شهدت العديد من المدن الليبية، في الأول من يوليو 2022، احتجاجات واسعة، تعد الأعنف منذ الإطاحة بنظام القذافي، وذلك تنديداً بتدهور الأوضاع المعيشية في البلاد، واحتجاجاً على حالة الانسداد السياسي، التي بلغت ذروتها مع تعثر اجتماعات جنيف بين رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، الأمر الذي فاقم حدة السخط الداخلي في ليبيا، ودفع إلى اندلاع تظاهرات واسعة في كثير من المدن الليبية، تضمنت الأقاليم الليبية الثلاثة، ووصلت إلى حد اقتحام مقر البرلمان الليبي في طبرق، وإلحاق بعض الاضرار به.
محركات عديدة للاحتجاجات:
شملت الاحتجاجات غالبية المدن الليبية الرئيسة، وأضرم المحتجون النار في عدة مبان حكومية في سبها، بالإضافة إلى إغلاق الطرق في مصراته وبنغازي. وتأتي هذه الاحتجاجات للأسباب التالية:
1- تردي الأوضاع المعيشية: انطلقت الاحتجاجات في الداخل الليبي، في مطلع يوليو الجاري، احتجاجاً على تدهور الأوضاع المعيشية، خاصةً بسبب أزمة الكهرباء المزمنة، مع إخفاق الحكومة الليبية في توفير الخدمات الأساسية لليبيين، خاصة بعد ارتفاع أسعار رغيف الخبز بصورة كبيرة.
2- رفض الجمود السياسي: كان المحرك الرئيسي للاحتجاجات هو تدهور الأوضاع المعيشية، غير أن تعثر اجتماعات جنيف بين قادة مجلسي النواب والدولة في التوصل إلى توافقات بشأن القاعدة الدستورية قد أدى إلى تصاعد حدة السخط الداخلي، حيث عاد المشهد السياسي في ليبيا إلى نقطة البداية، خاصةً بعد انتهاء خريطة الطريق في 22 يونيو الماضي، وعودة حالة الانقسام بين الشرق والغرب، مع بروز توجهات لتشكيل حكومة ثالثة في الجنوب الليبي، واستمرار هيمنة الميليشيات المسلحة على غرب ليبيا، وتصاعد حدة المواجهات العنيفة بينها.
لذا، تصاعدت وتيرة المطالبات التي ينادي بها المحتجون، حيث لم تعد تقتصر فقط على مطالبات بتوفير الخدمات الأساسية، بل أضحت تنادي بمطالب سياسية أكبر، منها الدعوة لإسقاط الاجسام والكيانات السياسية الراهنة كافة، والإسراع بإجراء الانتخابات، فضلاً عن المطالبة بخروج المرتزقة والقوات الاجنبية.
3- قيادة بالتريس للاحتجاجات: جاءت هذه الاحتجاجات بناء على دعوة من قبل "حراك بالتريس الشبابي"، والذي كان قد دعا إلى الاحتجاج في أغسطس 2020، وهو يمثل أكبر تجمع شبابي في ليبيا يعتمد على الحشد عبر منصات التواصل الاجتماعي، ويتخذ أعضاؤه من السترات الصفراء رمزاً لهم.
وعلى الرغم من غموض خلفيات وتبعية حركة بالتريس، وتروج لنفسها باعتبارها حركة شبابية لا ترتبط بأي من الأحزاب السياسية الحالية، فإنها تحمل شعارات تطالب بسقوط "العملاء والخونة والقوات الأجنبية"، وأعلن الحراك عن استمرار الاحتجاجات لحين تحقيق المطالب، ملوحاً بالعصيان المدني الشامل.
مواقف داعمة وحذرة:
لاقت هذه الاحتجاجات ردود أفعال داخلية وخارجية واسعة، يمكن عرضها على النحو التالي:
1- صمت باشاغا ومناورة الدبيبة: وجه المحتجون انتقادات حادة لحكومتي الدبيبة وباشاغا المتنافستين، غير أن حكومة فتحي باشاغا التزمت الصمت، بينما سعى رئيس حكومة الوحدة الوطنية المقالة، عبدالحميد الدبيبة، لإظهار دعمه للمحتجين، خاصة مطلبهم المتعلق برحيل الكيانات والاجسام السياسية كافة، بل واعتبره شرطاً لقبول الاستقالة من منصبه.
2- تحميل النواب المسؤولية للدبيبة: أعلن مجلس النواب الليبي أن الاجتماعات مع مجلس الدولة ستنطلق مجدداً خلال الأيام المقبلة، في محاولة لاستكمال القاعدة الدستورية، فيما حذر رئيس البرلمان الليبي، عقيلة صالح، بملاحقة المحتجين الذين اقتحموا مقر البرلمان ومعاقبتهم وفقاً للقانون.
كما اتبعهم بالتبعية لأنصار نظام القذافي، وحمّل صالح حكومة الدبيبة نتائج الاحتجاجات الراهنة في البلاد، بسبب فشلها في توفير الخدمات الرئيسة للشعب، وكذا تعطليها للانتخابات البرلمانية والرئاسية.
3- تحذير الجيش الليبي للرئاسي: لوّح الجيش الوطني الليبي، بقيادة المشير خليفة حفتر، بإمكانية اتخاذ إجراءات صارمة للحيلولة دون انفراد أي طرف بالقرار الليبي بالتنسيق مع أطراف خارجية تستهدف فرض أجندتها على المشهد الليبي، في إشارة لمساعي المجلس الرئاسي طرح مبادرة تستهدف إسقاط الاجسام السياسية كافة، بما يعني ضمنياً التحذير من أي خطوة منفردة لحل البرلمان.
كما اعتبر أن المطالب الشعبية الراهنة مشروعة، وتعبر عن حالة من السخط الشعبي إزاء تدهور الأوضاع المعيشية وانغلاق الأفق السياسي، ومؤكداً دعم وتأييد الجيش الوطني الليبي لمطالب المحتجين، داعياً المحتجين إلى الحفاظ على السلم وتجنب العنف.
4- دعم دولي وأممي: جاءت المواقف الدولية والإقليمية والأممية في مجملها داعمة لحق الشعب الليبي في التظاهرات بسبب الأوضاع المعيشية المتدهورة والانقسامات السياسية المتفاقمة، ومطالبة بضرورة تحقيق مطالب المحتجين، مع الالتزام بسلمية الاحتجاجات.
فقد أرجع السفير الأمريكي في ليبيا، ريتشارد نوريلاند، الاضطرابات الحالية في البلاد إلى الانسداد السياسي، ومؤكداً افتقاد أي كيان سياسي في المشهد الليبي للسيطرة والشرعية على المناطق كافة، وفي حالة أي تحرك منفرد من قبل أحد الأطراف لفرض هذه السيطرة سيؤدي إلى العنف، وهو بذلك يحذر الحكومتين المتنافستين والكيانات الموالية لهما، من محاولة استغلال الاحتجاجات لإقصاء الطرف الآخر.
ومن جانبه، ناشد الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش المحتجين بتجنب العنف، لافتاً الى استعداد مستشارة الأمم المتحدة الخاصة، ستيفاني ويليامز، للقيام بدور الوساطة بين الأطراف الليبية للخروج من الانسداد الساسي الراهن.
دلالات مهمة:
تعكس الاحتجاجات الليبية جملة من الدلالات المهمة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- قصور قدرات بالتريس التنظيمية: كشفت الاحتجاجات الواسعة في عدة مدن ليبية عن امتلاك بالتريس قاعدة شعبية واسعة على الأرض، بيد أن ثمة شكوكاً لا تزال تتعلق بمدى قدرتها على الاستمرار في قيادة المشهد.
فقد بدأت وتيرة الاحتجاجات في شرق وجنوب ليبيا في التراجع بعد يومين من التظاهرات، وذلك لتراجع القدرة التنظيمية لحراك "بالتريس الشبابي"، خاصةً مع اعتماده فقط على إصدار البيانات على مواقع التواصل الاجتماعي، وربما يضاف لذلك تصاعد التخوفات لدى المواطنين من تهديدات الميليشيات المسلحة.
ومن جهة ثانية، فإنه يستبعد نجاح المحتجين في إبعاد الكيانات السياسية الراهنة كافة، خاصةً أن لها أجهزة أمنية وعسكرية وميليشيات مسلحة داعمة لها، فضلاً عن عدم تحديد مطالب واضحة أو اختيار عناصر قيادية تمثل الحراك للتعبير عنه، ناهية عن التباين بين المحتجين بشأن الطرف المنوط به الإحلال مكان هذه الكيانات لإدارة المرحلة المقبلة.
2- تخوفات من عودة سيف القذافي: تعدد الاتهامات التي وجهت لهذا الحراك خلال الأيام الماضية، واتهم البعض أن هذا التيار يمثل جماعة الإخوان في ليبيا، بينما يرى البعض الآخر أن هذا التيار يمثل عناصر نظام القذافي، وذلك رغبة منهم في الترويج لفكرة عودة سيف الإسلام القذافي للسلطة، لاسيما مع رفع بعض المحتجين الأعلام الخضراء التي تعبر عن نظام القذافي.
3- رفض دولي لحل النواب والدولة: يعتقد أن الولايات المتحدة ترفض فكرة حل مجلسي النواب والدولة، لتجنب خلق حالة الفراغ السياسي، ولذلك تدفع واشنطن نحو عودة المباحثات بين مجلسي النواب والدولة للتوصل إلى قاعدة دستورية توافقية، وهو ما انعكس بوضوح في بيان السفير الأمريكي الذي حث المجلسين على حلحلة خلافات المسار الدستوري، وهو الأمر ذاته الذي ألمحت إليه المستشارة الأممية، ستيفاني ويليامز. ولذا، فإن ثمة رغبة أمريكية وأممية لتوظيف هذه الاحتجاجات للضغط على المجلسين للتوصل للتوافقات المطلوبة بدلاً من اسقاطهما.
سيناريوهات محتملة:
يمكن طرح ثلاثة سيناريوهات لمستقبل الاحتجاجات، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- حل الكيانات السياسية القائمة: أعلن الرئاسي عقب اندلاع الاحتجاجات أنه سيظل في حالة انعقاد دائمة لحين تحقيق مطالب الليبيين في التغيير، وتشكيل سلطة جديدة منتخبة تحقق قبول الليبيين، وهو ما يعني إمكانية قيامه بإعلان حالة الطوارئ وحل الأجسام السياسية كافة وتشكيل حكومة مصغرة.
وما يدعم هذا السيناريو أن الرئاسي سبق وحذر من إمكانية استخدام سلطاته حال فشل اجتماعات جنيف، وعمد إلى محاولة حشد الدعم الداخلي من قبل شيوخ القبائل والأحزاب السياسية لحل الكيانات السياسية.
بيد أن احتمالات تحقق هذا السيناريو تبقى محدودة، خاصةً في ظل الموقف الأمريكي والأممي الرافضين لحل مجلسي النواب والدولة، فضلاً عن معارضة الجيش الوطني الليبي والدبيبة لذلك. ومن جهة أخرى، لا يمتلك المجلس الرئاسي الأدوات التي تجعله قادراً على تنفيذ مبادرته على الأرض.
2- طرح خريطة أممية جديدة: ينطوي هذا المسار على فكرة الاستفادة من الاحتجاجات الداخلية للضغط على مجلسي النواب والدولة للتوصل إلى توافقات بشأن القاعدة الدستورية، وتحديد موعد جديد للانتخابات البرلمانية والرئاسية في إطار خريطة طريق جديدة برعاية أممية، وهو المسار الذي يرجح أن يلاقى دعماً دولياً وإقليمياً واسعاً.
3- محاولة استيعاب الاحتجاجات: قد تلجأ الكيانات السياسية الراهنة لاستيعاب الاحتجاجات الراهنة حتى تهدأ وطأتها، من خلال الاعتماد على خطاب دبلوماسي وتجنب التصعيد، وذلك لضمان استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه.
ويستند هذا السيناريو على سابقة احتجاجات أغسطس وسبتمبر 2020، والتي مهدت الطريق لإزاحة حكومتي الوفاق وعبد الله الثني، وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية فيما بعد. وبالتالي يمكن أن تؤدي هذه الاحتجاجات إلى التضحية بحكومتي الدبيبة وباشاغا، مع الإبقاء على مجلسي النواب والدولة، على أن يقوم المجلس الرئاسي بتشكيل حكومة مصغرة تتولى مسؤولية التحضير للانتخابات، بيد أن هذه الخطوة ستحتاج إلى توافقات خارجية وضغط غربي كبير على الدبيبة لقبول تسليم السلطة، وهو سيناريو لاتزال شروطه غير متوفرة.
وفي الختام، يستبعد أن تنجح الاحتجاجات في حل الكيانات السياسية القائمة كافة، لغياب البديل المناسب القادر عن إدارة المشهد لحين إجراء الانتخابات القادمة، كما أنه لا يتوقع أن تسمح الميليشيات لهذه الاحتجاجات بأن تهدد مكتسباتها التي حققتها على مدار السنوات الماضية، على غرار تهديدات بعض الميليشيات التابعة لحكومة الدبيبة للمحتجين، ولذلك، فإن السيناريو المرجح هو محاولة الحفاظ على الوضع الراهن، مع محاولة التوافق على القاعدة الدستورية.