أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

آليات التصعيد:

خيارات إسرائيل إزاء معادلات الردع الجديدة مع إيران

22 أبريل، 2024


استمراراً لدورة الضربات الانتقامية المتبادلة، قامت إسرائيل، فجر يوم 19 إبريل 2024، بالهجوم على موقع عسكري في مدينة أصفهان الإيرانية. وأكد التلفزيون الرسمي الإيراني أنه شوهدت ثلاث مُسيّرات في سماء أصفهان. ونشط نظام الدفاع الجوي ودمرها في السماء، لتسقط في منطقة تبريز، على بُعد حوالي 500 ميل شمال أصفهان.

وجاء الرد الإسرائيلي المحدود في قوته، والرمزي في أهدافه، بعد مرور أقل من أسبوع على الهجمات الإيرانية المباشرة ضد إسرائيل، مساء يوم 13 إبريل الجاري، والتي بالرغم من محدودية تأثيرها، فإنها عُدت سابقة تاريخية في معادلة الردع بين الطرفين. واختارت إسرائيل الرد في هذا التوقيت وبتلك الكيفية استناداً إلى تقييم شامل للهجمات الإيرانية؛ مفاده أن تل أبيب خرجت بمكاسب عديدة من هذه الهجمات، تتراوح بين إثبات قوة دفاعاتها الجوية، وعودة الدعم الدولي لها مرة أخرى. وبالتالي فلن يكون التصعيد الشامل في صالحها، خاصةً أن الولايات المتحدة أعلنت عدم دعمها لأي تصعيد عسكري من جانب إسرائيل ضد إيران.

رد إسرائيلي محدود:

نقلت صحيفة "فايننشال تايمز" الأمريكية عن مسؤول إسرائيلي قوله إن تل أبيب أبلغت واشنطن بنيتها تنفيذ ضربات ضد إيران مساء يوم الخميس 18 إبريل، مشيراً إلى أن هذ الإبلاغ "لم يتضمن تفاصيل". ولكن شبكة "سي أن أن" (CNN) الأمريكية نقلت عن مسؤول أمريكي كبير قوله إن إسرائيل أبلغت الولايات المتحدة بأن الهجوم لم يكن يستهدف المنشآت النووية الإيرانية، وأنه "هجوم محدود" استهدف موقعاً عسكرياً كان متورطاً في القصف على إسرائيل.

وتباينت ردود الفعل في إسرائيل بشأن الهجوم الذي استهدف مدينة أصفهان؛ إذ وصفه وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير، في منشور على موقع "أكس"، بأنه "ضعيف" أو "مثير للشفقة". بينما أشادت عضوة الكنيست عن حزب "الليكود"، تالي غوتليف، بالهجوم؛ وقالت: "هذا صباح نرفع فيه رؤوسنا بفخر، إسرائيل دولة قوية". ورأت دانا فايس، مُحللة الشؤون الدبلوماسية في القناة "12" الإسرائيلية، أن الهجوم الإسرائيلي كان "أنيقاً وليس صاخباً ولم يتسبب في أضرار عسكرية كبيرة، ولكنه أوصل الرسالة التي تريدها إسرائيل". والرسالة الإسرائيلية مفادها أن لديها القدرة على ضرب إيران من الداخل، وأنها تستطيع الوصول لأي مكان تريده هناك.

وعلى الصعيد الإيراني، قلّلت وسائل الإعلام وبعض المسؤولين من أهمية الضربة الإسرائيلية؛ إذ قال التلفزيون الرسمي الإيراني إن المنشآت العسكرية والنووية في أصفهان آمنة، وبث لقطات للمدينة تبدو فيها هادئة. بل وسخر مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي في إيران، من الضربة الإسرائيلية باعتبارها "رداً تافهاً"، حسب تعبيرهم، على ما يقرب من 300 صاروخ وطائرة مُسيّرة أطلقتها إيران على إسرائيل. لذلك لم يكن من المُستغرب تسريب تصريحات صحفية لمسؤول إيراني كبير –لم يذكر اسمه- قال فيها "إن طهران ليس لديها خطط فورية للانتقام من إسرائيل".

وتجدر الإشارة إلى أنه بالرغم من محدودية الهجوم الإسرائيلي، فإنه استهدف مدينة ذات أهمية استراتيجية بالنسبة لإيران وبرنامجها النووي؛ إذ تحتوي أصفهان على قواعد عسكرية ومراكز بحث وتطوير، وهي أيضاً موطن لموقع التخصيب تحت الأرض في "نطنز"، والذي تم استهدافه مراراً بهجمات إسرائيلية. كذلك تُدير إيران، في المدينة الواقعة على بُعد حوالي 315 كيلومتراً جنوب طهران، ثلاثة مفاعلات بحثية صغيرة زوّدتها بها الصين، فضلاً عن التعامل مع إنتاج الوقود والأنشطة الأخرى للبرنامج النووي الإيراني.

تقييم الهجمات الإيرانية:

ارتبط الهجوم الإسرائيلي المحدود بتقييم تل أبيب للهجمات الإيرانية السابقة في 13 إبريل الجاري، والتي شملت إطلاق حوالي 150 صاروخاً بحمولة تراكمية قدرها 46 طناً من المتفجرات، بالإضافة إلى 200 طائرة مُسيّرة مُحمّلة بأربعة أطنان من المتفجرات. وجاء التقييم الإسرائيلي لهذه الهجمات الإيرانية متزناً، مقارنةً بتقييمها لأحداث السابع من أكتوبر 2023 أو هجمات حزب الله اللبناني المتكررة في الشمال. وربما ما ساعد على ذلك هو عدم تسبّب تلك الضربات الإيرانية في خسائر مدنية إسرائيلية، بجانب انتفاء عنصر المفاجأة عنها؛ إذ ظل الداخل الإسرائيلي يستعد لها على مدار نحو أسبوعين.

ويمكن استعراض أبرز الاتجاهات الإسرائيلية حول الهجمات الإيرانية، في النقاط التالية:

1- إعادة تعريف إيران لقواعد الردع: تم النظر إلى الهجمات الإيرانية ضد إسرائيل، والتي جاءت رداً على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق في مطلع إبريل الجاري، باعتبارها أكبر وأكثر تعقيداً من الرد الإيراني على اغتيال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، في 3 يناير 2020. وبالتالي تُدرك إسرائيل أن الضربة الإيرانية لم تكن فعلاً رمزياً، إنما تتعلق بالأساس بإعادة تعريف قواعد الردع المتبادلة بين الطرفين.

ومن وجهة نظر إسرائيلية، صارت قوة تل أبيب على الردع غير فعّالة في مواجهة طهران، وخطورة ذلك تكمن في احتمالية تكرار تلك الهجمات الإيرانية، ولكن بقوة نيران أكبر، وفي سياق صراع عسكري أشد ضراوة بين الطرفين؛ لذلك، كانت هناك قناعة داخل إسرائيل أن الرد يجب أن يكون مباشراً وداخل الأراضي الإيرانية.

2- رغبة طهران في تحجيم التصعيد العسكري: تدرك إسرائيل أن إيران خلال إعادة تعريفها لقواعد الردع، كانت حريصة على تحجيم حالة التصعيد، والحيلولة دون اتساع نطاقه إلى حرب إقليمية شاملة. إذ كان بإمكان إيران أن تُطلِّق –على أقل تقدير- ضعف عدد ما أطلقته من صواريخ ومُسيّرات، دون استنزاف مخزون أصولها العسكرية بعيد المدى. كذلك ركزت الهجمات الإيرانية على قاعدة نيفاتيم الجوية في جنوب إسرائيل، وتجنبت مدناً مثل تل أبيب أو حيفا؛ إذ كان من المُرجح أن يؤدي استهدافها إلى سقوط خسائر مدنية إسرائيلية.

والنقطة الأهم هي أن إيران لم تدفع حزب الله اللبناني للمشاركة في مثل هذه الهجمات. ومن وجهة نظر عسكرية، فإن مشاركة حزب الله في تلك الهجمات كانت ستؤثر في فاعلية الدفاعات الجوية الإسرائيلية. ومن جانبها، تُدرِك إيران أن تدخل حزب الله في تلك الهجمات، كان يمكن أن يؤدي إلى حرب شاملة مع إسرائيل. ولن تلعب طهران بورقة حزب الله إلا في حالة وجود تهديدات وجودية للنظام الإيراني. لذلك جاء الرد الإسرائيلي على نفس المستوى، ودون استفزاز طهران. 

3- نجاح الاستراتيجية الدفاعية الإسرائيلية: تم النظر إلى نجاح أنظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية في إسقاط 99% من الصواريخ والمُسيّرات الإيرانية، وفق التصريحات الرسمية، على أنه "نجاح هائل لاستراتيجية إسرائيل الدفاعية"، واستثماراتها -منذ ما يقرب أربعة عقود- في تطوير أنظمة الدفاع الجوي لديها. كذلك نجحت إسرائيل في العمل في إطار تحالف عسكري غربي، شمل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وهو ما قد يُمهِّد مستقبلاً لتعزيز هذا التحالف الدفاعي في مواجهة الممارسات العسكرية الإيرانية. وربما خلق هذا النجاح حالة من الرضا داخل إسرائيل وفي مؤسستها العسكرية، وقلّل من الضغوط على حكومة بنيامين نتنياهو بشأن ضرورة الرد الفوري الانتقامي.

4- مكاسب سياسية إسرائيلية: على الرغم من اعتبار الخبراء الإسرائيليين أن الهجمات الإيرانية في حد ذاتها تحمل رسائل خطرة، فإن تقييمهم العام يشير إلى تحقيق تل أبيب مكاسب سياسية عديدة من ورائها. إذ أظهرت الجيش الإسرائيلي في ثوب المؤسسة القوية القادرة على التصدي للتهديدات الخارجية، كما تخلصت تل أبيب من العزلة الدولية النسبية التي كانت تعيشها مؤخراً على خلفية المطالبات الدولية لها بوقف حربها على قطاع غزة. كذلك حدث تحول في موقف الكونغرس الأمريكي، وصوت مجلس النواب يوم 20 إبريل الجاري على خطة مساعدات واسعة لصالح إسرائيل بقيمة نحو 26 مليار دولار. وفي هذا الإطار، قال الخبير العسكري الإسرائيلي، الجنرال احتياط، عيران أورتال: "لقد منحت إيران لإسرائيل أول إنجاز استراتيجي لها في هذه الحرب". وأدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، تلك المكاسب، ولم يُرِدْ أن ينقض عليها، كذلك لم يرغب في إغضاب واشنطن، بعدما أبلغه الرئيس جو بايدن أن الولايات المتحدة لن تدعم أي ضربة إسرائيلية مضادة ضد إيران. لذلك، ذهب إلى خيار "الضربة المحدودة الرمزية".

تحركات إسرائيلية مُحتملة:

على الرغم من أن دورة الضربات والضربات المضادة التي تنخرط فيها إسرائيل وإيران مؤخراً، ما زالت في إطار محدود، فإنها مُرشحة للتفاقم. وليس من المؤكد أن إسرائيل ستكتفي بهجومها على أصفهان، وليس بالضرورة أن تمتنع إيران عن الرد مُجدداً هذه المرة.

وفي هذا الإطار، قد تملك إسرائيل ثلاثة خيارات أساسية للتحرك العسكري في الفترة المقبلة، سواء بدافع تقليم القوى العسكرية الإيرانية أم رداً على هجوم انتقامي جديد قد تشنه طهران، وهي كالتالي:

1- التصعيد الشامل: من غير المستبعد أن تقوم إسرائيل بتوجيه ضربات عسكرية مباشرة إلى إيران، وغالباً ستستهدف تلك الضربات قواعد وأصولاً عسكرية إيرانية تابعة للحرس الثوري، أو أصولاً اقتصادية مثل حقول النفط. وبغض النظر عن كثافة تلك الضربات أو الخسائر التي ستُوقعها، فإنها قد تكون بداية لتصعيد عسكري واسع النطاق، وربما تشهد الجبهة الشمالية في إسرائيل بداية مواجهة برية مع حزب الله اللبناني.

وسيمثل هذا الخيار استجابة لمطالب تيار داخل إسرائيل يرى أن الهجمات الإيرانية، وإن لم تتسبب في خسائر، فإنها بمثابة إعلان لمرحلة جديدة من التصعيد الإسرائيلي الإيراني، قد تكون فيه تل أبيب مُستباحة أمام الترسانة العسكرية الإيرانية. ويرى هذا التيار أن الحد من التهديد الإيراني يعني تحجيم التهديد القادم من حزب الله اللبناني وحركة حماس وجماعة الحوثيين.

وقد يلجأ نتنياهو إلى هذا الخيار إذا تدهورت الأوضاع الميدانية أكثر في غزة أو الجبهة الشمالية، وهو تدهور سيرافقه تشديد الحصار السياسي عليه من قِبل التيارات المتطرفة في حكومته. كذلك ربما تتدهور العلاقات الإسرائيلية الأمريكية في مرحلة ما قبل الوصول إلى هذا التصعيد.

2- مواصلة استراتيجية "الحملة بين الحروب": يتمثل هذا الخيار في شن هجوم سيبراني إسرائيلي على البنية التحتية الحيوية في إيران، أو تسريع الهجمات الصغيرة داخل إيران، بما في ذلك الاغتيالات. وهذا سيناريو مُرجّح يستعد له الجيش الإسرائيلي بجدية. ففي 16 إبريل الجاري، وكجزء من التدريبات الإسرائيلية، انتشرت القوات القتالية والسيبرانية والتكنولوجية في شمال إسرائيل، على كل جبهة، لمحاكاة الاستعداد لحرب رقمية وحركية هجينة وشاملة.

والجدير بالذكر أن إسرائيل بدأت عام 2013 في تطبيق استراتيجيتها العسكرية الموجهة ضد إيران ووكلائها، والمعروفة باسم "الحملة بين الحروب"؛ وهي استراتيجية تنطوي على مزيج من الآليات العسكرية وغير العسكرية، ويتم استخدامها بطريقة منهجية لتقليل قدرات الخصم، بما يُحسّن موقف إسرائيل في أي حرب مستقبلية معه.

3- تكثيف الهجمات على وكلاء إيران: يتمثل هذا الخيار في القيام بعملية عسكرية محدودة ضد حزب الله اللبناني في الشمال، وقد تترافق مع ضربات جوية مكثفة للتمركزات العسكرية الإيرانية في سوريا. وعلى الرغم من أن الأوساط العسكرية الإسرائيلية تتحدث عن أن الجيش كان سيقوم بعملية عسكرية في الشمال لتقويض الترسانة العسكرية لحزب الله، فإن إسرائيل يمكن أن تروِّج لتلك العملية كرد على الضربة الإيرانية، خاصةً إذا قررت تنفيذ هذه العملية في صيف 2024، كما سرّبت التقارير الإسرائيلية منذ أسابيع.

وتشير هذه التقارير إلى أن قيادات الجيش الإسرائيلي ترى أن التهديد الأعظم الذي يواجه البلاد يأتي من جبهة حزب الله، وليس طهران، نظراً للترسانة الهائلة التي يمتلكها الحزب، وقربها من الحدود الإسرائيلية. ووفقاً للتقديرات العسكرية الإسرائيلية، فإن تل أبيب لن تستطيع إدارة صراع عسكري مباشر مع طهران، دون تقويض القدرات العسكرية لحزب الله اللبناني.

إجمالاً، أثبتت الأشهر الستة الماضية، منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، أن سيناريوهات التصعيد كافة مطروحة وقابلة للتحقق، فما كان يظنه البعض منذ أسابيع احتمالاً بعيداً، صار اليوم أقرب إلى الواقع. وما دامت الحرب في غزة لم تنته، واستمرت مناوشات إسرائيل مع إيران ووكلائها؛ يظل المشهد الأمني في المنطقة قابلاً للانفجار في أي وقت.