أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

الردع الجديد:

رسائل التهديد الأمريكي بالانسحاب من معاهدة الصواريخ النووية

14 نوفمبر، 2018


لم يكن إعلان الولايات المتحدة عزمها الانسحاب من معاهدة الصواريخ متوسطة المدى مع روسيا مفاجئًا لعدد كبير من المتابعين للتحولات التي تشهدها السياسة الأمريكية في عهد الرئيس "دونالد ترامب". فعلى الرغم من التصريحات المنددة والرافضة لهذا الإجراء، إلا أنه يأتي اتساقًا مع النزعة الأحادية والعسكرة المتصاعدة للسياسة الخارجية الأمريكية، بالإضافة إلى تراجع تأثير مصالح الحلفاء الأوروبيين على قرارات الإدارة الأمريكية في مقابل تصاعد تأثير لوبي السلاح على توجهاتها الخارجية.

صعود السياسات الأحادية:

أعلن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في أواخر أكتوبر الماضي عن نيته الانسحاب من معاهدة الصواريخ متوسطة المدى الموقّعة مع روسيا (الاتحاد السوفيتي سابقًا) عام 1987 في قمة رئاسية جمعت بين الرئيسين جورباتشوف وريجان في واشنطن، والتي عكست حينها أجواء الانفراج الدولي مع اقتراب نهاية الحرب الباردة، ورغبة الطرفين في خفض درجات التوتر بينهما، وإنجاح المساعي الدولية للحد من التسلّح Arms control عبر العمل على سحب وإتلاف الصواريخ التي تُطلق من قواعد برية والتي يتراوح مداها بين 500 و5500 كلم والتي كانت منتشرة بشكل مكثف على أراضي القارة الأوروبية. وقد ساهمت هذه المعاهدة بحلول عام 1991 في تدمير نحو 2500 صاروخ.

وتتهم الولايات المتحدة موسكو بخرق بنود هذه الاتفاقية، حيث صرّح الرئيس "ترامب" في أكتوبر 2018 بـ"أن روسيا تنتهك منذ سنوات عديدة معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى"، ورأت روسيا أن هذه مجرد مزاعم تفتقد إلى أدلة، وكان "أوباما" قد اتهم روسيا في عام 2014 بانتهاك المعاهدة بعد إعلان الولايات المتحدة أنها أطلقت صاروخًا مبرمجًا، بيد أنه لم يقم بالانسحاب من المعاهدة خشية اندلاع سباق تسلح جديد، وقد أعلن عدد من المساعدين للرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" في 10 نوفمبر 2018 عن "أن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وافقت على التشاور مع أعضاء حلف شمال الأطلسي "الناتو" حول خطة واشنطن للانسحاب من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى مع روسيا"، وهو ما اعتبره نائب وزير الخارجية الروسي "سيرجي ريابكوف" داخلًا في إطار "محاولات الابتزاز من قبل الولايات المتحدة لتحقيق تنازلات روسية في مجال الاستقرار الاستراتيجي"، كما صرّح مندوب روسيا الدائم لدى الاتحاد الأوروبي "فلاديمير تشيجوف" في 13 نوفمبر 2018 بـ"أن موسكو مستعدة للحديث عن تعديل المعاهدة أو استبدالها بمعاهدة جديدة".

دوافع الانسحاب الأمريكي:

تتعدّد الأسباب الأمريكية للانسحاب من المعاهدة، فالمعلن منها يتمثّل في قيام موسكو بانتهاك بنودها، فيما تتعدد الأسباب غير المعلنة التي يمكن الإشارة إلى أبرزها فيما يلي: 

1- توجهات الإدارة الأمريكية: تشير العديد من التحليلات إلى أن السبب الرئيسي في إعلان الولايات المتحدة نيتها الانسحاب من المعاهدة يعود إلى تصاعد حدة التنافس الدولي مع روسيا، لا سيما بعد قيام موسكو بالترويج لعددٍ من صواريخها العملاقة خلال العروض العسكرية. وفي هذا الإطار، قامت الولايات المتحدة بتعيين "جون بولتون" مستشارًا للأمن القومي الأمريكي في مارس 2018، وهو المعروف بمعارضته لأي تقارب مع موسكو، ورفض التفاوض معها حتى لو أتى ذلك على حساب زيادة احتمالات المواجهة النووية بين الدولتين، حتى إن صحيفة "الجارديان" البريطانية أكدت في أحد تقاريرها أن "بولتون" مارس ضغوطًا على "ترامب" من أجل الانسحاب من المعاهدة، ففي حالة إنهاء هذه الاتفاقية يصبح بإمكان الجانب الأمريكي تهديد العمق الروسي عبر نشر قواعد للصواريخ بالقرب من الحدود الروسية من دون اعتبار ذلك عملًا محظورًا.

2- احتواء التهديد الصيني: على الرغم من تحول هذه المعاهدة إلى متعددة الأطراف بعد تفكك الاتحاد السوفيتي؛ إلا أنها لا تلزم إلا الدول التي كانت تشكل جزءًا من الاتحاد السوفيتي، وبالتالي فإن القوى الصاعدة في النظام الدولي مثل الصين ليست ملزمة بهذه الاتفاقية. وفي هذا الإطار، ذكرت مجلة "الإيكونوميست" في أكتوبر الماضي "أن 95٪ من الصواريخ الصينية تندرج ضمن نطاق الصواريخ المحظورة في معاهدة الصواريخ المتوسطة". وفي هذا السياق، أشار الرئيس الأمريكي "ترامب" في أكتوبر 2018 إلى تخوفه من تطوير الصين قدراتها الصاروخية "إذا كانت روسيا تفعل ذلك، وإذا فعلت الصين ذلك، ونحن ملتزمون بالاتفاق، فهذا أمر غير مقبول"، وقد يصبح بإمكان الولايات المتحدة بعد التحرر من قيود هذه الاتفاقية التمدد شرقًا، وردع تطور الصين النووي في المحيط الهادي. وقد أشار تقرير نُشر بمجلة "ناشيونال إنترست" في أكتوبر الماضي إلى أن خروج واشنطن من الاتفاقية سيكون "كابوس الصين الجديد".

3- انتقادات الحزب الديمقراطي: يمكن اعتبار البعد الداخلي عاملًا مؤثرًا أيضًا، حيث جاء انتقاد الرئيس "ترامب" لاتفاقية الصواريخ واتهامه لروسيا بانتهاكها وإعلان نيته الانسحاب منها خلال تجمع للحملة الانتخابية للحزب الجمهوري في ولاية نيفادا قبل 20 يومًا على موعد انتخابات التجديد النصفي، ومن ثمّ فإن "ترامب" يسعى لمواجهة انتقادات الحزب الديمقراطي لسياسته تجاه روسيا.

4- لوبي صناعة الأسلحة: تشير بعض التحليلات إلى تصاعد قوة لوبي صناعة الأسلحة في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي لا يناسبه انتشار وثبات اتفاقيات الحد من التسلح التي تُقلّص من حجم الطلب على شراء الأسلحة على الصعيدين المحلي والعالمي، وبما أن لهذا اللوبي تأثيرًا كبيرًا فإن الإدارات الأمريكية المتعاقبة كثيرًا ما تعمد إلى تضخيم التهديدات التي تواجهها لتبرير دورة عجلة التصنيع الحربي، إلى حد إثارة توترات والتدخل العسكري بأعذار واهية حسبما يشير بعض المحللين.

الحرب النووية المحدودة:

لن تقتصر تداعيات الانسحاب الأمريكي في حال حدوثه على الولايات المتحدة وروسيا فقط، فقد تمتد إلى الصعيدين الأوروبي والعالمي، وهو ما يمكن الإشارة إليه فيما يلي: 

1- تهديد الأمن الأوروبي: تُعد أوروبا المستفيد الأكبر من هذا الاتفاق، حيث كانت تنتشر على أراضيها فيما سبق مئات الرؤوس النووية، وفي حال تم إلغاء هذا الاتفاق فستعاود الصواريخ الأمريكية الظهور في دول مثل رومانيا وبولندا، وهو ما دفع المتحدثة الرسمية باسم المفوضية العليا للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي "مايا كوسيانتشيتش" إلى التصريح في أكتوبر 2018 بأن "الاتحاد الأوروبي يعتبر معاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى حجر زاوية الأمن الأوروبي".

كما أن الصواريخ الباليستية الموجهة من قاعدة دومباروفسكي في جنوبي روسيا بإمكانها ضرب غالبية العواصم الأوروبية، ومن الطبيعي أن تستهدف روسيا أي دولة ينطلق منها اعتداء أمريكي، مما سيُجبر بعض الدول الأوروبية على تحسين علاقاتها مع روسيا حفاظًا على أمنها، وهو ما سيؤدي إلى تحوّل الأوضاع لصالح روسيا المحاصرة أوروبيًّا بعد أزمة أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم.

2- عودة سباق التسلح: بعد خروج الولايات المتحدة من معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية عام 2002، وعدم الرغبة الأمريكية في تجديد اتفاقية ستارت التي تنتهي في عام 2021، والتصريح الأمريكي بالخروج من معاهدة الصواريخ المتوسطة؛ تكون بذلك كافة المعاهدات التي تحد من التسلح والتي أُبرمت لإنهاء الحرب الباردة قد ألغيت، وهو ما يعني عودة سباق التسلح من جديد. وفي هذا الإطار، صرحت "ماريا زاخاروفا" المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية "بأن الانسحاب الأمريكي يجعل العالم أكثر خطورة، وأن هذه الإجراءات سوف تجرّ مناطق بأكملها إلى سباق تسلح جديد"، وقد تكون لأمريكا مصلحة من وراء ذلك، خصوصًا أن أحد أهم أسباب انهيار الاتحاد السوفيتي يتمثل في الموازنات الضخمة التي كانت تُصرف لتمويل مشاريع التسلح خلال الحرب الباردة، وسوف يؤدي أي سباق تسلح جديد إلى إرهاق منافسي الولايات المتحدة الأمريكية اقتصاديًّا.

3- اتجاهات إعادة التفاوض: يبدو أن الرئيس "ترامب" يتبنى نظرية "مادمان"(Madman Theory) التي ارتبطت بشكل رئيسي بسياسات الرئيس "نيكسون" الخارجية، حيث قام بترسيخ اعتقاد لدى السوفيت بأنه غير عقلاني ومتقلب، وهو ما يجعل القادة الآخرين يتجنبون استفزازه خوفًا من أي رد فعل غير متوقع، وهو ما يتّبعه "ترامب"، حيث يعمد إلى التصعيد والوصول بالأمور إلى حافة الهاوية ومن ثم يفتح لخصومه فرصة للتفاوض وفقًا لشروط مناسبة له، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال تصريح "ترامب" في أكتوبر 2018: "أموالنا أكثر من أي أحد غيرنا.. سوف نقوم بزيادة الأسلحة النووية حتى تعود روسيا والصين إلى رشديهما، وحينها سنكون حكماء وسوف نتوقف، ولن نتوقف فحسب، بل سنخفض الكمية، سوف نفعل ذلك بسرور، لكنهما اليوم لا تلتزمان بالاتفاق"، ومن ثم يبدو أن "ترامب" يسعى للتصعيد لإيجاد اتفاق بديل توقّع عليه الصين أيضًا، حيث أشار في تصريح آخر إلى أن "الصين لا تدخل في الاتفاق، لكن يجب إدخالهم فيه".

ويخشى بعض المحللين من أن يؤدي التحلل من اتفاقيات التسلح إلى دورة من التصعيد التدريجي لن يتم السيطرة عليها إلى درجة تُفضي إلى اندلاع حرب نووية، وهو ما يعكسه تصريح وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" بأن "فرضية استحالة الحرب النووية التي قد تمت صياغتها في العهد السوفيتي السابق بالتعاون مع الولايات المتحدة تحتاج إلى تأكيد في الظروف الراهنة"، لا سيما مع تزايد التوترات بين روسيا وحلف شمال الأطلسي في أوكرانيا وبحر البلطيق، وإعلان الولايات المتحدة لعقيدتها النووية في مطلع عام 2018، والتي تنص على تطوير قدراتها النووية المنخفضة.

ويؤشر سعي الطرفين -الروسي والأمريكي- لتصنيع القنابل النووية التكتيكية ذات القوة المنخفضة إلى استعدادهما لاحتمالات وقوع "حرب نووية محدودة"، ويرفض بعض المحللين هذا المصطلح، إذ يرون أنه ليست هناك آليات عملية للتحكم بتحولها نحو حرب نووية شاملة، فيما يرى عدد آخر من المحللين أن التهديد باستخدام الأسلحة النووية التكتيكية يندرج ضمن إطار استراتيجية الردع الجديدة ((Escalate to De-Escalate أي التصعيد من أجل الردع.