علاوة على زيادة تدهور الأوضاع المالية. ومن المتوقع ارتفاع الضغوط التضخمية في أوكرانيا مع ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء والمعادن وغيرها.
وبشكل عام، سينجم عن الحرب الجارية انكماش اقتصادي في أوكرانيا بنسبة تتراوح بين 25 و35%، وفق صندوق النقد الدولي، مقارنة بتقديرات سابقة بلغت 10%، ومن المحتمل أن تزيد الخسائر الاقتصادية كلما طال أمد الحرب. كما ستؤدي هذه الحرب إلى تصاعد فجوة التمويلي الخارجي لدى أوكرانيا إلى 4.8 مليار دولار، لذا سترتفع ديونها الخارجية، مع تزايد وتيرة الاقتراض إلى 60% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022 مقارنة بحوالي 50% في عام 2021. وستتزايد الضغوط التضخمية لتتضاعف إلى 20% في العام الحالي مقابل 10% في العام الماضي.
ووسط الحرب الدائرة، تواجه الشركات المحلية والأجنبية في أوكرانيا مخاطر واسعة؛ بسبب الاقتتال وتدمير البنية التحتية، مما دفع الكثير منها إلى تعليق أعمالها هناك، مثل شركة "كارلسبرج" الدنماركية التي أوقفت اثنين من مصانعها الثلاثة الموجودة في أوكرانيا. وبالمثل، فإن شركات مثل "نستله"، و"أنادولو إفيس" التركية للشعير، و"كناوف" الألمانية لصناعة مواد البناء، و"أورجين إنتربرايزس" الأيرلندية وهي شركة هندسة زراعية؛ أوقفت أيضاً عملياتها وأغلقت منشآت لها في أوكرانيا.
أزمة غذاء:
تؤثر الحرب الروسية - الأوكرانية على الأمن الغذائي العالمي وفق 3 مستويات؛ الأول يتعلق بأوكرانيا وروسيا، والثاني يرتبط بالدول التي تعتمد بشدة على صادرات روسيا وأوكرانيا من الحبوب والمواد الغذائية الأخرى، أي الأكثر انكشافاً عليهما، والمستوى الثالث يشمل باقي الدول والتي حتماً ستتأثر بصدمة ارتفاع أسعار الأسمدة والمواد الغذائية، ووجود نقص في بعض السلع الاستراتيجية، بسب الحرب الراهنة.
وسينصب التركيز هنا على الاقتصاد الأوكراني، حيث إنه مع احتدام الصراع في شرق البلاد، وتقدم القوات الروسية نحو العاصمة كييف؛ تعطلت بشكل كبير أعمال الشركات الرئيسية، وتوقفت سلاسل الإمداد الداخلية للأغذية وغيرها من الاحتياجات الأساسية، مما أثار معه مخاوف من نقص الطعام ومياه الشرب في أوكرانيا.
ويرى برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أن ثمة تدهوراً سريعاً للوضع الغذائي في أوكرانيا، لاسيما في المدن التي تشهد عمليات عسكرية مكثفة. فمدن مثل كييف وخاركيف، يتناقص مخزون الغذاء بها بشكل حاد، وكذلك أصبحت مياه الشرب شحيحة، في الوقت أيضاً الذي تُعمق الحرب المستمرة من صعوبة تحرك المنظمات الإنسانية، مما يفاقم أزمة إمدادات الطعام والمياه.
ولتقليل حدة هذه الأزمة، اتخذت الحكومة الأوكرانية قراراً بوقف تصدير العديد من السلع الزراعية، ومنها الحبوب والملح والسكر واللحوم والماشية، وأقرت بإلزام التجار بالحصول على تراخيص لتصدير سلع زراعية وغذائية، منها القمح والذرة وزيت دوار الشمس والدواجن والبيض؛ وهي خطوات تستهدف دعم الأمن الغذائي داخل البلاد وسط تدهور الظروف الإنسانية بسب الحرب الروسية.
سد الفجوة:
تُكثف أوكرانيا جهودها الدبلوماسية في الدوائر الدولية والأوروبية، للحصول على التمويلات الطارئة لأغراض الإنفاق العسكري والإنساني في مواجهة تداعيات الحرب الروسية، وهو ما يتبين على النحو التالي:
1- الاعتماد على المساعدات الذاتية: سعت أوكرانيا لحشد الأموال من السوق المحلي للأغراض العسكرية، وذلك من خلال إصدار ما يُعرف بـ "سندات الحرب"، وبحصيلة قدرها 8.1 مليار هريفنا أوكرانية (أي ما يُعادل 271 مليون دولار). وهذه عملية لم تكن سلسة، حيث واجه المستثمرون الراغبون في شراء تلك السندات، العديد من الصعوبات، في ظل ظروف الحرب. وبخلاف المصادر التقليدية، تسعى أوكرانيا للحصول على دعم عن طريق العملات المُشفرة، والرموز غير القابلة للاستبدال. وتلقت أوكرانيا تبرعات كعملات رقيمة، وجهت نحو 15 مليون دولار منها لصالح الجهود العسكرية. ويُقدر أن أوكرانيا ستستطيع جميع 50 مليون دولار إضافية من العملات المُشفرة، وفق نائب وزير التحول الرقمي في أوكرانيا، أليكس بورنياكوف.
2- الحصول على المساعدات الدولية: خصصت مؤسسات التمويل الدولية، تمويلاً سريعاً وطارئاً لاحتواء الأزمة الاقتصادية والإنسانية المُتصاعدة في أوكرانيا جراء الحرب الروسية. وقدم صندوق النقد الدولي مساعدة طارئة لأوكرانيا بقيمة 1.4 مليار دولار من أجل تخفيف الأثر الاقتصادي للحرب، كما سيقدم الصندوق 2.2 مليار دولار إضافية حتى منتصف العام الجاري.
كذلك فإن البنك الدولي بصدد تقديم حزمة مساعدات دولية بقيمة 3 مليارات دولار لأوكرانيا في الأشهر المقبلة، ومساندة إضافية للبلدان المجاورة التي تستقبل اللاجئين الأوكرانيين. وضمن تلك الحزمة، سيصرف البنك الدولي مساعدات بقيمة 723 مليون دولار لأوكرانيا، بعد الموافقة عليها في 7 مارس 2022، وستُخصص لصالح دفع الأجور والمعاشات التقاعدية وغيرها. فيما خصصت الأمم المتحدة 20 مليون دولار كمساعدات إنسانية طارئة لأوكرانيا والدول المجاورة.
وقررت عدة دول تقديم مساعدات عاجلة إلى أوكرانيا، وعلى رأسها الولايات المتحدة بحزمة مساعدات للأغراض الإنسانية والعسكرية بقيمة 13.6 مليار دولار، بالإضافة إلى اليابان بمبلغ 100 مليون دولار، وكوريا الجنوبية بنحو 10 ملايين دولار لصالح اللاجئين الأوكرانيين. وضمن الجهود الدولية لمساعدة أوكرانيا، دشن البنك الدولي صندوقاً لتلقي المنح الموجهة لأوكرانيا، ويساهم فيه حالياً كل من المملكة المتحدة والدنمارك ولاتفيا وليتوانيا وأيسلندا بإجمالي مبالغ 134 مليون دولار حتى الآن.
3- التفكير في خطط إعادة الإعمار: لا يلوح في الأفق حالياً قُرب انتهاء الحرب في أوكرانيا، ومع ذلك ظهرت دعوات أوروبية مبكرة للتفكير بشأن إعادة إعمار أوكرانيا، وإمكانية تمويلها من خلال المساعدات الأوروبية والدولية. وفي ظل المعارك الدائرة، لا يمكن حصر التكلفة الفعلية لإعادة الإعمار أو تقدير الاحتياجات التمويلية لأوكرانيا، على وجه الدقة. لكن بات واضحاً أن أوكرانيا ستتكبد تكلفة باهظة للتعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار في المستقبل.
ختاماً، يمكن القول إن الاقتصاد الأوكراني يعاني شبه شلل تام منذ بدء التدخل العسكري الروسي عبر الحدود الشرقية للبلاد، والاقتراب من العاصمة كييف. فقد توقفت معظم الأنشطة الاقتصادية والتجارية في أوكرانيا، وعلقت الشركات الرئيسية أعمالها هناك. والمؤكد أنه كلما طالت مدة الحرب الجارية، سترتفع حدة الخسائر الاقتصادية لأوكرانياـ وستزيد تكاليف إعادة إعمارها.