شهدت عدة مدن إيرانية مؤخراً احتجاجات شعبية بعد قرار الحكومة، في 15 نوفمبر الجاري، خفض الدعم المقدم للوقود، ورفع أسعار البنزين بأكثر من النصف إلى نحو 1500 تومان إيراني للتر الواحد (يبلغ سعر الدولار رسمياً 4200 تومان، فيما يبلغ في السوق غير الرسمية 11500 تومان). وبررت الحكومة خطوتها الأخيرة بتوجيه الوفورات المالية المنتظرة لصالح الفقراء. ولكن بخلاف ذلك، لا شك أن القرار جاء مدفوعاً برغبة الحكومة في التخفيف من حدة الأعباء المالية التي تعاني منها في الأشهر الماضية والناجمة عن العقوبات الاقتصادية الأمريكية، فضلاً عن الحد من تهريب الوقود للدول المجاورة مثل باكستان وأفغانستان. إلا أنه كان لافتاً أن القرار الأخير لم يحظ بقبول ليس فقط من المواطنين وإنما أيضاً من بعض الأوساط السياسية، بما قد يدفع الحكومة نحو إعادة صياغته لاحتواء تصاعد الاحتجاجات الشعبية.
خطوة مفاجئة:
اتخذت الحكومة، في 15 نوفمبر الجاري، قراراً مفاجئاً بخفض الدعم المقدم للمواطنين لشراء الوقود، حيث تم تخصيص حصة من البنزين للسيارات بواقع 60 لتراً شهرياً بسعر 1500 تومان مقابل ألف تومان في السابق، على أن يتضاعف السعر إلى 3000 تومان إذا ما تجاوز الحد المسموح من الاستهلاك، فيما تم تحديد سعر البنزين "السوبر" بواقع 3500 تومان للتر الواحد.
وعلى الرغم من أن السعر الجديد لا يزال رخيصاً مقارنة بالأسعار العالمية، إلا أن الزيادة الجديدة أثارت كثيراً من الانتقادات داخل الأوساط السياسية والاقتصادية بسبب ما يعانيه المواطنون بالأساس من ارتفاع أعباء المعيشة نتيجة العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على طهران منذ أغسطس ونوفمبر 2018.
وفي السنوات الماضية، حاولت الحكومة تمرير خطتها لتقليص دعم الوقود، بيد أن خشيتها من اندلاع احتجاجات شعبية دفعتها لتأجيل هذا القرار عدة مرات، فضلاً عن رفض البرلمان لتلك الخطة. ففي مايو 2019، عارض مجلس الشورى رفع أسعار الوقود على الرغم من الأزمة المالية التي تواجهها البلاد، وقال على لاريجاني رئيس المجلس: "مجلس الشورى قرر رفض رفع أسعار البنزين...الطريقة الوحيدة لتقليل تهريب الوقود هى تقنين المنتج"، في إشارة، على ما يبدو، لوضع حصص لشراء البنزين.
ورغم المعارضة البرلمانية للخطوة الأخيرة، إلا أن الرئيس حسن روحاني دافع عنها باعتبارها تصب في مصلحة الفقراء، وقال على هامش اجتماع مع الوزراء، في 15 نوفمبر الجاري، أنه "كانت هناك خطط لزيادة سعر البنزين خمسة أضعاف... لكن تم رفضها". وعلى هذا النحو، يبدو أن القرار الأخير لا يحظى بدعم سياسي واسع لاسيما مع بعض الترجيحات التي تشير إلى أن مجلس تشخيص مصلحة النظام لم يوافق على تمرير القرار.
مبررات عديدة:
تتعرض إيران لضغوط اقتصادية ومالية واسعة منذ تطبيق العقوبات الاقتصادية الأمريكية عليها في أغسطس ونوفمبر 2018، حيث فقدت حوالي 60 مليار دولار من عائدات النفط التي كانت تشكل ما يتراوح بين 40 إلى 60% من الموازنة العامة الحكومية سنوياً. وعلى ضوء ذلك، تحاول الحكومة ترشيد نفقاتها الجارية لتقليص العجز المتزايد في الموازنة العامة في العامين الحالي والمقبل.
وطبقاً لبيانات الوكالة الدولية للطاقة، خصصت إيران في عام 2018 ما نحوه 69 مليار دولار لدعم منتجات الوقود بما فيها النفط والغاز بجانب الكهرباء شكلت قرابة 15% من الناتج المحلي. واستحوذ النفط وحده على 25.6 مليار دولار من المخصصات، أى قرابة 38.4% من الدعم الكلي للوقود.
وتحت وطأة الأعباء المالية المتزايدة، تسعى الحكومة لتقليص دعم الوقود من أجل تخصيص مزيد من الموارد المالية لصالح توفير الغذاء والدواء والسلع الأساسية الأخرى، بحسب ما أكد عليه الرئيس روحاني في حديثه حول مبررات اتخاذ القرار في منتصف الشهر الجاري.
وتتوافق الخطوة السابقة مع توجهات الحكومة لتقليص مخصصات منظومة الإعانات المالية المقدمة للمواطنين. وبموجب قانون الإعانات لعام 2010، يتلقى المواطن إعانة مالية قدرها 4 دولار شهرياً بدلاً من إلغاء الوقود والغذاء، بيد أنها قررت في الأشهر الماضية حذف 1.1 مليون شخص تحت دعوى أنهم لا يستحقون هذه الإعانات لارتفاع مستوى دخولهم، كما تخطط بشكل أوسع لحذف 24 مليون آخرين بنهاية العام المالي "الإيراني" في مارس 2021.
وهناك سبب آخر ربما دفع طهران لاتخاذ خطوة تقليص الدعم الوقود ويتمثل في رغبة الحكومة في الحد من تهريب الوقود للدول المجاورة مثل باكستان وأفغانستان، حيث يتم بيعه في السوقين بسعر أعلى، في وقت لا تستطيع السيطرة على التجار المهربين رغم الإجراءات الأمنية المكثفة للحد من ظاهرة التهريب في الفترة الماضية.
تجميد أم استئناف؟:
تسبب القرار الأخير بخفض دعم الوقود في اندلاع احتجاجات شعبية واسعة في عدد من المدن، حيث يتخوف المواطنون بشدة من أن يؤدي هذا القرار إلى موجة واسعة من ارتفاع أسعار السلع والخدمات في البلاد، في وقت تخطى معدل التضخم حاجز الـ40% بسبب العقوبات الأمريكية. وبحسب المركز الإحصائي الإيراني، فقد بلغ معدل التضخم في فترة الإثنى عشر شهراً المنتهية في 22 أكتوبر الماضي 42% على أساس سنوي مع ارتفاع التضخم في المناطق الريفية.
وفي الوقت نفسه، لم يحظ القرار الأخير بقبول واسع داخل الأوساط السياسية، لاسيما من قبل بعض الشخصيات المحسوبة على تيار المحافظين الأصوليين ورجال الدين الذين طالبوا بالتراجع عن القرار في مسعى منهم، على ما يبدو، لكسب التأييد الشعبي على حساب تيار المعتدلين قبل إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في عامى 2020 و2021.
وتحت وطأة الضغوط الشعبية والسياسية القائمة، ربما تضطر الحكومة لإعادة صياغة قرارها الأخير بتقليص دعم الوقود عن طريق خفض مستوى الزيادة الجديدة المقررة وليس إلغائها نهائياً وذلك في مسعى يوازن بين هدفى احتواء الاحتجاجات الشعبية وتخفيف الأعباء المالية في ظل العقوبات الاقتصادية الأمريكية.
وعلى جانب آخر، من المؤكد أن استمرار تصاعد موجات الاحتجاجات الشعبية في البلاد بسبب سوء الأحوال المعيشية سوف يدفع إيران، في الغالب، إلى انتظار الوقت المناسب لإجراء مفاوضات جديدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها والتخفيف من الضغوط الاقتصادية التي تعاني منها.