أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

خطوط حمراء:

انعكاسات العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا على النظام الدولي

25 فبراير، 2022


د. شادي عبدالوهاب: رئيس وحدة الدراسات الأمنية بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة

أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فجر الخميس، الموافق 24 فبراير، بدء عملية عسكرية في أوكرانيا، حيث سمع دوي انفجارات قوية في عدد من مدن البلاد، بينما تحدثت كييف عن "غزو واسع" يجري حالياً، وهو التطور الذي سوف يرتب تداعيات مباشرة على النظام العالمي.

ملاحظات فارقة:

اندلع الصراع في أوكرانيا بين روسيا والولايات المتحدة، نتيجة لرفض الأخيرة الاستجابة لمطالب موسكو، والتي كان أبرزها عدم انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي لما يمثله ذلك من تهديد للأمن القومي الروسي. ونتيجة لذلك تصاعدت الأزمة، وصولاً إلى تنفيذ الكرملين تهديداته باجتياح أوكرانيا، ويمكن الإشارة إلى مواقف الأطراف الرئيسية في الأزمة على النحو التالي:  

1- قصور القيادة الأمريكية: أشارت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى تقارير استخبارية عديدة تفيد بأن روسيا تخطط لغزو شامل لأوكرانيا وستسعى للسيطرة على عاصمتها كييف، وكان من الواضح هذه الحقيقة بالنظر إلى حجم الانتشار العسكري الروسي حول أوكرانيا، والذي كان يقدر بنحو 200 ألف جندي، فضلاً عن إحكام موسكو السيطرة على أغلب المجال الجوي الأوكراني، وفرضها حصاراً على السواحل الأوكرانية في البحر الأسود. 

وكان من المفترض ألا تكون مثل هذه السيناريوهات مجرد "رفاهية ثقافية" لمعرفة المستقبل، أو تكتفي واشنطن بتوظيفها لشن حرب إعلامية تدرك واشنطن جيداً أنها لن تكبح الكرملين عن الدفاع عما يراه مصالح أمنية مشروعة، بل كان من المفترض أن توظفها واشنطن لمحاولة التنبؤ بكل خطوة روسية ومحاولة الرد عليها، بمختلف الأدوات عدا العسكرية، على نحو يدفع موسكو إلى التراجع. 

أما إذا أدرك الرئيس الأمريكي، جو بايدن، أنه ليس بالمقدور تبني أي سياسة قادرة على تثبيط موسكو عن مهاجمتها أوكرانيا، فإنه كان يجب عليه أن يسعى لتسوية الأزمة الأوكرانية دبلوماسياً، حتى وإن بشكل غير مباشر، عبر الضغط على أوكرانيا للإعلان عن حيادها، وتأكيد عدم انضمامها إلى حلف الأطلسي، أو التماهي مع الوساطة الفرنسية، والتي سوقت للنموذج الفنلندي، وذلك عوضاً عن مواصلة تحدي موسكو. فبكل المقاييس، فإن الإعلان عن حيادية أوكرانيا كان سيكون بمثابة سيناريو أفضل بكثير من احتلالها، سواء بصورة جزئية، أو كلية من موسكو، كما أن الارتدادات العسكرية لذلك على حلفاء واشنطن سيكون هائلاً، إذ إن هذا الحدث سوف يشكك في مصداقية الاعتماد على واشنطن، خاصة خارج القارة الأوروبية.   

2- إصرار بوتين على تنفيذ تهديداته: كانت السياسة الروسية حازمة وجادة حيال مسألة انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي، فلم تكن موسكو على استعداد خلال أي فترة زمنية لتقديم أي تنازل من أي نوع حول هذه النقطة تحديداً. ففي قمة الناتو في بوخارست، التي انعقدت في أبريل 2008، والتي أعلن فيها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، أن أبواب الناتو ستكون مفتوحة لأوكرانيا، أخبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الأمريكي أن "أوكرانيا ليست حتى دولة"، وأن "جزءاً من أراضيها هو أوروبا الشرقية، لكن الجزء الأكبر منها هي هدية منا". ثم أضاف أنه إذا انضمت أوكرانيا إلى الناتو، "فإن وجود الدولة ذاته قد يكون موضع شك" .

ويبدو أن الرئيس الأمريكي أراد أن يختبر جدية تهديدات بوتين، فجاءت أزمة الحرب الجورجية – الروسية في أغسطس من العام نفسه، حينما حاولت جورجيا الاستيلاء على أوسيتيا الجنوبية عقب سلسلة من المناوشات مع متمردين في المنطقة يحظون بدعم روسيا ، وحينها كان الرد الروسي حازماً، إذ فقد الجيش الجورجي حينها السيطرة على نصف البلاد، وهو ما كان تأكيداً روسياً لبوش بأن الكرملين جاد في تهديداته. 

وتجدر الإشارة هنا إلى أن جورج كينان، مهندس سياسة الحرب الباردة الأمريكية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، اعتبر أن توسع الناتو بأنه "الخطأ الأكثر فداحة للسياسة الأمريكية في حقبة ما بعد الحرب الباردة بأكملها" .

وتجدر الإشارة هنا إلى أنه بالعودة إلى الأزمة الكوبية في عام 1962، فرضت الولايات المتحدة حصاراً بحرياً على كوبا مهددة بغزوها، بعد اكتشافها نشر موسكو صواريخ باليستية نووية على الجزيرة، فقد اعتبرت واشنطن أن هذا الأمر يحمل تهديداً للأمن القومي الأمريكي لا يمكن التساهل معه. 

3- قصور القيادة الأوكرانية: كشفت الأزمة الأوكرانية عن قصور نظرة قيادة الدولة، ممثلة في فولوديمير زيلينسكي لكيفية إدارته للأزمة مع روسيا. فقد كان من الواضح أن الولايات المتحدة لن تهب للدفاع عنه، فقد أكدت إدارة بايدن على هذا الأمر في أكثر من موقف، وكان أخرها في اليوم السابق على الهجوم، حين قالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين بساكي، خلال مؤتمر صحفي عقدته في مساء 23 فبراير، رداً على سؤال في هذا الشأن: "لا أعرف كم مرة سيكون على أن أكرر ذلك، لا يوجد أي سيناريو سيرسل فيه الرئيس قوات أمريكية لمحاربة روسيا في أوكرانيا" . 

ولذا كان من غير المفهوم أن يقدم زيلينسكي على تحدي أكبر قوة نووية في العالم مكافئة للولايات المتحدة، خاصة أنه كان من الواضح أن واشنطن أو الدول الغربية لن تهب للدفاع عنه، بل أن العقوبات الاقتصادية التي أعلنتها الدول الأوروبية والولايات المتحدة في أعقاب اعتراف بوتين بالإقليميين الانفصاليين هزيلة، ولم تفرض أي عقوبات مؤثرة على الاقتصاد الروسي، وهي العقوبات التي أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أنها متوقعة، وأن بلاده قد اعتادت عليها، إذ إنه من غير الوارد أن تكون موسكو قد أقدمت على التصعيد مع الغرب حول أوكرانيا، وصولاً إلى احتلالها قبل أن تتحسب لأغلب ردود الفعل الغربية، بما في ذلك العقوبات. 

 كما أنه من متابعة سير العمليات العسكرية، والسرعة التي تمكنت بها موسكو من الوصول إلى حدود العاصمة الأوكرانية كييف يكشف عن أن الجيش الأوكراني غير قادر على مواجهة نظيره الروسي. 

تداعيات استراتيجية عميقة: 

يلاحظ أن الأزمة الأوكرانية، وكيفية إدارة مختلف الأطراف لها، تكشف عن أن شكل النظام الدولي قد تأخر، بل إن العلاقات بين أطرافه الرئيسية قد طرأ عليها تحولات واضحة، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي: 

1- نهاية عصر القطب الواحد: إذا كان هناك أي شك عما إذا كان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في منتصف 2021 مثّل نهاية عصر الأحادية القطية أم لا، فإن اجتياح موسكو لأوكرانيا قد كشف بما لا يدع أي مجال للشك، أن النظام الدولي قد انتقل إلى عالم متعدد الأقطاب، بما يستتبعه ذلك الاعتراف بضرورة قبول أن الترتيبات التي كانت سائدة في أعقاب الهيمنة الأمريكية قد انتهت، ويجب إعادة مراجعتها، وأنه بات لروسيا "مجالاً حيوياً" يجب احترامه، وأن هذا أصبح الوضع العادي الجديد، أي على الغرب مراجعة عقلية "الأحادية القطبية" التي سادت منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. 

2- رفض بوتين نفاق الغرب: كانت أحد النقاط التي أثارها الرئيس الروسي في انتقاده للغرب هو مهاجمة للولايات المتحدة وتدخلاتها السابقة في منطقة الشرق الأوسط، وكيف أن واشنطن كسرت بعرض الحائط القانون الدولي عند احتلالها للعراق في عام 2003، فضلاً عن الاستخدام غير المشروع للقوة العسكرية ضد ليبيا في 2011، والذي ترتب عليه في النهاية التدمير الكامل للدولة هناك، وهو بذلك يرد على المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين، الذين أدانوا العملية العسكرية الروسية على أساس انتهاكها لقواعد القانون الدولي. 

3- اصطفاف صيني – روسي واضح: من الواضح أن الأزمة الأوكرانية قد كشفت عن وجود تفهم صيني كامل للموقف الروسي، وهو ما وضح في تأكيد الصين لتفهمها "مخاوف روسيا الأمنية المشروعة"، و"تدرك السياق التاريخي المعقد والخاص للأزمة الروسية – الأوكرانية" . 

ومن جهة أخرى، رفضت بكين مصطلح "الغزو" الذي أوردته بعض وسائل الإعلام الأجنبية عن تحركات روسيا ضد أوكرانيا، وناشدت جميع الأطراف المعنية بالوضع في أوكرانيا التحلي بضبط النفس . ولعل ما يفسر هذا الاصطفاف الصيني – الروسي هو معاناة الدولتين من سياسات واشنطن الرامية إلى إحياء التحالفات العسكرية في مواجهة موسكو وبكين، سواء تمثل ذلك في حلف الأطلسي بالنسبة لروسيا، أو تحالف أوكوس في مواجهة بكين. 

4- التشكيك في مصداقية الحليف الأمريكي: كشفت الأزمة الأوكرانية أن الولايات المتحدة أساءت إدارة الأزمة الأوكرانية، وبدلاً من محاولة استيعاب بعض الهواجس الروسية الأمنية، فإنها قد ساهمت في تعقيد الأزمة، وصولاً إلى التسبب بشكل مباشر في دفع روسيا إلى تنفيذ تهديداته باحتلال أوكرانيا بالكامل. 

وإذا كانت الولايات المتحدة أعلنت عقب سقوط الحكومة الأفغانية الموالية لها أمام طالبان أن هذا غير مرشح للتكرار في حالات أخرى، خاصة تايوان، فإنه من الواضح أن هذا الاستنتاج لم يكن سليماً، إذ إنه بسقوط أوكرانيا، تكون الولايات المتحدة قد تخلت عن حليف آخر، وهو ما سيعزز القلق من موثوقية الاعتماد على الحليف الأمريكي. 

وفي الختام، يمكن القول إن الأزمة الأوكرانية، والإدارة الأمريكية لها، قد كشفت عن تحولات هيكلية في أزمة النظام الدولي، إذ لم تعد الولايات المتحدة هي القطب الأوحد في العالم، التي تفرض قواعده، بل باتت هناك قوى أخرى بات لها مجال حيوي تسعى للدفاع عنه في مواجهة المحاولات الأمريكية الرامية إلى انتهاكه.