عرض: عبد المنعم محمد – باحث في العلوم السياسية
حظيت قضية التغيرات المناخية باهتمام متزايد من قبل المجتمع الدولي، وسط مساعٍ مستمرة للحد من تأثيراتها المحتملة التي قد تتسبب في كارثة بيئية غير مسبوقة. وفي هذا السياق، أصدر المبرمج ورجل الأعمال الأمريكي بيل جيتس، مؤسس شركة مايكروسوفت، كتابًا جديدًا في منتصف فبراير الماضي بعنوان "كيفية تجنب كارثة مناخية: الحلول المتوفرة لدينا والاختراقات التي نحتاجها". وقد سلط من خلاله الضوء على التأثيرات المحتملة للتغيرات المناخية، مع وضع عدد من الرؤى والحلول للتعاطي مع تلك الظاهرة.
ويأتي صدور الكتاب في ظل توقيت دقيق ولافت، وذلك لعدد من الاعتبارات، يأتي في مقدمتها التغير الذي طرأ على الإدارة الأمريكية والذي أفضى إلى عودة الولايات المتحدة الأمريكية لاتفاقية باريس للمناخ. كما يأتي صدور الكتاب قبل انعقاد الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في نوفمبر 2021 في جلاسكو (أكبر مدن أسكتلندا) والذي يستهدف حشد الجهود الدولية للتعامل الفاعل مع قضية التغيرات المناخية.
معادلة معقدة
يرى "بيل جيتس" أن التعامل الجاد مع ظاهرة التغيرات المناخية بات ضرورة مُلحة وهدفًا يجب أن تسعى إليه البشرية، تجنبًا لأية كوارث بيئية محتملة. ولهذا حاول الوقوف على أسباب التغيرات المناخية وتداعياتها، حيث يشير إلى أن القضاء على انبعاثات غازات الاحتباس الحراري يجب أن تصبح غاية عالمية تسعى إليها الحكومات، خاصة في ظل ارتفاع ثاني أكسيد الكربون، وما يتبعه من ارتفاع في درجات الحرارة، وذوبان الجليد، وارتفاع مستوى سطح البحر، فضلًا عن حالات الجفاف والفيضانات.
وقد وضع "جيتس" هدفًا استراتيجيًا يدور حول القضاء على الانبعاثات الكربونية بصورة كاملة، وليس تقليلها كما يستهدف البعض لتجنب التكاليف الاقتصادية والبشرية والبيئية التي يمكن أن تنجم عن استمرار تلك الانبعاثات، وقد أكد على ضرورة التخلص من 51 مليار طن من غازات الاحتباس الحراري التي تُضاف للغلاف الجوي سنويًا، وصولًا إلى صفر انبعاثات بحلول عام 2050، وقد شرح سبل وكيفية القضاء على تلك الأطنان من الانبعاثات والتي تتشكل وفقًا لخمسة مصادر، حيث إن استخدام مصادر الطاقة المتجددة وتقليل الوقود الأحفوري من شأنه أن يمثل نحو 27% من الانخفاضات المطلوبة، علاوة على تغيير طرق تصنيع السلع والتي قد تحقق انخفاضات بمقدار 31%، كما يمكن أن يساهم تغيير طرق زراعة المحاصيل الغذائية، وتقليل السفر، والحفاظ على المباني دافئة أو باردة، في خفض الانبعاثات بنحو 18% و16% و6% على التوالي.
وقد عمل "جيتس" على توظيف الأرقام في استراتيجية التحول إلى انبعاثات صفرية، بهدف لفت الأنظار لحدود وحجم التحدي، وما يمكن إنجازه في هذا الصدد؛ إذ إن مخاطر عدم الوصول للحالة الصفرية من الانبعاثات قد تنتج عنها جملة من التداعيات الوخيمة، فقد تؤدي التغيرات المناخية لوفاة ملايين الأشخاص حول العالم، وقد تصبح تأثيراتها البشرية المحتملة أكثر فتكًا وأشد حدة من تأثيرات انتشار وتفشي الأوبئة، حيث يعتقد الكاتب أن استمرار تلك الانبعاثات يمكن أن يتسبب في وفيات أكثر خمس مرات ضحايا الأنفلونزا الإسبانية التي أودت بحياة خمسين مليون شخص. وقد انتهى الكاتب إلى أن الأمر رغم صعوبته، إلا أن الأمل في التحول وتحقيق الهدف المنشود لا يزال ممكنًا.
وترتيبًا على ما سبق، يرى الكاتب أن البلدان النامية ستصبح أكثر عرضة لتلك التأثيرات؛ إذ إن التغيرات المناخية من شأنها أن تهدد حياة المواطنين وسبل معيشتهم، كما أنها قد تؤثر على المساعي الرامية لرفع مستوى معيشة الطبقات الأكثر فقرًا واحتياجًا في تلك المجتمعات، خاصة وأن الفقراء معرضون بشكل كبير لتداعيات الجفاف والفيضانات وموجات الحر المتزايدة مقارنة بغيرهم في الدول المتقدمة.
وعليه، شدد على أهمية الاستجابة المرنة في كل من البلدان الفقيرة والغنية في مواجهة التغيرات المناخية؛ إذ إن التكيف مع التأثيرات الحالية والمستقبلية لن يكون حلًا مجديًا، بل يجب تكثيف الجهود للقضاء على الانبعاثات العالمية لغازات الاحتباس الحراري.
الخروج الآمن
خلال فصول الكتاب الاثني عشر، حاول "بيل جيتس" أن يضع أمام الحكومات والمعنيين خطة عملية وملموسة للخروج الآمن، فلم يكتفِ فقط بتحديد أسباب وآثار التغيرات المناخية؛ بل حاول التركيز على وضع الحلول والآليات التي يمكن من خلالها تحقيق الهدف الأكبر المتمثل في إزالة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بحلول 2050. ولأن مقدار الاحترار يعتمد على الانبعاثات المتراكمة، فيجب على الدول الغنية كالولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة البدء في خفض الانبعاثات من الآن وعلى مدى الثلاثين عامًا القادمة. وقد وضع الكاتب مجموعة من الحلول للتعامل مع تلك الظاهرة فيما يلي:
١- الاستثمار في الطاقة النظيفة: يرى الكاتب أن هناك احتياجًا إلى الاستثمار بجدية في الطاقة النظيفة التي ترتبط بصورة كبيرة في الإبداع والابتكار في هذا القطاع الحيوي، بما يُعزز من دور الأجيال المستقبلية من الشركات المختلفة وما ترتبط بها من أنشطة ووظائف اقتصادية مصاحبه، حيث إن وضع خطة لتطوير الطاقة النظيفة وخفض تكاليفها والاستغلال الأمثل للتقدم العلمي يُعد توجهًا ذكيًا للحد من التداعيات والعواقب الوخيمة لظاهرة التغير المناخي، علاوةً على وضع استراتيجيات محفزة في مجال الطاقة النظيفة.
٢- شراكة متعددة الأطراف: أحد الحلول التي طرحها الكاتب تتمثل في التنسيق الثلاثي بين المستوى الحكومي الرسمي وبين القطاع الخاص وعلى المستوى الفردي. فعلى المستوى الحكومي يجب أن تتخذ الدول عددًا من السياسات تتمثل في تسعير الكربون، ودعم أسعار مصادر الطاقة المتجددة، والبحث والتطوير، والتمويل. فضلًا عن الإعفاءات الضريبية للسيارات الخالية من الانبعاثات وفرض الضرائب لتعديل السلوك. إلى جانب أهمية التعاون الوثيق بين الحكومات على المستويات كافة، خاصة وأن هناك حالة من عدم التعاون متعدد الأطراف للتعامل مع مشكلة التغير المناخي، خاصة في ظل ارتباط الحلول الخاصة بتلك الظاهرة بالقرارات السياسية، والتي يمكن دحضها وعدم تنفيذها من جانب المصالح المكتسبة القوية أو تهميشها بسبب اللا مبالاة البيروقراطية أو تقويضها من قبل القيادات السياسية الضعيفة، أو إضعافها من خلال المنافسات الجيوسياسية وكذلك تمسك الدول بالآراء القديمة المتعلقة بالسيادة الوطنية، مدللًا على ذلك بقمة "كوبنهاجن" للتغير المناخي التي انعقدت عام 2009، وقد فشلت الدول الأوروبية في التوصل لاتفاق قانوني ملزم للولايات المتحدة حول ضوابط الحفاظ على التغير المناخي.
أما على المستوى الفردي فيجب على الأفراد أيضًا أن يضطلعوا بدورهم في الحد من الانبعاثات عبر انتهاج سياسات تعمل على التعجيل بالتحوُّل إلى صفرية الانبعاثات، مثل التوجه لشراء منتجات منخفضة أو عديمة الكربون مثل السيارات الكهربائية، وهو من شأنه أن يؤدي إلى اجتذاب المزيد من المنافسة في هذه المجالات، ويحوّلها في النهاية إلى مصادر صديقة للبيئة. وعلى صعيد القطاع الخاص، يُمكن تحقيق قدر من التنسيق بين الشركات المختلفة، وتنسيق الجهود المشتركة لدعم مشاريع الطاقة الرائدة، وإطلاق مبادرات للتعجيل بالانتقال إلى الطاقة النظيفة، وذلك من خلال ابتكار طرق منخفضة أو عديمة الكربون لتصنيع الأسمنت والصلب، وتوليد وتخزين كميات ضخمة من الكهرباء النظيفة، وزراعة النباتات.
٣- توظيف التكنولوجيا: يرى الكاتب أهمية استخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي لكونها عاملًا يُساهم في القضاء على الانبعاثات، حيث يرى أهمية الاستثمار في التكنولوجيا والتقنيات المتعلقة بالمناخ، والعمل على ضخ مزيد من الاستثمارات في مجال أبحاث المناخ، والعمل على وضع خطة عملية ملموسة لتحقيق هدف الانبعاثات الصفرية، والعمل على توفير الإمكانيات المختلفة للجامعات التي تساهم في تعزيز الأفكار وتطوير التكنولوجيات النظيفة. إذ تُـعَـد العلوم، والأبحاث، والهندسة في جامعات العالم، من بين العوامل الأكثر أهمية في الوصول إلى الانبعاثات الصفرية، ولكن دون اقتصار ذلك على الجانب النظري فقط، بل تطبيقه بصورة عملية في أرض الواقع لمساعدة وتوجيه السياسات الجديدة وتشكيل السوق. ولعل توظيف التكنولوجيا يستهدف الوصول لمعيار محفظة الطاقة المتجددة التي تضمن تسعير الطاقة، وتعزيز الاستثمارات المالية في الأبحاث العلمية المتعلقة بالمناخ.
ختامًا؛ يرى "جيتس" أن الاحتباس الحراري والتغيرات المناخية أصبحت من القضايا العابرة للحدود التي تحتاج لتكاتف المجتمع الدولي للتغلب عليها، والحيلولة دون تفاقم تأثيراتها، وذلك من خلال لعب دور أكثر فاعلية من قبل المعنيين وأصحاب المصالح، لخلق نظام أكثر توازنًا يرمي للتحول للطاقة النظيفة، ويتلاشى التداعيات الوخيمة على البشرية.
وعلى الرغم من أهمية طرح الكتاب في هذا التوقيت، ومحاولة البحث عن حلول واقعية لتلك المعضلة؛ إلا أن هناك عددًا من الانتقادات التي وُجهت للمؤلف، من بينها -على سبيل المثال- استمرار استثمار مؤسسة جيتس جزءًا من أموالها في شركات الوقود الأحفوري حتى نهاية عام 2019، وذلك برغم إشارة الكاتب لسحب استثماراته من تلك الشركات. كما يمكن قراءة عزم "جيتس" على استثمار نحو ملياري دولار في مشاريع وشركات ناشئة خلال الأعوام الخمسة المقبلة لمجابهة تغير المناخ للإشارة إلى جديته وشعوره بحجم التحدي، وضرورة مواجهة تلك الظاهرة.
المصدر:
Bill Gates, “How to Avoid a Climate Disaster: The Solutions We Have and the Breakthroughs We Need”, (USA: Large print, 2021)