أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

التوجه شرقاً:

أهداف زيارة وزير خارجية مالي إلى روسيا

23 نوفمبر، 2021


قام وزير الخارجية المالي، عبدالله ديوب، بزيارة رسمية إلى العاصمة الروسية، موسكو، في 10 نوفمبر 2021. وأشار وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، خلال المؤتمر المشترك الذي جمعه بنظيره المالي بأن موسكو وقعت عدد من اتفاقيات التعاون العسكري مع باماكو لمكافحة التهديدات الإرهابية التي تهدد مالي، مشيراً إلى التزام بلاده بتنفيذ هذه العقود وتقديم الدعم للسلطات المالية، فيما ألمح ديوب إلى الاتفاق على زيارة مرتقبة لوزير الخارجية الروسي إلى باماكو خلال الفترة المقبلة، مشيراً إلى وجود العديد من مجالات التعاون الاقتصادي التي يمكن أن تتعاون فيها بلاده مع روسيا.

تحولات المشهد في مالي

يمكن الإشارة إلى جملة من المتغيرات التي طرأت على المشهد في مالي خلال الأشهر الأخيرة، والتي مهدت الطريق أمام تعزيز التقارب مع موسكو، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

1- إخفاق فرنسا في تصفية الإرهاب: تدخلت فرنسا عسكرياً في مالي منذ يناير 2013 لمواجهة الجماعات الإرهابية التي هيمنت على شمال باماكو، وذلك من خلال عملية سيرفال التي تحولت بعد ذلك إلى عملية برخان، كما شكلت باريس مجموعة دول الساحل الخمس (G5)، بيد أن فرنسا فشلت في مكافحة الإرهاب في مالي، خاصة بعد امتداد النشاط الإرهابي ليشمل منطقة الساحل والصحراء كافة. 

2- بحث مالي عن حلفاء آخرين: سعت فرنسا لتقليص عدد قواتها المسلحة المنتشرة في منطقة الساحل من حوالي 5100 عنصر، إلى نحو 2500 – 3000 جندي بشكل تدريجي، وهو ما أدى إلى إثارة قلق العديد من دول المنطقة بشأن التداعيات الأمنية الخطيرة المحتملة جراء الفراغ الذي سيخلفه التراجع الفرنسي، وهو ما دفع بعضها إلى البحث عن بدائل أخرى للحيلولة دون حدوث فراغ أمني، وظهرت موسكو في هذا السياق كأحد البدائل الأكثر موثوقية.

3- الانخراط الروسي التدريجي: ظل الوجود الروسي في مالي محدوداً خلال السنوات الماضية في ظل الوجود الفرنسي هناك، حتى في ظل اتفاقية التعاون العسكري الأمنية التي وقعتها الحكومة المالية مع روسيا في 1994 والتي تمت إعادة مراجعتها في 2019، بيد أن الكرملين بدأ خلال السنوات الأخيرة الاعتماد على سياسية الانخراط التدريجي في مالي من خلال استقبال عناصر من الجيش المالي للتدريب في موسكو.

4- انقلابان خلال عام واحد: مثّل الانقلاب العسكري الذي شهدته مالي في اغسطس 2020، والذي أطاح بالرئيس، إبراهيم بوبكر كيتا، نقطة محورية في إطار تعزيز النفوذ الروسي في باماكو، فقد تصاعد نفوذ عناصر الجيش المالي القريبة من موسكو، وذلك بقيادة الجنرال، عاصمي جويتا، الذي أصبح نائباً للرئيس، قبل أن تشهد البلاد انقلاباً آخر في مايو 2021 بعد أن حاولت فرنسا الضغط على المكون المدني في السلطة الانتقالية لإبعاد بعض القيادات العسكرية المرتبطة بروسيا من الحكومة، مما أدى إلى الإطاحة بالرئيس الإنتقالي ورئيس حكومته، وتولي الجنرال جويتا رئاسة السلطة الإنتقالية. 

وفي أعقاب ذلك، كشفت وكالة رويترز في أغسطس 2021 عن وجود مباحثات تجريها السلطة الانتقالية في مالي مع شركة فاجنر الروسية لعقد اتفاق يتعلق بنشر عناصر من الشركة لدعم جهود الحكومة في مكافحة الإرهاب وتدريب الجيش المالي، وهو ما أثار غضب فرنسا وبقية الشركاء الأوروبيين، ودفعهم إلى التهديد بفرض عقوبات على مسؤولي باماكو حال إتمام هذا الاتفاق.

5- عقوبات لتأجيل الانتخابات المالية: أبلغت السلطات المالية رسمياً المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا "إكواس" أنه لا يمكن إجراء الانتخابات في موعدها المقرر في 27 فبراير المقبل، وهو ما أدى إلى فرض عقوبات عاجلة من إكواس على أعضاء المجلس العسكري الحاكم في باماكو، تشمل حظر السفر وتجميد الأصول المالية للسلطات الانتقالية، كما أعلن الاتحاد الأوروبي عن فرض عقوبات أيضاً على من وصفهم بمعرقلي الانتقال السياسي في مالي.

دوافع موسكو وباماكو  

في إطار التطورات الراهنة التي تشهدها مالي، يمكن توضيح دوافع كلا الطرفين، الروسي والمالي، لتعزيز التقارب بينهما على النحو التالي: 

1- مواجهة التهديدات الإرهابية المتفاقمة: تشهد مالي نشاطاً إرهابياً متصاعداً، وهو ما عبر عنه ديوب خلال زيارته لموسكو، حيث ألمح إلى أن الأوضاع الأمنية الصعبة التي تعانيها باماكو دفعتها لطلب مساعدة موسكو. في المقابل، أكد لافروف، أن بلاده سوف تعمل على دعم الحكومة المالية بالسبل المتاحة كافة وتزويدها بالأسلحة المطلوبة لمكافحة الجماعات الارهابية.

ويرتبط بهذه التحديات الأمنية إخلاء فرنسا ثلاث قواعد عسكرية في مالي وتسليمها للجيش المالي، إذ أخلت باريس قاعدة "كيدال" و"تيساليت" في أكتوبر الماضي، ومنتصف نوفمبر الجاري. ومن المنتظر أن تبدأ باريس خلال الفترة المقبلة في إخلاء القاعدة الثالثة "تمبكتو"، وهو ما ينذر بإمكانية استغلال الجماعات الارهابية لهذا الأمر لتوسيع نشاطهم ومحاولة السيطرة على شمال مالي، بما ينذر بعودة الحرب الاهلية مرة أخرى إلى البلاد.

2- استيعاب الضغوط الغربية لإجراء الانتخابات: تمارس الولايات المتحدة والقوى الأوروبية ضغوطاً متصاعدة على السلطات الراهنة في مالي للالتزام بإجراء الانتخابات في موعدها المقرر في فبراير 2022، من أجل تسليم السلطة لحكومة مدنية، وهو نفس الموقف الذي يتبناه الاتحاد الأفريقي والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إكواس" وغيرها من المنظمات الدولية. 

وفي هذا السياق تسعى السلطات الانتقالية إلى الاستعانة بموسكو لدعمها في مواجهة هذه الضغوطات، وعرقلة صدور أي قرار محتمل من مجلس الأمن يدين السلطات الانتقالية الحالية. وأبدت موسكو بالفعل دعمها لفكرة تأجيل الانتخابات في ظل الأوضاع الأمنية المتدهورة التي لا تسمح باجراء الانتخابات.

3- ضمان دعم موسكو للتفاوض مع الإرهابيين: يسعى الجنرال، عاصمي جويتا، لتدعيم وضعه الداخلي، قبل تحديد موعد للانتخابات. وقطع بالفعل أشواطاً في هذا الطريق، إذ تمكن من استمالة القوى السياسية والمجتمعية الفاعلة عبر تعيين رئيس تحالف حركة 5 يونيو، شوجيل كوكالا مايجا، رئيساً للحكومة، كما قام بتمثيل بعض الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني في الحكومة الحالية والبرلمان المؤقت.

ويسعى جويتا إلى الدخول في حوار مع بعض الجماعات الإرهابية لتحييد خطرها، إلى جانب مكافحة باقي الجماعات الإرهابية. وتستهدف مالي الحصول على دعم روسي للانفتاح على بعض الجماعات الإرهابية، وهي الخطوة التي لطالما رفضتها فرنسا، بيد أن موسكو يبدو أنها مستعدة لهذا الأمر.

4- تعزيز موسكو حضورها في الساحل: تتجه موسكو لاستغلال الفراغ المحتمل الذي ستتركه فرنسا، فضلاً عن تصاعد حدة الاحتقان الشعبي والرسمي ضد الوجود الفرنسي لتعزيز حضورها في مالي. وتعد الظروف الراهنة من خلال وجود عناصر في السلطة الانتقالية المالية، وفي مقدمتها الرئيس الانتقالي عاصمي جويتا، فرصة سانحة أمام موسكو لتوسيع نفوذها في مالي، وتعزيز أوراقها لأي مباحثات مستقبلية مع الغرب.

وعلى الرغم من إعلان وزير الخارجية المالية بأن زيارته إلى روسيا لم تشهد بحث قضية إنشاء قاعدة عسكرية روسية في مالي، فإنه لم ينف إمكانية الاتفاق حول هذه القاعدة مستقبلاً، خاصة أن هناك تقارير أشارت لوجود مباحثات جارية بين موسكو وباماكو تتعلق بإنشاء قاعدة عسكرية روسية هناك.

5- تعزيز الاستثمارات الروسية في مالي: تسعى روسيا للاستفادة من الثروات الطبيعية والمعدنية التي تزخر به القارة الأفريقية. ونظراً لما تمتلكه مالي من ثروات، مثل الذهب واليورانيوم والمنجنيز، تسعى موسكو إلى الاستفادة من هذه الموارد خاصة الذهب والمنجنيز، في ظل معاناة روسيا من نقص من هذا المعدن الصناعي المهم. 

كما أشارت عدة تقارير إلى وجود مساعٍ روسية لتعزيز استثماراتها في مالي في مجالات الطاقة والتكنولجيا الزراعية والاتصالات. ومن المتوقع أن تقوم رابطة الشراكة الاقتصادية المنبثقة عن منتدى سوتشي 2019 بزيارة مالي خلال الفترة المقبلة لتعزيز التعاون معها في عدة مجالات.

انعكاسات استراتيجية محتملة

في إطار المعطيات السابقة، هناك جملة من الدلالات المهمة التي تعكسها مؤشرات التقارب الروسي – المالي، والتي يمكن عرضها في العناصر التالية:

1- تعزيز النفوذ الروسي في غرب أفريقيا: ستمثل باماكو نقطة ارتكاز محورية تستطيع روسيا من خلالها التغلغل في الكثير من دول أفريقيا جنوب الصحراء وغرب أفريقيا. ومن ناحية أخرى، ونظراً لتصاعد التوتر في العلاقات الفرنسية – الجزائرية، وإغلاق الأخيرة مجالها الجوي أمام الطيران الفرنسي، وفي ظل العلاقات الاستراتيجة التي تربط الجزائر وروسيا، فيتوقع أن يكون هناك تنسيق مشترك بينهما بشأن تعزيز نفوذهما ومصالحهما في مالي ومنطقة الساحل والصحراء، لمحاولة تحجيم النفوذ الفرنسي هناك، مع إمكانية استخدم مالي كممر أمام توسيع النفوذ الروسي والجزائري نحو وسط وغرب القارة الأفريقية.

2- تكريس التنافس الغربي – الروسي: تسعى واشنطن لصياغة استراتيجية غربية جديدة لمواجهة النفوذ الروسي والصيني في المنطقة، والذي تجسد بوضوح خلال الجولة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي، أنطوني بلينكن، إلى القارة الأفريقية في 17 نوفمبر، وبالتالي ربما تشهد الفترة المقبلة تصاعداً في حدة التنافس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا بين الولايات المتحدة من جانب وروسيا من جانب آخر.

وفي الختام، تكشف المعطيات السابقة، عن تسارع وتيرة التقارب الروسي – المالي، وذلك لتحقيق هدف السلطات الانتقالية في مالي لتعزيز هيمنتها الداخلية، وضمان سيطرتها على المشهد الأمني في مواجهة الجماعات الإرهابية، مقابل سعي روسي لتوسيع نطاق توجدها في القارة الأفريقية، بيد أن هذه المساعي تصطدم بالأساس بمحاولات غربية لقطع الطريق أمام موسكو، وهي الجهود التي قد لا تنجح بالضرورة.