أخبار المركز
  • يشارك مركز "المستقبل" في الدورة الـ33 لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب في الفترة (29 إبريل - 5 مايو 2024)، وجناحه رقم C39 في القاعة 9
  • صدور كتاب من تأليف معالي نبيل فهمي بعنوان (قيد التشكُّل.. الشرق الأوسط بين تحولات النظام الدولي والتفاعلات الإقليمية)
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الأول من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • صدور كتاب جديد بعنوان (الكوابح والمحفزات.. حروب الشرق الأوسط)
  • صدور كتاب جديد بعنوان ("الديمغرافيا".. كيف تؤثر التحولات السكانية على الأمن القومي للدول؟)

كيف تمددت حرب أوكرانيا إلى صراعات البلقان والقوقاز؟

07 يونيو، 2023


مع بداية الحرب الروسية في أوكرانيا، توقع كثير من المحللين وكذلك العديد من الدوائر والمراكز البحثية الاستراتيجية أن يكون لهذه الحرب آثار وتداعيات تمتد لما هو أبعد من أوكرانيا، أي في أوروبا والعالم؛ وذلك نظراً للرهانات الاستراتيجية المرتبطة بأطراف هذه الحرب أي روسيا وأوكرانيا وحلف "الناتو"، وقراءتهم لآثارها والنتائج التي قد تسفر عنها. ففي حين ترى روسيا أن الحرب الجارية قد تعيد تشكيل النظام الدولي الأحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال الدفع في اتجاه تشكيل نظام متعدد الأقطاب تستعيد فيه موسكو مكانتها التي فقدتها بتفكك الاتحاد السوفيتي السابق، ترى الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون أن دعمهم لأوكرانيا في مواجهة روسيا يحول دون ذلك، أي دون تغيير النظام الدولي ويُبقي على طبيعته الأحادية. وترتبط هذه القراءات المختلفة بتطور مجرى الصراع وتداعياته على طبيعة النتائج الجيوستراتيجية والسيناريوهات التي يمكن أن ينتهي إليها مسار هذه المواجهة.

تداعيات ممتدة:

أياً كان الأمر، فإن توقعات المحللين والدوائر الاستراتيجية بشأن الحرب الروسية الأوكرانية ربما لم تتحقق حتى الآن على النحو الذي كان مُتخيلاً، ومع ذلك فإن بعض آثار هذه الحرب وتداعياتها قد بدأت تظهر للعيان في العديد من المناطق والأقاليم، التي قُدر لها أن تكون مرتبطة سياسياً واستراتيجياً بطرفي هذه الحرب، كما هو حال الصراع المتجدد بين أرمينيا وأذربيجان، وكذلك بين كوسوفو وصربيا خلال الأيام الماضية.

وبالتالي فإن تداعيات الحرب الأوكرانية شملت مناطق عديدة في العالم، ليس فحسب في جنوب القوقاز وأوروبا الشرقية، بل امتدت إلى جنوب آسيا والمحيط الهادئ وإلى الصين وتايوان التي تعدها بكين جزءاً لا يتجزأ من أراضيها.

وقد دفعت الحرب الجارية ونتائجها الظاهرة حتى الآن، بعض الصراعات الصغيرة منخفضة الحدة إلى الواجهة، وبعثت من جديد بعض التطلعات القومية القديمة، وارتكز هذا وذاك على توازنات القوى الإقليمية الآخذة في التشكل، وكذلك الخطاب الروسي حول حماية الناطقين باللغة الروسية وثقافتهم كما هو حال صربيا وموقفها إزاء الأقلية الصربية في كوسوفو.

صراع كوسوفو وصربيا:

تتجلى أبرز تداعيات هذا الصراع في منطقة البلقان بخصوصياتها العرقية والدينية والإرث الإمبراطوري الذي تعاني منه حتى الآن منذ السيطرة العثمانية وسيطرة إمبراطورية النمسا والمجر بعد ذلك، وهي المنطقة التي كانت وراء اندلاع الحرب العالمية الأولى، وأدت في الحرب العالمية الثانية دوراً مهماً تحت قيادة الجنرال تيتو، الذي تمكن من توحيد كرواتيا وسلوفينيا والبوسنة والهرسك والجبل الأسود ومقدونيا وصربيا وكوسوفو.

وقد حصل إقليم كوسوفو ذو الأغلبية المسلمة على استقلاله عام 2008، بدعم من الولايات المتحدة وحلف "الناتو"، بعد تدخله عسكرياً ضد صربيا عام 1999، ولم تعترف صربيا بدولة كوسوفو، ولا تزال في الوعي الصربي مجرد إقليم من الأراضي الصربية. كذلك لم تعترف روسيا بكوسوفو، وهو نفس موقف العديد من دول الاتحاد الأوروبي مثل إسبانيا؛ بسبب وضع إقليم كتالونيا، وأيضاً دول البريكس (البرازيل والصين والهند وجنوب إفريقيا). بينما نالت جمهورية كوسوفو اعتراف ما يقرب من 100 دولة من حلفاء الولايات المتحدة وأوروبا. وحظيت الأقلية الصربية في كوسوفو بميزة الاحتفاظ بالهوية الصربية في الدخول والإقامة في الدولة وكذلك بترخيص صربي للسيارات، غير أن هذا الوضع قد تغير، حيث فرضت السلطات الكوسوفية على الصرب الحصول على هويات كوسوفية وتراخيص كوسوفية مؤقتة، وهو الأمر الذي أثار احتجاج هذه الأقلية. ورأت صربيا أن مثل هذا الإجراء مدبر ومرتب منذ فترة طويلة، ووضعت قواتها في حالة استنفار وتعبئة على الحدود مع كوسوفو.

وتتمثل الرسالة التي يبعثها أطراف الصراع الحدودي بين كوسوفو وصربيا، في أن الصراع لم ينتهِ بعد، ويستند الطرفان إلى ميزان القوى الإقليمي المتغير منذ الحرب الروسية الأوكرانية. فجمهورية كوسوفو، التي لم تعترف بها روسيا، تستثمر استنزاف موسكو في الحرب الحالية وتعثر خططها العسكرية وبعث الحياة في حلف "الناتو"، الذي كان له الدور الأكبر في استقلال هذا الإقليم. في حين أن صربيا من الدول القلائل التي لا تزال تحتفظ بعلاقات طيبة مع روسيا، ولم تنخرط في منظومة العقوبات التي فرضتها الدول الغربية ضد موسكو؛ وذلك بسبب الروابط الدينية، حيث تجمع بين روسيا وصربيا الديانة المسيحية والكنيسة الأرثوذوكسية، وكذلك تعاطف الرأي العام الصربي مع الموقف الروسي في حرب أوكرانيا، إذ يرى 74% من سكان صربيا أن روسيا "ضحية"، ويرتبط هذا الموقف بفقدان الثقة في حلف "الناتو" بعد تدخله في صربيا عام 1999.

بطبيعة الحال، تذهب بعض التحليلات الغربية إلى أن روسيا ليست بعيدة عما يحدث بين كوسوفو وصربيا، وأنها تريد تحويل الأنظار إلى صراعات أخرى في القارة الأوروبية يُمثل حلف "الناتو" طرفاً أصيلاً فيها، بعيداً عن الحرب الأوكرانية. في حين يذهب آخرون إلى أنه ليس بالضرورة أن يكون لدى روسيا نيات عدوانية، بل إن الحرب الأوكرانية بطبيعتها والأطراف المنخرطة فيها والرهانات المرتبطة بها، تتيح لكل دولة تقييم النتائج الحادثة حتى الآن من منظور مصلحتها القومية، وتعزيز أوضاعها الناشئة "حالة كوسوفو"، أو إحياء مطالبها القديمة "حالة صربيا" التي لا تزال ترى أن كوسوفو، وبالرغم من إعلان استقلالها، تُمثل إقليماً من أراضيها.

ويُعد الحذر سيد الموقف بين القوى الكبرى الضالعة في أزمة كوسوفو وصربيا، فـ"الناتو" يحاول تجنب تجدد الصراع بين الدولتين اللتين تقعان في خاصرة أوروبا الضعيفة ومنطقة البلقان، بخصوصياتها التاريخية والدينية والعرقية. كما أن صربيا في حالة مبادرتها باستخدام القوة ضد كوسوفو ستجد نفسها في مواجهة "الناتو" مرة أخرى. وتبدو تسوية هذا الموقف سلمياً ضرورة مُلحة، لتجنب ظهور مشكلات حدودية أخرى في هذه المنطقة من العالم.


نزاع أرمينيا وأذربيجان:

في سياق قراءة تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية منذ أكثر من عام على العديد من الأقاليم والمناطق المجاورة، يأتي النزاع بين أرمينيا وأذربيجان في جنوب القوقاز، وهو الصراع الذي انفجر حول إقليم "ناغورنو كاراباخ"، عقب تفكك الاتحاد السوفيتي السابق في عام 1990 واستقلال أرمينيا وأذربيجان، والدولتين تُمثلان الحديقة الخلفية لروسيا.

ففي أوائل التسعينيات، كسبت أرمينيا الحرب ضد أذربيجان وتمكنت من السيطرة على حوالي 13% من الأراضي الأذرية في الإقليم المتنازع عليه "ناغورنو كاراباخ"، وعندما تجدد النزاع في عام 2020 تمكنت أذربيجان من استعادة جزء كبير من هذه الأراضي وذلك عقب تدعيم أرباحها من الغاز الطبيعي وشراء أسلحة فائقة الجودة من تركيا وإسرائيل.

وتدخلت موسكو بين الطرفين وتمكنت من إنجاز اتفاق لوقف إطلاق النار ونشر قوات روسية لحماية الأرمن المتبقين في أكبر مدينة بالمنطقة، وتأمين الطريق الذي يربطها بأرمينيا. كما تمكنت موسكو في عام 2020 من وضع 2000 جندي لحفظ السلام بين الجانبين، وعُد ذلك انتصاراً استراتيجياً لروسيا وتأكيداً لنفوذها في هذه المنطقة واعتبارها القوة المؤهلة للحفاظ على الاستقرار في المجال السوفيتي السابق.

وبعد عامين، أي في 2022، تجدد الصراع بين أرمينيا وأذربيجان مرة أخرى، ولكن في ظروف إقليمية ودولية جديدة ومعطيات قابلة للاختبار أو تحفز عليه. أي أنه بعد نشوب الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وضعت أذربيجان قيد الاختبار قدرة موسكو وتصميمها على تعزيز وجودها وحضورها في المجال السوفيتي السابق في خضم حربها ضد أوكرانيا وحدود دعمها لحليفتها أرمينيا.

وفي 12 ديسمبر 2022، تم إغلاق الطريق الجبلي الذي يربط "ناغورنو كاراباخ" بأرمينيا، واندلعت اشتباكات حدودية عنيفة بين الطرفين، في إطار تغير المعطيات وتوازن القوى المرتبط بالحرب الأوكرانية. وتجلى ذلك في طبيعة المواجهة بين الطرفين، ففي حين استعانت أذربيجان بمعدات حديثة تشمل المُسيّرات والأسلحة التي حصلت عليها من تركيا، اقتصرت أرمينيا على الأسلحة التقليدية بسبب انغماس روسيا وانشغالها بتوظيف إمكاناتها العسكرية واللوجستية في الحرب ضد أوكرانيا، وذلك على الرغم من أن أرمينيا عضو في منظمة الأمن الجماعي تحت الرعاية الروسية. كما دخلت الولايات المتحدة على الخط لدفع أرمينيا للانسحاب من هذه المنظمة، وزارت نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك، أرمينيا، مُعلنة دعمها واستعدادها للمساعدة وتشجيع يريفان على الانسحاب من المنظمة، والهدف من ذلك محاولة تعزيز حصار روسيا وتطويقها وحرمانها من نفوذها في أرمينيا كرابط رئيسي بين بحر قزوين والبحر الأسود.

وهكذا دخلت أذربيجان المواجهة مع أرمينيا في ظروف جيوستراتيجية جديدة، مستفيدة من دعم تركيا وتسليح حديث ودعم من واشنطن. في حين أن أرمينيا لم تحصل من حلفائها الروس على ما يمكنه أن يعزز موقفها في هذه المواجهة، من أسلحة ونفوذ روسي تقليدي في المنطقة، بسبب انشغال موسكو في الحرب ضد أوكرانيا وتعثر خططها العسكرية، والأولوية التي تمنحها لهذه الحرب في استراتيجيتها وذلك بالرغم من مطالبة أرمينيا بتطبيق اتفاقية الدفاع المشترك بين الطرفين الموقعة عام 1997. 

وقد استندت أذربيجان إلى عاملين؛ أولهما كسر الجمود على الجبهة مع أرمينيا دون عواقب، أي دون تدخل مباشر من الجانب الروسي، وثانيهما تصاعد وتيرة التحركات الأوروبية لعزل روسيا من خلال تشكيل أو محاولات تشكيل تجمع سياسي أوروبي موسع يضم الاتحاد الأوروبي والدول المحيطة بما في ذلك أرمينيا وأذربيجان، والهدف المعلن لهذه المجموعة هو بحث أزمات الطاقة والمستجدات الدولية، ولكن عملياً حشد الدول المحيطة بروسيا لعزلها وإضعاف نفوذها.

ويمكن القول أيضاً بانطباق هذه المعادلة، أي استثمار تداعيات الحرب الأوكرانية وتأثيرها في موازين القوى وتعثر خطط روسيا في هذه الحرب واستنزاف قدراتها، على الجيوب الروسية في جورجيا مثل أوسيتيا الجنوبية والتي كانت تزمع إجراء استفتاء حول انضمامها إلى روسيا، لكنها لم تلبث أن أعلنت إلغاءه في مايو 2022. كما نفت أبخازيا، الإقليم الموالي لموسكو، أي طموح للانضمام إلى روسيا. وهذان الإقليمان كانت روسيا قد دخلت حرباً في عام 2008 لمنع إدماجهما قسرياً مع جورجيا، وقد يرجع موقفهما الراهن إلى الشعور بانشغال روسيا كقوة حامية وضامنة أو أنها قد بدأت تفقد اهتمامها بذلك.

ختاماً، إذا كان تفكك الاتحاد السوفيتي السابق قد مثل زلزالاً كبيراً، لا تزال توابعه قائمة حتى الآن، فإن الحرب الروسية الأوكرانية بدورها تُمثل زلزالاً أكبر لم تظهر منه، أو ترافقه حتى الآن، سوى تداعيات ونزاعات صغيرة منخفضة الكثافة ويمكن احتواء نتائجها، مثلما يحدث في بعض الصراعات الأوروبية والقوقاز، في حين أن ما هو آتٍ خاصة في منطقة المحيط الهادئ وبحر الصين قد يكون الأخطر والأعظم.